فصل: من فوائد صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثاني: أن الجاني فيه بمنزلة المفسد الجاني على بساط الملك في داره وحرمه، ومن جنى خارجه ثم لجأ إليه فإنه بمنزلة من جنى خارج بساط الملك وحرمه ثم دخل إلى حرمه مستجيرًا.
الثالث: أن الجاني في الحرم قد هتك حرمة الله سبحانه وحرمة بيته وحرمه، فهو هاتك لحرمتين بخلاف غيره.
الرابع: أنه لو لم يقم الحد على الجناة في الحرم لعم الفساد وعظم الشر في حرم الله، فإن أهل الحرم كغيرهم في الحاجة إلى نفوسهم وأموالهم وأعراضهم، ولو لم يشرع الحد في حق من ارتكب الجرائم في الحرم لتعطلت حدود الله وعم الضرر للحرم وأهله.
والخامس: أن اللاجئ إلى الحرم بمنزلة التائب المتنصل اللاجئ إلى بيت الرب تعالى المتعلق بأستاره، فلا يناسب حاله ولا حال بيته وحرمه أن يهاج، بخلاف المقدم على انتهاك حرمته.
فظهر سر الفرق، وتبين أن ما قاله ابن عباس هو محض الفقه. وأما قولكم: أنه حيوان مفسد فأبيح قتله في الحل والحرم كالكلب العقور فلا يصح القياس، فإن الكلب العقور طبعه الأذى، فلم يحرمه الحرم ليدفع أذاه عن أهله. وأما الآدمي فالأصل فيه الحرمة وحرمته عظيمة، فإنما أبيح لعارض فأشبه الصائل من الحيوانات المباحة من المأكولات، فإن الحرم يعصمها، وأيضا فإن حاجة أهل الحرم إلى قتل الكلب العقور والحية والحدأة كحاجة أهل الحل سواء، فلو أعاذها الحرم لعظم عليهم الضرر بها. انتهى. من الجزء الثاني من صفحة 177 إلى صفحة 180.
ولما ذكر تعالى فضائل البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج فقال: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} اللام في البيت للعهد. وحجه: قصده للزيارة بالنسك المعروف. وكسر الحاء وفتحها لغتان، وهما قراءتان سبعيتان، وفي الآية مباحث:
الأول: في إعرابها قال أبو السعود في صدر الآية: جملة من مبتدأ هو: {حِجُّ الْبَيْتِ} وخبر هو: {لِلّهِ} وقوله تعالى: {عَلَى النَّاسِ} متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار، أو بمحذوف هو حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه ذلك الاستقرار، ويجوز أن يكون: {عَلَى النَّاسِ} هو الخبر، و: {لله} متعلق بما تعلق به الخبر. ثم قال في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} في محل الخبر على أنه بدل من: {النَّاسِ} بدل البعض من الكل مخصص لعمومه، فالضمير العائد إلى المبدل منه محذوف، أي: من استطاع منهم، وقيل: بدل الكل، على أن المراد بالناس هو البعض المستطيع، فلا حاجة إلى الضمير. وقيل: في محل الرفع، على أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هم من استطاع. وقيل: في حيز النصب بتقدير أعني.
الثاني: هذه الآية هي آية وجوب الحج عند الجمهور. وقيل: بل هي قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، والأول أظهر. وفي فتح البيان: اللام في قوله: {لله} هي التي يقال لها لام الإيجاب والإلزام، ثم زاد هذا المعنى تأكيدًا حرف: {عَلَى} فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب عند العرب. كما إذا قال القائل: لفلان عليّ كذا، فذكره الله سبحانه بأبلغ ما يدل على الوجوب تأكيدًا لحقه، وتعظيمًا لحرمته. وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعًا ضروريًا.
الثالث: يجب الحج على المكلف في العمر مرة واحدة، بالنص والإجماع، روى الإمام أحمد ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أيها الناس أنه فرض الله عليكم الحج فحجوا». فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت. حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم». ثم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».
وروى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج»، فقام الأقرع بن حابس فقال: يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال: «لو قلتها لوجبت، ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها. الحج مرة. فمن زاد فهو تطوع».
الرابع: استطاعة السبيل عبارة عن إمكان الوصول إليه. قال ابن المنذر: اختلف العلماء في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فقالت طائفة: الآية على العموم، إذ لا نعلم خبرًا ثابتًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا إجماعًا لأهل العلم يوجب أن نستثني من ظاهر الآية بعضًا، فعلى كل مستطيع للحج يجد إليه السبيل بأي وجه كانت الاستطاعة الحج، على ظاهر الآية. قال: وروينا عن عِكْرِمَة أنه قال: الاستطاعة: الصحة. وقال الضحاك: إذا كان شابًا صحيحًا ليس له مال فليؤجر نفسه بأكله وعقبه حتى يقضي نسكه. فقال له قائل: أكلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبوًا، قال: فكذلك يجب عليه حج البيت. وقال مالك: الاستطاعة على إطاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على المشي، وآخر يقدر على المشي على رجليه. وقالت طائفة: الاستطاعة: الزاد والراحلة، كذلك قال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد بن حنبل، واحتجوا بحديث ابن عمر أن رجلًا قال: يا رسول الله ما يوجب الحج؟ قال: «الزاد والراحلة»- رواه الترمذي- وفي إسناده الخوزي فيه مقال.
قال ابن كثير: لكن قد تابعه غيره. وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث. ورواه الحاكم من حديث قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. فقيل: ما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة»، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.
الخامس: قال الإمام ابن القيم الدمشقي رضي الله عنه في زاد المعاد في سياق هديه صلى الله عليه وسلم في حجته: لا خلاف أنه لم يحج بعد هجرته إلى المدينة سوى حجة واحدة، وهي حجة الوداع، ولا خلاف أنها كانت سنة عشر، واختلف هل حج قبل الهجرة؟.
وروى الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج: حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعد ما هاجر، معها عَمْرة. قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث سفيان. قال: وسألت محمدًا- يعني البخاري- عن هذا فلم يعرفه من حديث الثوري. وفي رواية: لا يعد هذا الحديث محفوظًا. ولما نزل فرض الحج بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحج من غير تأخير، فإن فرض الحج تأخر إلى سنة تسع أو عشر. وأما قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، فإنها، وإن نزلت سنة ست عام الحديبية، فليس فيها فريضة الحج، وإنما فيها الأمر بإتمامه وإتمام العمرة بعد الشروع فيهما، وذلك لا يقتضي وجوب الابتداء. فإن قيل: فمن أين لكم تأخر نزول فرضه إلى التاسعة أو العاشرة؟ قيل: لأن صدر سورة آل عِمْرَان نزل عام الوفود، وفيه قدم وفد نجران على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصالحهم على أداء الجزية والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عِمْرَان، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة. ويدل عليه أن أهل مكة وجدوا في نفوسهم لما فاتهم من التجارة من المشركين لما أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، فأعاضهم الله تعالى من ذلك بالجزية. ونزول هذه الآيات والمناداة بها إنما كان في سنة تسع. وبعث الصديق يؤذن بذلك في مكة في مواسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} إما مستأنف لوعيد من كفر به تعالى، لا تعلق له بما قبله، وإما أنه متعلق به ومنتظم معه، وهو أظهر وأبلغ. والكفر، على هذا، إما بمعنى جحد فريضة الحج، أو بمعنى ترك ما تقدم الأمر به. ونظيره في السنة ما رواه النسائي والترمذي عن بريدة مرفوعًا: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر».
وعن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة- أخرجه الترمذي- ولأبي داود عن جابر مرفوعًا: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» ولفظ مسلم: «بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة».
وروى الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا، وذلك أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال. وقد روى الحافظ أبو بكر الإسماعيلي عن عُمَر بن الخطاب قال: من أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه مات يهوديًا أو نصرانيا.
قال ابن كثير: إسناده صحيح إلى عمر رضي الله عنه: وروى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري قال: قال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه: لقد هممت أن أبعث رجلًا إلى هذه الأمصار، فينظروا إلى كل من كان عنده جدة فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين. قال السيوطي في الإكليل: وقد استدل بظاهر الآية ابن حبيب على أن من ترك الحج، وإن لم ينكره، كفر. ثم قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر: من كان يجد وهو موسر صحيح ولم يحج، كان سيماه بين عينيه كافر، ثم تلا هذه الآية.
تنبيه:
هذه الآية الكريمة حازت من فنون الاعتبارات المعربة عن كمال الاعتناء بأمر الحج والتشديد على تاركه ما لا مزيد عليه، فمنها الإتيان باللام وعلى في قوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. يعني: أنه حق واجب لله في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته، ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل عنه: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وفيه ضربان من التأكيد:
أحدهما: أن الإبدال تثنية للمراد وتكرير له.
والثاني: أن الأيضاح بعد الإبهام، والتفصل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين.
ومنها: قوله: {وَمَن كَفَرَ} مكان من لم يحج تغليظًا على تارك الحج.
ومنها: ذكر الاستغناء عنه. وذلك مما يد على المقت والسخط والخذلان.
ومنها: قوله: {عَنِ الْعَالَمِينَ}، ولم يقل: عنه. وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان، لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه- أشار لذلك الزمخشري-. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

أَمَّا قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ جَوَابُ الشُّبْهَةِ الثَّانِيَةِ. وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْبَيْتَ الْحَرَامَ الَّذِي نَسْتَقْبِلُهُ فِي صَلَاتِنَا هُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ مَعْبَدًا لِلنَّاسِ، بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ خَاصَّةً، ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَهُ بِعِدَّةِ قُرُونٍ، بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، فَصَحَّ أن يكون النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَيَتَوَجَّهُ بِعِبَادَتِهِ إِلَى حَيْثُ كَانَ يَتَوَجَّهُ إِبْرَاهِيمُ وَوَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ مِنَ الْآيَةِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَهُوَ كَافٍ فِي إِبْطَالِ شُبْهَةِ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى الْبَحْثِ فِي هَذِهِ الْأَوَّلِيَّةِ هَلْ هِيَ أَوَّلِيَّةُ الشَّرَفِ أَمْ أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّهَا أَوَّلِيَّةُ الزَّمَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْأَنْبِيَاءُ، فَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعٌ بَنَاهُ الْأَنْبِيَاءُ أَقْدَمَ مِنْهُ فِيمَا يُعْرَفُ مِنْ تَارِيخِهِمْ وَمَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلِيَّةَ فِي الشَّرَفِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ زَمَانِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى وَضْعِ الْبُيُوتِ مُطْلَقًا. فَقَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَتْهُ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَأَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بُنِيَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ عَامًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ- رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: إِذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَا شَيْءَ فِي الْعَقْلِ يُحِيلُهُ، وَلَكِنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ الِاحْتِجَاجُ بِهَا عَلَى ثُبُوتِهِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْإِطْلَاقُ قَدْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بِالِاتِّفَاقِ، وَذَلِكَ قَبْلَ مِيلَادِ الْمَسِيحِ بِنَحْوِ 800 سَنَةٍ- كَذَا قَالَ رَحِمَهُ اللهُ تعالى فِي الدَّرْسِ- وَالْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ أنه تَمَّ بِنَاؤُهُ سَنَةَ 1005 قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ آنِفًا فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدَيْنِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ بِلَفْظِ الْوَضْعِ لَا الْبِنَاءِ. قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَوَّلِ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ فَقَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ فَقَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً وَأَجَابُوا عَمَّا فِيهِ مِنَ الْإِشْكَالِ بِوُجُوهٍ مِنْهَا: أَنَّ الْوَضْعَ غَيْرُ الْبِنَاءِ وَهُوَ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ بَيْتًا وَلَوْ جُعِلَ الْمَكَانُ مَسْجِدًا وَلَمْ يُبْنَ فِيهِ لَمَا سُمِّيَ بَيْتًا بَلْ مَسْجِدًا أَوْ قِبْلَةً، وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الَّذِي بَنَى أَوَّلَ مَسْجِدٍ لِلْعِبَادَةِ فِي أَرْضِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَذَلِكَ مَعْقُولٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا فِيهِ نَصٌّ صَحِيحٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: إِنَّ الَّذِي أَسَّسَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ يَعْقُوبُ وَإِنَّمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مُجَدِّدًا لَهُ. هَذَا وَإِنَّ أَخْبَارَ التَّارِيخِ لَيْسَتْ مِمَّا بَلَغَ عَلَى أنه دِينٌ يُتَّبَعُ، وَالْمَوْضُوعَاتُ الْمَرْوِيَّةُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى إِضَاعَةِ الْوَقْتِ فِي ذِكْرِهَا وَبَيَانِ وَضْعِهَا.
أَمَّا قوله تعالى فِي الْبَيْتِ: مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فَهُوَ بَيَانٌ لِحَالِهِ الْحَسَنَةِ الْحِسِّيَّةِ وَحَالِهِ الشَّرِيفَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَمَّا الأولى: فَهِيَ مَا أُفِيضُ عَلَيْهِ مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَثَمَرَاتِ كُلِّ شَيْءٍ عَلَى كَوْنِهِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، فَتَرَى الْأَقْوَاتَ وَالثِّمَارَ فِي مَكَّةَ أَكْثَرَ وَأَجْوَدَ وَأَقَلَّ ثَمَنًا مِنْهَا فِي مِثْلِ مِصْرَ وَكَثِيرٍ مِنْ بِلَادِ الشَّامِ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ: فَهِيَ هَوَى أَفْئِدَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ وَإِتْيَانُهُ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ مُشَاةً وَرُكْبَانًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ، وَتَوْلِيَةُ وُجُوهِهِمْ شَطْرَهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلَعَلَّهُ لَا تَمُرُّ سَاعَةٌ وَلَا دَقِيقَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَلَيْسَ فِيهَا أُنَاسٌ مُتَوَجِّهُونَ إِلَى ذَلِكَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ يُصَلُّونَ. فَأَيُّ هِدَايَةٍ لِلْعَالَمِينَ أَظْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ؟ تِلْكَ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [14: 37] وَقَدْ أُشِيرَ إِلَى الْوَصْفَيْنِ فِي قوله تعالى حِكَايَةً عَنِ الْمُشْرِكِينَ: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [28: 57] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مُبَارَكًا يَشْمَلُ الْبَرَكَاتِ الْحِسِّيَّةَ وَالْمَعْنَوِيَّةَ، وَمَا اخْتَرْنَاهُ هُوَ الْمُتَبَادِرُ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ أَنَّ بَكَّةَ اسْمٌ لِمَكَّةَ كَمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قِيلَ: وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ، وَجَعَلُوهُ مِنْ إِبْدَالِ الْمِيمِ بَاءً، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ، كَسَمَدَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ، وَضَرْبَةِ لَازِمٍ وَضَرْبَةِ لَازِبٍ، وَرَاتِمٍ وَرَاتِبٍ، وَنَمِيطٍ وَنَبِيطٍ وَقِيلَ: بَكَّةُ اسْمُ الْمَسْجِدِ نَفْسِهِ، أَوْ حَيْثُ الطَّوَافُ مِنَ التَّبَاكِ، أَيِ الِازْدِحَامِ. وَقِيلَ: هُوَ اسْمُ بَطْنِ مَكَّةَ حَيْثُ الْحَرَمِ.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ أَيْ فِيهِ دَلَائِلُ أَوْ عَلَامَاتٌ ظَاهِرَةٌ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، أَحَدُهَا أَوْ مِنْهَا: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَوْضِعُ قِيَامِهِ فِيهِ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، تَعْرِفُ ذَلِكَ الْعَرَبُ بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتِرِ. فَأَيُّ دَلِيلٍ أَبْيَنُ مِنْ هَذَا عَلَى كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ، وُضِعَ لِيَعْبُدَ النَّاسُ فِيهِ رَبَّهُمْ؟ وَإِبْرَاهِيمُ أَبُو الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ بَقِيَ فِي الْأَرْضِ أَثَرُهُمْ بِجَعْلِ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ فِيهِمْ لَا يُعْرَفُ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ أَثَرٌ وَلَا يُحْفَظُ لَهُ نَسَبٌ.
وَقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} آيَةٌ ثَانِيَةٌ بَيِّنَةٌ لَا يَمْتَرِي فِيهَا أَحَدٌ، وَهِيَ اتِّفَاقُ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كُلِّهَا عَلَى احْتِرَامِ هَذَا الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ لِنِسْبَتِهِ إِلَى اللهِ، حَتَّى إِنَّ مَنْ دَخَلَهُ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ لَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِ وَإِيذَائِهِ فَقَطْ بَلْ يَأْمَنُ أَنْ يَثْأَرَ مِنْهُ مَنْ سَفَكَ هُوَ دِمَاءَهُمْ وَاسْتَبَاحَ حُرُمَاتِهِمْ مَا دَامَ فِيهِ. مَضَى عَلَى هَذَا عَمَلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْمَنَازِعِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْمَعْبُودَاتِ، وَكَثْرَةِ مَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْقَادِ وَالْأَضْغَانِ، وَأَقَرَّهُ الإسلام.