فصل: من فوائد القاسمي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القاسمي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} أي: لنسكهم وعباداتهم: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} أي: للبيت الذي ببكة، أي: فيها. وفي ترك الموصوف من التفخيم ما لا يخفى. وبكة لغة في مكة، فإن العرب تعاقب بين الباء والميم كما في قولهم: ضربة لازب ولازم، والنميط والنبيط في اسم موضع بالدهناء، وقولهم أمر راتب وراتم وأغبطت الحمى وأغمطت. وقيل: مكة البلد، وبكة موضع المسجد، سميت بذلك: لدقها أعناق الجبابرة، فلم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى، أو لازدحام الناس بها من بكَّهُ إذا فرقه ووضعه وإذا زاحمه، كما أن مكة من مكّهُ: أهلكه ونقصه؛ لأنها تهلك من ظلم فيها وألحد، وتنقص الذنوب أو تنفيها كما في القاموس- وقد ذهب بعضهم إلى أن مكة هي ميشا أو ماسا المذكورة في التوراة، وآخر إلى أنه مأخوذ من اسم واحد من أولاد إسماعيل وهو مسّا {مُبَارَكًا} أي: كثير الخير، لما يحصل لمن حجه واعتمره واعتكف عنده وطاف حوله، من الثواب وتكفير الذنوب: {وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} لأنه قبلتهم ومتعبدهم.
تنبيه:
ذكر بعض المفسرين أن المراد بالأولية كونه أولًا في الوضع والبناء، ورووا في ذلك آثارًا، منها أنه تعالى خلق هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرضين، ومنها: أنه تعالى بعث ملائكة لبناء بيت في الأرض على مثال البيت المعمور، وذلك قبل خلق آدم، ومنها: أنه أول بيت وضع على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، وأنه خلق قبل الأرض بألفي عام. وليس في هذه الآثار خبر صحيح يعول عليه. والمتعين أن المراد: أول بيت وضع مسجدًا، كما بينته رواية ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه في هذه الآية قال: كانت البيوت قبله، ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله تعالى. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي: مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام» قلت: ثم أي:؟ قال: «المسجد الأقصى» قلت: كم كان بينهما؟ قال: «أربعون سنة، ثم أينما أدركتك الصلاة بعدُ فصلّه، فإن الفضل فيه».
قال ابن القيم في زاد المعاد: وقد أشكل هذا الحديث على من لم يعرف المراد به، فقال: معلوم أن سليمان بن داود الذي بنى المسجد الأقصى. وبينه وبين إبراهيم أكثر من ألف عام. وهذا من جهل القائل، فإن سليمان إنما كان له من المسجد الأقصى تجديده لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاق صلى الله عليهما وسلم، بعد بناء إبراهيم عليه السلام بهذا المقدار. انتهى.
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وهو الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت.
قال ابن كثير: وقد كان ملتصقًا بجدار البيت، حتى أخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطواف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده، حيث قال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]، وتقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة. قال المفسرين: ثمرة الآية: الترغيب في زيارة البعض الحرم وفعل الطاعات فيه، لأنه تعالى وصفة بالبركة والهدى وجعل فيه آيات بينات.
لطيفة:
مقام إبراهيم مبتدأ حذف خبره، أي: منها مقام إبراهيم، أو بدل من آيات، بدل البعض من الكل، أو عطف بيان، إما وحده باعتبار كونه بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، وعلى نبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} أو باعتبار اشتماله على آيات كثيرة. قالوا: فإن كل واحد من أثر قدميه في صخرة صماء، وغوصه فيها إلى الكعبين، وإلانة بعض الصخور دون بعض، وإبقاءه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام، وحفظه، مع كثرة الأعداء، ألوف السنين، آية مستقلة. ويؤيده قراءة آية بينة على التوحيد، وإما بما يفهم من قوله عز وجل: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} فإنه وإن كان جملة مستأنفة ابتدائية أو شرطية، لكنها في قوة أن يقال: وأمن من دخله فتكون بحسب المعنى والمآل، معطوفة على مقام إبراهيم، ولا يخفى أن الاثنين نوع من الجمع فيكتفى بذلك، أو يحمل على أنه ذكر من تلك الآيات اثنتان، وطوى ذكر ما عداهما دلالة على كثرتها- أفاده أبو السعود-. قال المهايمي: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} رمي الطير أصحاب الفيل بحجارة من سجيل، وتعجيل عقوبة من عتا فيه، وإجابة دعاء من دعاء تحت ميزابه، وإذعان النفوس لتوقيره من غير زاجر، ومن أعظمها: النازل منزلة الكل، مقام إبراهيم، الحجر الذي قام عليه عند رفعه قواعد البيت، كلما علا الجدار ارتفع الحجر في الهواء، ثم لين، فغرقت فيه قدماه، كأنهما في طين، فبقي أثره إلى يوم القيامة. ومن آياته: أن من دخله كان آمنًا من نهب العرب وقتالهم، وقد أمن صيده وأشجاره. قال أبو السعود: ومعنى أمن داخله: أمنه من التعرض له كما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا} [إبراهيم: 35]، وكان الرجل لو جرَّ كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يُطلب.
وعن عمر رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى خرج عنه.
تنبيه:
ما أفادته الآية من إثبات الأمان لداخله إنما هو بتحريمه الشرعيّ الذي وردت به الآيات، وأوضحته الأحاديث والآثار. ففي الصحيحين، واللفظ لمسلم، عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: «لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا». وقال يوم فتح مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته، إلا من عرفها، ولا يختلى خلاها». فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: «إلا الإذخر». ولهما عن أبي هريرة مثله أو نحوه؛ ولهما، واللفظ مسلم أيضا، عن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد، وهو يبعث البعوث إلى مكة: ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولًا قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي، حين تكلم به، أنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرمها الله، ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له: إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب». فقيل لأبي شريح: ما قال لك؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح. إن الحرم لا يعيذ عاصيًا، ولا فارًّا بدمٍ، ولا فارًا بخربةٍ.
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: قوله فلا يحل لأحد أن يسفك بها دمًا، هذا التحريم لسفك الدم المختص بها، وهو الذي يباح في غيرها، ويحرم فيها، لكونها حرمًا، كما أن تحريم عضد الشجرة بها واختلاء خلائها والتقاط لقطتها، هو أمر مختص بها، وهو مباح في غيرها، إذ الجميع في كلام واحد، ونظام واحد، وإلا بطلت فائدة التخصيص، وهذا أنواع:
أحدها: وهو الذي ساقه أبو شريح العدوي لأجله: أن الطائفة الممتنعة بها من مبايعة الإمام لا تقاتل، لاسيما إن كان لها تأويل. كما امتنع أهل مكة من مبايعة يزيد، وبايعوا ابن الزبير. فلم يكن قتالهم ونصب المنجنيق عليهم وإحلال حرم الله جائزًا بالنص والإجماع، وإنما خالف في ذلك عَمْرو بن سعيد الفاسق وشيعته، وعارض نص رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيه وهواه فقال: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا. فيقال له: هو لا يعيذ عاصيًا من عذاب الله، ولو لم يُعذّه من سفك دمه لم يكن حرمًا بالنسبة إلى الآدميين، وكان حرمًا بالنسبة إلى الطير والحيوان البهيم، وهو لم يزل يعيذ العصاة من عهد إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه، وقام الإسلام على ذلك، وإنما لم يعد مقيس بن صُبابة وابن خطل ومن سمي معهما؛ لأنه في تلك الساعة لم يكن حرمًا بل حلًا، فلما انقضت ساعة الحرب عاد إلى ما وضع عليه يوم خلق الله السموات والأرض. وكانت العرب في جاهليتها، يرى الرجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم فلا يهيجه، وكان ذلك بينهم خاصة الحرم الذي صار بها حرمًا. ثم جاء الإسلام فأكد ذلك وقواه، وعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن من الأمة من يتأسى به في إحلاله بالقتال والقتل، فقطع الإلحاق وقال لأصحابه: «فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لك»، وعلى هذا فمن أتى حدًا أو قصاصًا خارج الحرم يوجب القتل، ثم لجأ إليه، لم يجز إقامته عليه فيه. وذكر الإمام أحمد عن عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وذكر عن عبد الله بن عُمَر أنه قال: لو وجدت فيه قاتل عمر ما بدهته.
وعن ابن عباس أنه قال: لو لقيت قاتل أبي في الحرم ما هجته حتى يخرج منه، وهذا قول جمهور التابعين ومن بعدهم، بل لا يحفظ عن تابعيّ ولا صحابيّ خلافه. وإليه ذهب أبو حنيفة رحمه الله ومن وافقه من أهل العراق، والإمام أحمد ومن وافقه من أهل الحديث. وذهب مالك والشافعي إلى أنه يستوفي منه في الحرم كما يستوفي منه في الحل، وهو اختيار ابن المنذر، واحتج لهذا القول بعموم النصوص الدالة على استيفاء الحدود والقصاص في كل مكان وزمان، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة، وبما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بدم ولا بخربة». وبأنه لو كان الحدود والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم، ولم يمنعه من إقامته عليه، وبأنه لو أتى فيه بما يوجب حدًا أو قصاصًا لم يعذه الحرم ولم يمنع من إقامته، فكذلك إذا أتاه خارجه ثم لجأ إليه، إذ كونه حرمًا بالنسبة إلى عصمته لا يختلف بين الأمرين، وبأنه حيوان أبيح قتله لفساده، فلم يفترق الحال بين قتله لاجئًا إلى الحرم وبين كونه قد أوجب ما أبيح قتله فيه، كالحية والحدأة والكلب العقور، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم». فنبه بقتلهن في الحل والحرم على العلة- وهي فسقهن- ولم يجعل التجاءهن إلى الحرم مانعًا من قتلهن، وكذلك فاسق بني آدم الذي قد استوجب القتل. قال الأولون: ليس في هذا ما يعارض ما ذكرنا من الأدلة، ولاسيما قوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وهذا إما خبر بمعنى الأمر لاستحالة الخلف في خبره تعالى، وإما خبر عن شرعه ودينه الذي شرعه في حرمه، وإما إخبار عن الأمر المعهود المستمر في حرمه في الجاهلية والإسلام كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]. وقوله تعالى: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:
57].
وما عدا هذا من الأقوال الباطلة فلا يلتفت إليه كقول بعضهم: من دخله كان آمنًا من النار، وقول بعضهم: كان آمنًا من الموت على غير الإسلام، ونحو ذلك، فكم ممن دخله وهو في قعر الجحيم. وأما العمومات الدالة على استيفاء الحدود القصاص في كل زمان ومكان فيقال أولًا: لا تعرض في تلك العمومات لزمان الاستيفاء ولا مكانه، كما لا تعرض فيها لشروطه وعدم موانعه، فإن اللفظ لا يدل عليها بوضعه، ولا بتضمنه فهو مطلق بالنسبة إليها، ولهذا إذا كان للحكم شرط أو مانع لم يقل إن توقف الحكم عليه تخصيص لذلك العام، فلا يقول محصِّلٌ إن قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. مخصوص بالمنكوحة في عدتها أو بغير إذن وليها، أو بغير شهود، فهكذا النصوص العامة في استيفاء الحدود والقصاص لا تعرض فيها لزمنه ولا مكانه ولا شرطه ولا مانعه، ولو قدر تناول اللفظ لذلك لوجب تخصيصه بالأدلة الدالة على المنع، لئلا يبطل موجبها، ووجب حمل اللفظ العام على ما عداها كسائر نظائره، وإذا خصصتم تلك العمومات بالحامل والمرضع والمريض الذي يرجى برؤه، والحال المحرّمة للاستيفاء كشدة المرض أو البرد أوالحر، فما المانع من تخصيصها بهذه الأدلة؟ وإن قلتم: ليس ذلك تخصيصًا بل تقييدًا لمطلقها كلنا لكم هذا الصاع سواء بسواء. وأما قتل ابن خطل فقد تقدم أنه كان في وقت الحل، وإن النبي صلى الله عليه وسلم قطع الإلحاق، ونص على أن ذلك من خصائصه، وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما أحلت لي ساعة من نهار»، صريح في أنه إنما أحل له سفك دم حلال في غير الحرم في تلك الساعة خاصة، إذ لو كان حلالًا في كل وقت، لم يختص بتلك الساعة، وهذا صريح في أن الدم الحلال في غيرها حرام فيها، فيما عدا تلك الساعة. وأما قوله: الحرم لا يعيذ عاصيًا، فهو من كلام الفاسق عَمْرو بن سعيد الأشدق، يرد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين روى له أبو شريح الكعبي هذا الحديث، كما جاء مبينًا في الصحيح، فكيف يقدم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وأما قولكم: لو كان الحد والقصاص فيما دون النفس لم يعذه الحرم منه، فهذه المسألة فيها قولان للعلماء: وهما روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه الله، فمن منع الاستيفاء نظر إلى عموم الأدلة العاصمة بالنسبة إلى النفس وما دونها، ومن فرق قال: سفك الدم إما ينصرف إلى القتل ولا يلزم من تحريمه في الحرم تحريمه ما دونه، لأن حرمة النفس أعظم، والانتهاك بالقتل أشد، قالوا: ولأن الحد بالجلد أو القطع يجري مجرى التأديب، فلم يمنع منه، كتأديب السيد عبده. وظاهر هذا المذهب أنه لا فرق بين النفس ما دونها في ذلك. قال أبو بكر: هذه مسألة وجدتها لحنبل عن عمه: أن الحدود كلها تقام في الحرم إلا القتل، قال: والعمل على أن كل جانٍ دخل الحرم لم يقم عليه الحد حتى يخرج منه، قالوا: وحينئذ فنجيبكم بالجواب المركب، وهو أنه إن كان بين النفس وما دونها في ذلك فرق مؤثر بطل الإلزام، وإن لم يكن بينهما فرق مؤثر سوينا بينهما في الحكم وبطل الاعتراض، فتحقق بطلانه على التقديرين. قالوا: وأما قولكم إن الحرم لا يعيذ من هتك فيه الحرمة إذ أتى بما يوجب الحد، فكذلك اللاجئ إليه، فهو جمع بين ما فرق الله ورسوله والصحابة بينهما. فروى الإمام أحمد، حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: من سرق أو قتل في الحد ثم دخل الحرم فإنه لا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى، حتى يخرج فيؤخذ فيقام عليه الحد. وإن سرق أو قتل في الحرم أقيم عليه في الحرم. وذكر الأثرم عن ابن عباس أيضا: من أحدث حدثًا في الحرم، أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، وقد أمر الله سبحانه بقتل من قاتل في الحرم فقال: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ}. والفرق بين اللاجئ والمتهتك فيه من وجوه:
أحدها: أن الجاني فيه هاتك لحرمته بإقدامه على الجناية فيه، بخلاف من جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه معظّم لحرمته مستشعر بها بالتجائه إليه، فقياس أحدهما على الآخر باطل.