فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

في قوله: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} وجوه:
الأول: قال الزجاج: موضع {مِنْ} خفض على البدل من {الناس} والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت.
الثاني: قال الفرّاء إن نويت الاستئناف بمن كانت شرطًا وأسقط الجزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير من استطاع إلى الحج سبيلًا فلله عليه حج البيت.
الثالث: قال ابن الأنباري: يجوز أن يكون {مِنْ} في موضع رفع على معنى الترجمة للناس، كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل هم من استطاع إليه سبيلًا. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
اتفق الأكثرون على أن الزاد والراحلة شرطان لحصول الاستطاعة، روى جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسّر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة، وروى القفال عن جويبر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شابًا صحيحًا ليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا بل ينطلق إليه ولو حبوًا، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت، عن عكرمة أيضا أنه قال: الاستطاعة هي صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه.
واعلم أن كل من كان صحيح البدن قادرًا على المشي إذا لم يجد ما يركب فإنه يصدق عليه أنه يستطيع لذلك الفعل، فتخصيص هذه الاستطاعة بالزاد والراحلة ترك لظاهر اللفظ فلابد فيه من دليل منفصل، ولا يمكن التعويل في ذلك على الأخبار المروية في هذا الباب لأنها أخبار آحاد فلا يترك لأجلها ظاهر الكتاب لاسيما وقد طعن محمد بن جرير الطبري في رواة تلك الأخبار، وطعن فيها من وجه آخر، وهو أن حصول الزاد والراحلة لا يكفي في حصول الاستطاعة، فإنه يعتبر في حصول الاستطاعة صحة البدن وعدم الخوف في الطريق، وظاهر هذه الأخبار يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك معتبرًا، فصارت هذه الأخبار مطعونًا فيها من هذا الوجه بل يجب أن يعول في ذلك على ظاهر قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ في الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185]. اهـ.

.قال القرطبي:

ودلّ الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور؛ وهو تحصيل مذهب مالكٍ فيما ذكر ابن خُوَيزِ مَنْدَاد، وهو قول الشافعيّ ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه.
وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه؛ وهو قول داود.
والصحيح الأوّل؛ لأن الله تعالى قال في سور الحج: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالًا} [الحج: 27] وسورة الحج مكية.
وقال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} الآية.
وهذه السورة نزل عام أحُد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر.
أما السُّنّة: فحديثِ ضمام بن ثعلبة السعديّ من بني سعد بن بكر قِدم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصَّلاة والزكاة والصيام والحج.
رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضًا، وحديث أنس أحسُنها سياقًا وأتَمُّها.
واختلف في وقت قدومه؛ فقيل: سنة خمس.
وقيل: سنة سبع.
وقيل: سنة تسع؛ ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخَنْدَق بعد انصراف الأحْزَاب.
قال ابن عبد البر: ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسِيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوامٍ من حين استطاعته فقد أدّى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصَّلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه، ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يُقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته: أنت قاضٍ لِما وجب عليك؛ علِمنا أن وقت الحج مُوسَّع فيه وأنه على التراخي لا على الفور.
قال أبو عمر: كل من قال بالتراخي لا يَحُدُّ في ذلك حدًا؛ إلاَّ ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل يجد ما يحج فيه فيؤخِّر ذلك إلى سنين كثيرةٍ مع قدرته على ذلك هل يُفَسَّق بتأخيره الحجّ وتُردّ شهادتُه؟ قال: لا وإن مضى من عمره ستون سنة، فإذا زاد على الستين فُسّق وردّت شهادته.
وهذا توقيف وحَدّ، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلاَّ عمن له أن يشَرِّع.
قلت: وحكاه ابن خويزِمنداد عن ابن القاسم.
قال ابن القاسم وغيره: إنْ أخره ستين سنة لم يُحَرَّج، وإن أخره بعد الستين حُرِّج؛ لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها» فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب.
قال أبو عمر: وقد احتج بعض الناس (كسحنون) بقوله صلى الله عليه وسلم: «معترك أمّتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك» ولا حجة فيه؛ لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمّته لو صحّ الحديث.
وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضا، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف. وبالله التوفيق. اهـ.

.قال الفخر:

احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع قالوا لأن ظاهر قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعم المؤمن والكافر وعدم الإيمان لا يصلح معارضًا ومخصصًا لهذا العموم، لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط صحة الإيمان بمحمد عليه السلام غير حاصل والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة غير حاصل، فلم يكن عدم الشرط مانعًا من كونه مكلفًا بالمشروط، فكذا هاهنا والله أعلم. اهـ.

.قال القرطبي:

أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} عام في جميعهم مسترسل على جملتهم.
قال ابن العربيّ: وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بَيْدَ أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرِهم وأنثاهم، خلا الصغيرِ فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، وكذلك العبد لم يدخل فيه؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى في التمام: {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} والعبد غيرُ مستطيع؛ لأن السيِّد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة.
وقد قدّم الله سبحانه حقَّ السيّد على حقه رِفقًا بالعباد ومصلحةً لهم.
ولا خلاف فيه بين الأمّة ولا بين الأئمة، فلا نَهْرِف بما لا نعرِف، ولا دليل عليه إلاَّ الإجماعُ.
قال ابن المنذر: أجمع عامّة أهل العلم إلاَّ من شَذّ منهم ممن لا يعدّ خلافًا، على أن الصبيّ إذا حَجّ في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رِقّه، ثم بلغ الصبي وعَتَق العبد إنّ عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلًا.
وقال أبو عمر: خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمّة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلًا} بدليل عدم التصرف، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده؛ كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9] الآية عند عامّة العلماء إلاَّ من شذّ.
وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة، قال الله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهداء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282] فلم يدخل في ذلك العبدُ.
وكما جاز خروج الصبيّ من قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه.
وخرجت المرأة من قوله: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ} وهي ممّن شَمِله اسم الإيمان، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور.
وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب.
فإن قيل: إذا كان حاضَر المسجد الحرام وأذِن له سيدُه فلِمَ لا يلزمه الحج؟ قيل له: هذا سؤال على الإجماع وربما لا يُعلّل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يُعتدّ بحجّه في حال الرِّقّ عن حجة الإسلام؛ وقد روي عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيّما صبيّ حجّ ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أُخرى وأيّما أعرابيّ حجّ ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى» قال ابن العربيّ.
وقد تساهل بعض علمائنا فقال: إنما لم يثبت الحج على العبد وإن إذِن له السيد لأنه كان كافرًا في الأصل ولم يكن حَجُّ الكافر معتدًّا به، فلما ضُرب عليه الرقّ ضربًا مؤبَّدًا لم يخاطب بالحج؛ وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه: أحدها أن الكفار عندنا مُخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلاف فيه في قول مالك.
الثاني أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقًا، ولو فعلها في حال كفره لم يعتدّ بها، فوجب أن يكون الحج مثلها.
الثالث أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه.
فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدّم حقوق السيد. والله الموفق. اهـ.

.قال الفخر:

احتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن الاستطاعة قبل الفعل، فقالوا: لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج مستطيعًا للحج، ومن لم يكن مستطيعًا للحج لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية فيلزم أن كل من لم يحج أن لا يصير مأمورًا بالحج بسبب هذه الآية وذلك باطل بالاتفاق.
أجاب الأصحاب بأن هذا أيضا لازم لهم، وذلك لأن القادر إما أن يصير مأمورًا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل أو بعد حصوله أما قبل حصول الداعي فمحال، لأن قبل حصول الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليف ما لا يطاق، وأما بعد حصول الداعي فالفعل يصير واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدة، وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف المذكور في هذه الآية على أحد. اهـ.

.كلام نفيس الألوسي في هذا الموضع:

قال عليه الرحمة:
والحق عندي في هذه المسألة أن شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة بإذن الله تعالى عند انضمام الإرادة التابعة لإرادة الله تعالى لقوله سبحانه: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وأيضاحه أنه تعالى كما أنه غني بالذات عن العالمين كذلك حكيم جواد وكما أن غناه الذاتي أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد كذلك مقتضى جوده ورحمته مراعاة ما اقتضته حكمته سبحانه كما أشار إليه العضد في عيون الجواهر، وأطال الكلام فيه أبو عبد الله الدمشقي في شفاء العليل.
ومن المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال وينهى عنه من لا يقدر على الاجتناب فلابد بمقتضى الحكمة التي رعاها سبحانه فيما خلق وأمر فضلًا ورحمة أن يكون التكليف بحسب الوسع وإذا كان كذلك كان شرط التكليف هو القوة التي تصير مؤثرة إذا انضم إليها الإرادة وهذه قبل الفعل، والقدرة التي هي مع الفعل هي القدرة المستجمعة لشرائط التأثير التي من جملتها انضمام الإرادة إليها، وبهذا جمع الإمام الرازي كما في المواقف بين مذهب الأشعري القائل بأن القدرة مع الفعل، والمعتزلة القائلين بأنها قبله، وقال: لعل الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة لشرائط التأثير فلذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين، والمعتزلة أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها بالأمور المتضادة وهو جمع صحيح، وقول السيد قدس سره في توجيه البحث الذي ذكره صاحب المواقف فيه بأن القدرة الحادثة ليست مؤثرة عند الشيخ فكيف يصح أن يقال: أنه أراد بالقدرة والقوة المستجمعة لشرائط التأثير مدفوع بما تبين في الإبانة التي هي آخر مصنفاته.
والمعتمد من كتبه كما صرح به ابن عساكر والمجد ابن تيمية وغيرهما أن الشيخ قائل بالتأثير للقدرة المستجمعة للشرائط لكن لا استقلالًا كما يقوله المعتزلة بل بإذن الله تعالى وهو معنى الكسب عنده، وأما قوله في شرح المواقف: إن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله تعالى وحدها ليس لقدرتهم تأثير فيها بل الله تعالى أجرى عادته بأن يوجد في العبد قدرة واختيارًا فإذا لم يكن هناك مانع أوجد فيه فعله المقدور مقارنًا لهما فيكون فعل العبد مخلوقًا لله تعالى إبداعًا وإحداثًا ومكسوبًا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته من غير أن يكون هناك منه تأثير ومدخل في وجوده سوى كونه محلًا له، وهو مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري، ففيه بحث من وجوه:
أما أولًا: فلأن هذا ليس مذهب الشيخ المذكور في آخر تصانيفه التي استقر عليها الاعتماد وذكره في غيره إن سلم لا يعول عليه لكونه مرجوحًا مرجوعًا عنه وأما ثانيًا: فلأن التكليف في صرائح الكتاب والسنة إنما تعلق أمرًا أو نهيًا بالأفعال الاختيارية أنفسها لا بمقارنة القدرة والإرادة لها فمكسوب العبد نفس الفعل الاختياري، والمراد بكسبه إياه تحصيله إياه بتأثير قدرته بإذن الله تعالى لا مستقلًا، فالقول بأن المراد بكسب العبد للفعل هو مقارنة الفعل لقدرته وإرادته من غير تأثير لا يوافق ما اقتضاه صرائح الكتاب والسنة ونصوص الإبانة، ويزيده وضوحًا حديث أبي هريرة: أنه لما نزل: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله} [البقرة: 284] اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب فقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها... الحديث.
فإنه صريح بأن الذي كلفوا به ما يطيقونه من نفس الأعمال وهو نفس الصلاة وأخواتها لا مقارنتها لقدرتهم وإرادتهم وأقرهم صلى الله عليه وسلم على ذلك وأما ثالثًا: فلأن مقارنة الفعل لقدرة العبد وإرادته لو كانت هي الكسب لكانت هي المكلف بها ولو كانت كذلك لكان التكليف بما لا يطاق واقعًا لأن المقارنة أمر يترتب على فعل الله تعالى أي على إيجاد الله تعالى الفعل الاختياري مقارنًا لهما وما يترتب على فعل الله تعالى ليس مقدورًا للعبد أصلًا لأن معنى كون الشيء مقدورًا له أن يكون ممكن الإيقاع بقدرته عند تعلق مشيئته به الموافقة لمشيئة الله تعالى كما هو واضح من حديث: «من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه» وما يترتب على فعل الله تعالى لا يكون مقدورًا للعبد بهذا المعنى إذ لو كان مقدورًا له ابتداءًا لزم أن لا يكون مترتبًا على فعل الله تعالى أو بواسطة لزم أن يكون فعل الله تعالى المترتب عليه هذا مقدورًا للعبد واللازم باطل بشقيه بعد القول بنفي التأثير أصلًا فكذا الملزوم وأما رابعًا: فلأن المقارنة لكونها مترتبة على فعل الله تعالى لا تختلف بالنسبة إلى العبد صعوبة وسهولة فلو كانت هي المكلف بها لاستوى بالنسبة إلى العبد التكليف بأشق الأعمال والتكليف بأسهلها مع أن نص الكتاب التكليف بحسب الوسع ونص السنة أن المملوك لا يكلف إلا ما يطيق شاهدان على التفاوت كما أن البديهة تشهد بذلك، واعترض هذا من وجوه الأول: أن القول بأن من المعلوم أن الحكمة لا تقتضي أن يؤمر بالفعل من لا يقدر على الامتثال يقتضي أن أفعال الله تعالى وأحكامه لابد فيها من حكمة ومصلحة وهو مسلم لكن لا نسلم أنه لابد أن تظهر هذه المصلحة لنا إذ الحكيم لا يلزمه اطلاع من دونه على وجه الحقيقة كما قاله القفال في محاسن الشريعة وحينئذٍ فما المانع من أن يقال هناك مصلحة لم نطلع عليها، ويجاب بأنا لم ندع سوى أن الله تعالى قد راعى الحكمة فيما أمر وخلق تفضلًا ورحمة لا وجوبًا وهذا ثابت بقوله تعالى: {صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَئ} [النمل: 88] وقوله سبحانه: {أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ} [السجدة: 7] وبالإجماع المعصوم عن الخطأ بفضل الله تعالى وإن مقتضى الحكمة أن لا يطلب حصول شيء إلا ممن يتمكن منه ويقدر عليه كما تشهد له النصوص ولم ندع وجوب ظهور وجه الحكمة في جميع أفعاله وأحكامه ولا ما يستلزم ذلك وبيان وجه الحكمة لحكم واحد لا يستلزم دعوى الكلية ويؤول هذا إلى أن الله تعالى أطلعنا على الحكمة في هذا مع عدم وجوب الاطلاع عليه.