فصل: من فوائد الشعراوي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَيُرَدُّ عَلَى إِقْرَارِ الإسلام لِحُرْمَةِ الْبَيْتِ فَتْحُ مَكَّةَ بِالسَّيْفِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ: بأنها حَلَّتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ وَلَنْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ لِضَرُورَةِ تَطْهِيرِ الْبَيْتِ مِنَ الشِّرْكِ وَتَخْصِيصِهِ لِمَا وُضِعَ لَهُ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُرْمَةَ مَكَّةَ كُلِّهَا وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ ضَوَاحِيهَا وَحِلَّهَا لِلنَّبِيِّ لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهُوَ أَمْنُ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَسْتَحِلَّ الْبَيْتَ سَاعَةً وَلَا بَعْضَ سَاعَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ مُنَادِيهِ يُنَادِي بِأَمْرِهِ مَنْ دَخَلَ دَارَهُ وَأَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ آمِنٌ وَلَمَّا أَخْبَرَ أَبُو سُفْيَانَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ حَامِلِ لِوَاءِ الْأَنْصَارِ لَهُ فِي الطَّرِيقِ: الْيَوْمَ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْكَعْبَةُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: كَذَبَ سَعْدٌ، وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ اللهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ، وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ (رَاجِعِ السِّيَرَ).
وَأَمَّا فِعْلُ الْحَجَّاجِ- أَخْزَاهُ اللهُ- فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أنه كَانَ مِنَ الشُّذُوذِ الَّذِي لَا يُنَافِي الِاتِّفَاقَ عَلَى احْتِرَامِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ وَتَأْمِينِ مَنْ دَخَلَهُ، وَهَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْبَشَرَ يَعْجِزُونَ عَنِ الْإِيقَاعِ بِهِ عَجْزًا طَبِيعِيًّا عَلَى سَبِيلِ خَرْقِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أنه تعالى أَلْهَمَهُمُ احْتِرَامَهُ لِاعْتِقَادِهِمْ نِسْبَتَهُ إِلَيْهِ- عَزَّ وَجَلَّ-، وَحَرَّمَ الْإِلْحَادَ وَالِاعْتِدَاءَ فِيهِ. وَلَمْ يَكُنِ الْحَجَّاجُ وَجُنْدُهُ يَعْتَقِدُونَ حِلَّ مَا فَعَلُوا مِنْ رَمْيِ الْكَعْبَةِ بِالْمَنْجَنِيقِ، وَلَكِنَّهَا السِّيَاسَةُ تَحْمِلُ صَاحِبَهَا عَلَى مُخَالَفَةِ الِاعْتِقَادِ، وَتُوقِعُهُ فِي الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ، وَإِنَّ مَا يُفْعَلُ الْآنَ فِي الْحَرَمِ مِنَ الظُّلْمِ وَالْإِلْحَادِ الْمُسْتَمِرِّ لَمْ يُسْبَقْ لَهُ نَظِيرٌ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ. وَلَا ضَرُورَةَ مُلْجِئَةٌ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هِيَ السِّيَاسَةُ السَّوْءَى قَضَتْ بِتَنْفِيرِ النَّاسِ مِنْ أُمَرَاءِ مَكَّةَ وَشُرَفَائِهَا وَإِبْعَادِ عُقَلَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهَا قُوَّةٌ فِي الدِّينِ، وَلَا فِي الْعِلْمِ وَالرَّأْيِ!! وَمَاذَا يَكُونُ مِنْ ضَرَرِ هَذِهِ الْقُوَّةِ؟ يُوَسْوِسُ لَهُمْ شَيْطَانُ السِّيَاسَةِ أَنَّ عُمْرَانَ الْحِجَازِ وَثِقَةَ النَّاسِ بِأُمَرَائِهِ وَشُرَفَائِهِ، وَأَمْنَ الْعُقَلَاءِ وَالسَّرَوَاتِ فِيهِ رُبَّمَا يَكُونُ سَبَبًا فِي إِنْشَاءِ خِلَافَةٍ عَرَبِيَّةٍ فِيهِ. إِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَنَابِغِيهِمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ دُونَ أَدَائِهِمْ لِفَرِيضَةِ الْحَجِّ عَقَبَاتٍ سِيَاسِيَّةً لَا يَسْهُلُ اقْتِحَامُهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي صُحُفِ الأخبار أَنَّ أَمِيرَ مِصْرَ اسْتَأْذَنَ السُّلْطَانَ فِي حَجِّ وَالِدَتِهِ وَبَعْضِ أُمَرَاءِ أُسْرَتِهِ فَلَمْ يَأْذَنْ. وَقَدْ كَانَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ يَعْتَقِدُ اعْتِقَادًا جَازِمًا فِيهِ أنه إِذَا حَجَّ يُلْقِي بِيَدَيْهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَأَنَّهُ لَا أَمَانَ لَهُ فِي الْحَرَمِ الَّذِي كَانَ يَرَى الْجَاهِلِيُّ فِيهِ قَاتِلَ أَبِيهِ فَلَا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ. وَإِنَّ كَاتِبَ هَذِهِ السُّطُورِ يَعْتَقِدُ مِثْلَ هَذَا الِاعْتِقَادِ، فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُحَقِّقَ لَنَا ثَانِيَةً مَضْمُونَ قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} لِنَمْتَثِلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْنَا مِنْ حَجِّ هَذَا الْبَيْتِ- كَمَا يَأْتِي فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ- فَلَا نَلْجَأُ إِلَى تَأْوِيلِ الأمان بِمِثْلِ مَا أَوَّلَهُ بِهِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَمْنُ مِنَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رَدَّ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّأْوِيلَ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ: أنه هَدْمٌ لِلدِّينِ كُلِّهِ، فَإِنَّ الْأَمْنَ هُنَاكَ إِنَّمَا يَكُونُ لأهل التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، الَّذِينَ أَقَامُوا الدِّينَ فِي الدُّنْيَا كَمَا أَمَرَ اللهُ تعالى، وَمَا دُخُولُ الْبَيْتِ إِلَّا بَعْضُ أَعْمَالِ الإيمان، إِذَا أَخْلَصَ صَاحِبُهُ فِيهِ. أَقُولُ: وَلَا تَنْسَ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِثْلَ قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [6: 82] وَمَا رَوَوْهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْآثَارِ لَا يُنَافِي الْمُتَبَادِرَ الْمُخْتَارَ.
وَمَا أَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ عَنِ الْإِمَامِ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ كَمَا قِيلَ.
أَمَّا قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} فَهُوَ بَيَانُ آيَةٍ ثَالِثَةٍ مِنْ آيَاتِ هَذَا الْبَيْتِ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْفَرْضِيَّةِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ مَزَايَاهُ وَدَلَائِلِ كَوْنِهِ أَوَّلَ بُيُوتِ الْعِبَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ لِلْمُعْتَرِضِينَ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى اسْتِقْبَالِهِ فِي الصَّلَاةِ، فَهُوَ يُفِيدُ بِمُقْتَضَى السِّيَاقِ مَعْنًى خَبَرِيًّا وَبِمُقْتَضَى الصِّيغَةِ مَعْنًى إِنْشَائِيًّا وَهُوَ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بِقوله: هَذِهِ الْجُمْلَةُ- وَإِنْ جَاءَتْ بِصِيغَةِ الْإِيجَابِ- هِيَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ. وَأَيُّ تَعْظِيمٍ أَكْبَرُ مِنِ افْتِرَاضِ حَجِّ النَّاسِ إِلَيْهِ؟ وَمَا زَالُوا يَحُجُّونَهُ مِنْ عَهْدِ إِبْرَاهِيمَ إِلَى عَهْدِ مُحَمَّدٍ- صَلَّى الله عَلَيْهِمَا وَعَلَى آلِهِمَا وَسَلَّمَ-، وَلَمْ يَمْنَعِ الْعَرَبَ عَنْ ذَلِكَ شِرْكُهَا وَإِنَّمَا كَانُوا يَحُجُّونَ عَمَلًا بِسُنَّةِ إِبْرَاهِيمَ، يَعْنِي أَنَّ الْحَجَّ عَمَلٌ عَامٌّ جَرَوْا عَلَيْهِ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ عَلَى أنه مِنْ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَهَذِهِ آيَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ عَلَى نِسْبَةِ هَذَا الْبَيْتِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَهِيَ أَصَحُّ مِنْ نُقُولِ الْمُؤَرِّخِينَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، وَبِهَذَا وَبِمَا سَبَقَهُ بَطَلَ اعْتِرَاضُ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ دُونَهُمْ.
أَمَّا الْحِجُّ فَمَعْنَاهُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ الْقَصْدُ- وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ- وَبِهِ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ- وَفَتْحِهَا- وَبِهِ قَرَأَ الْبَاقُونَ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ لُغَةُ الْحِجَازِ وَالْكَسْرُ لُغَةُ نَجْدٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ أَعْمَالِهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا اسْتِطَاعَةُ السَّبِيلِ: فَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي بُعْدِهِمْ عَنِ الْبَيْتِ وَقُرْبِهِمْ مِنْهُ، وَكُلُّ مُكَلَّفٍ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ- وَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا- مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا نِحْرِيرًا، وَمَا زَادَ النَّاسَ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ إِلَّا بُعْدًا عَنْ حَقِيقَتِهَا الْوَاضِحَةِ مِنَ الْآيَةِ أَتَمَّ الْوُضُوحِ؛ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الِاسْتِطَاعَةَ صِحَّةُ الْبَدَنِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَشْيِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا الْقُدْرَةُ عَلَى الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ، وَاشْتَرَطُوا فِيهَا أَمْنَ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَشْتَرِطُوا الْأَمْنَ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، لِأَنَّهَا كَانَتْ آمِنَةً قَطْعًا، وَأَمَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ فَمَا كُلُّ أَحَدٍ يَأْمَنُ فِيهَا وَلاسيما إِذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِالِاشْتِغَالِ بِالسِّيَاسَةِ.
وَكَيْفَ وَقَدْ أُلْقِيَ بَعْضُ عُلَمَائِهَا فِي ظُلْمَةِ السِّجْنِ مُكَبَّلًا بِالسَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ، وَلَا ذَنْبَ لَهُ إِلَّا أنه أَلَّفَ كِتَابًا أَيَّدَ فِيهِ التَّوْحِيدَ وَبَيَّنَ فَسَادَ مَا طَرَأَ عَلَى النَّاسِ مِنْ نَزَعَاتِ الْوَثَنِيَّةِ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِالتَّوَسُّلِ بِالْأَوْلِيَاءِ؟
فَيَا لَيْتَ شِعْرِي لَوْ كَانَ مِثْلُ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفِرَايِينِيِّ الَّذِي كَانَ يُنْكِرُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ حَيًّا، أَكَانَ يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَرَادَ الْحَجَّ، وَهُوَ الْمَعْدُودُ فِي عَصْرِ الْعِلْمِ مِنْ أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ السُّنَّةِ فِي أُصُولِ الدِّينِ؟ وَقُلْ مِثْلَ هَذَا فِي الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ الَّذِي كَانَ يَقُولُ فِي الْأَرْوَاحِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ أُورُبَّا الْيَوْمَ مِنْ مَادِّيِّينَ وَغَيْرِهِمْ، دَعِ الْفِرَقَ الَّتِي وُسِمَتْ بِالِابْتِدَاعِ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْخَوَارِجِ وَالشِّيعَةِ، وَلَمْ يَكُنْ أَهْلُ السُّنَّةِ يُكَفِّرُونَ أَحَدًا مِنْهُمْ وَلَا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى مُخَالَفَةِ الْجُمْهُورِ فِي بَعْضِ الْآرَاءِ أَيَّامَ كَانَ قُرْبُ جُمْهُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِلْمِ وَالدِّينِ كَبُعْدِهِمْ عَنْهُ الْيَوْمَ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} أنه بَيَانٌ لِمَوْقِعِ الْإِيجَابِ وَمَحَلِّهِ، وَإِعْلَامٌ بِأَنَّ الْفَرْضِيَّةَ مُوَجَّهَةٌ أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ إِلَى هَذَا الْعَمَلِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إِلَيْهِ سَبِيلًا، وَالِاسْتِطَاعَةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ.
وَقوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} تَأْكِيدٌ لِمَا سَبَقَ وَوَعِيدٌ عَلَى جُحُودِهِ، وَبَيَانٌ لِتَنْزِيهِ اللهِ تعالى بِإِزَالَةِ مَا عَسَاهُ يَسْبِقُ إِلَى أَوْهَامِ الضُّعَفَاءِ عِنْدَ سَمَاعِ نِسْبَةِ الْبَيْتِ إِلَى اللهِ، وَالْعِلْمِ بِفَرْضِهِ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَحُجُّوهُ مِنْ كَوْنِهِ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ. فَالْمُرَادُ بِالْكُفْرِ: جُحُودُ كَوْنِ هَذَا الْبَيْتِ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضَعَهُ إِبْرَاهِيمُ لِلْعِبَادَةِ الصَّحِيحَةِ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَجِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَدَمِ الْإِذْعَانِ لِمَا فَرَضَ اللهُ مِنْ حَجِّهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ. هَذَا هُوَ الْمُتَبَادِرُ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُطْلَقًا عَلَى أنه كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ لَا مُتَمِّمَ لِمَا قَبْلَهُ، وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى تَرْكِ الْحَجِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ أيضا وَإِنْ دَعَّمُوهُ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ. وَحَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ عِنْدَ الدَّارِمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ: مَنْ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنَ الْحَجِّ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ أَوْ مَرَضٌ حَابِسٌ فَمَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ فَلْيَمُتْ إِنْ شَاءَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا وَرَوَاهُ غَيْرُهُمْ بِاخْتِلَافٍ فِي اللَّفْظِ. وَالرِّوَايَاتُ كُلُّهَا ضَعِيفَةٌ إِلَّا مَا قِيلَ فِي رِوَايَةٍ مَوْقُوفَةٍ، بَلْ عَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ، وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ لِكَثْرَةِ طُرُقِهِ، وَأَمْثَلُ طُرُقِهِ الْمَرْفُوعَةِ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ- كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ- بِلَفْظِ: مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللهِ وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} الْآيَةَ. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: غَرِيبٌ فِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ. وَهِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الرَّاوِي لَهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ مَجْهُولٌ. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الْحَدِيثِ تَرْتَقِي بِهِ إِلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ لِغَيْرِهِ كَمَا يَقُولُونَ فِي مِثْلِهِ، وَلَا يَقْدَحُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْعَقِيلِيِّ والدَّارَقُطْنِيِّ: لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ؛ إِذْ لَا نَدَّعِي أَنَّ هُنَا شَيْئًا صَحِيحًا، وَأَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَثَرُ عُمَرَ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ قَالَ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جِدَةٌ فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ» وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الرِّوَايَاتِ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ، وَبِهِ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْأَثَرِ، وَالْآخَرُونَ يَقُولُونَ: أنه عَلَى التَّرَاخِي. وَالِاحْتِيَاطُ أَلَّا يُؤَخِّرَ الْمُسْتَطِيعُ الْحَجَّ بِغَيْرِ عُذْرٍ صَحِيحٍ لِئَلَّا يُفَاجِئَهُ الْمَوْتُ قَبْلَ ذَلِكَ.
أَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَزَايَا وَآيَاتٍ لِبَيْتِ اللهِ الْحَرَامِ. فَالْمَزَايَا كَوْنُهُ أَوَّلَ مَسْجِدٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وَكَوْنُهُ مُبَارَكًا، وَكَوْنُهُ هُدًى لِلْعَالَمِينَ. وَالْآيَاتُ: مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَأَمْنُ دَاخِلِهِ، وَالْحَجُّ إِلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا. وَيَذْكُرُ لَهُ الْمُفَسِّرُونَ هُنَا خَصَائِصَ وَمَزَايَا يَعُدُّونَهَا مِنَ الْآيَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ مِنْهَا مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا هِيَ الْآيَاتُ وَإِنَّ قوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} كَلَامٌ مُسْتَقِلٌّ. قَالَ الرَّازِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ، وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَقَرُّهُ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي اخْتَارَهُ وَعَبَدَ اللهَ فِيهِ. اهـ. وَلَعَلَّ الدَّافِعَ لَهُمْ إِلَى هَذَا فَهْمُهُمْ أَنَّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ تَفْسِيرٌ لِلْآيَاتِ وَهُوَ مُفْرَدٌ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَا بَعْدَهُ تَابِعٌ لَهُ فِي ذَلِكَ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ: مُحَاوَلَةُ الْآخَرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ بِمَنْزِلَةِ عِدَّةِ آيَاتٍ. قَالَ الرَّازِيُّ: إِنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ اشْتَمَلَ عَلَى الْآيَاتِ؛ لِأَنَّ أَثَرَ الْقَدَمِ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ آيَةٌ، وَغَوْصَهُ فِيهَا إِلَى الْكَعْبَيْنِ آيَةٌ، وَإِلَانَةَ بَعْضِ الصَّخْرَةِ دُونَ بَعْضٍ آيَةٌ؛ لِأَنَّهُ لَانَ مِنَ الصَّخْرَةِ مَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَقَطْ، وَإِبْقَاؤُهُ دُونَ سَائِرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- آيَةٌ خَاصَّةٌ لِإِبْرَاهِيمَ عليه السلام، وَحِفْظُهُ مَعَ كَثْرَةِ أَعْدَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ أُلُوفَ السِّنِينَ آيَةٌ. فَثَبَتَ أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام آيَاتٌ كَثِيرَةٌ. اهـ.
أَقُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [2: 125] أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّ مَقَامَهُ عِبَارَةٌ عَنْ مَوْقِفِهِ حَيْثُ ذَلِكَ الْأَثَرِ لِلْقَدَمَيْنِ وَإِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ. وَالْكَلَامُ هُنَا فِي أَنَّ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَثَرِ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، أَمَّا الْأَثَرُ نَفْسُهُ فَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْتَقِدُ أنه قَدَمَيْ إِبْرَاهِيمَ، كَمَا قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي لَامِيَّتِهِ:
وَمَوْطِئُ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ ** عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ

وَقَدْ يُؤْخَذُ مِنْ قوله: رَطْبَةٌ أَنَّ الصَّخْرَةَ كَانَتْ عِنْدَمَا وَطِئَ عَلَيْهَا رَطْبَةً لَمْ تَتَحَجَّرْ ثُمَّ تَحَجَّرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَبَقِيَ أَثَرُ قَدَمَيْهِ فِيهَا؛ وَعَلَى هَذَا لَا يَظْهَرُ مَعْنَى كَوْنِهِ آيَةً إلا على الْوَجْهِ الَّذِي جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ دُونَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ كَوْنِ الْآيَاتِ بِمَعْنَى الْخَوَارِقِ الْكَوْنِيَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهَا كَانَتْ رَطْبَةً كَرَامَةً لَهُ (وَهُوَ مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْقَصِيدَةِ فِي الْمَنَارِ- 465 م 9) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَقَامُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْجَمْعِ، وَالْمُرَادُ مَقَامَاتُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ مَا قَامَ بِهِ مِنَ الْمَنَاسِكِ وَأَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْمُتَبَادِرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَمِمَّا عَدُّوهُ مِنَ الْآيَاتِ: قَصْمُ مَنْ يَقْصِدُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ بِسُوءٍ كَأَصْحَابِ الْفِيلِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا كَانَ مِنَ الْحَجَّاجِ وَمَنْ هُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَجَّاجِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَعَدَمُ تَعَرُّضِ ضَوَارِي السِّبَاعِ لِلصَّيُودِ فِيهِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الضَّعْفِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ آيَةً. وَعَدَمُ نَفْرَةِ الطَّيْرِ مِنَ النَّاسِ هُنَاكَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّيْرَ تَأْلَفُ النَّاسَ لِعَدَمِ تَعَرُّضِهِمْ لَهَا، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُهُ فِي الْأَرْضِ.
وَانْحِرَافُ الطَّيْرِ عَنْ مُوَازَاتِهِ وَلَيْسَ بِمُتَحَقِّقٍ. وَكَوْنُ وُقُوعِ الْغَيْثِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْخِصْبِ، فَإِذَا عَمَّهُ كَانَ الْخِصْبُ عَامًّا وَإِذَا وَقَعَ فِي جِهَةٍ مِنْ جِهَاتِهِ كَانَ الْخِصْبُ فِي تِلْكَ الْجِهَةِ مِنَ الْأَرْضِ، وَهِيَ آيَةٌ وَهْمِيَّةٌ.
وَلَعَمْرِي إِنَّ بَيْتَ اللهِ غَنِيٌّ عَنِ اخْتِرَاعِ الْآيَاتِ وَإِلْصَاقِهَا بِهِ مَعَ بَرَاءَتِهِ، فَحَسْبُهُ شَرَفًا كَوْنُهُ حَرَمًا آمِنًا وَمَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَمُبَارَكًا هَدًى لِلْعَالَمِينَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ وَإِقْسَامُهُ تعالى بِهِ وَمَا وَرَدَ عَنْ رَسُولِهِ فِي حُرْمَتِهِ وَتَحْرِيمِهِ وَفَضْلِهِ، كَكَوْنِهِ لَا يُسْفَكُ فِيهِ دَمٌ وَلَا يُعْضَدُ شَجَرُهُ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهُ- أَيْ لَا يُقْطَعُ نَبَاتُهُ- وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا تُمْلَكُ لُقَطَتُهُ، وَكَوْنُ قَصْدِهِ مُكَفِّرًا لِلذُّنُوبِ مَاحِيًا لِلْخَطَايَا، وَكَوْنُ الْعِبَادَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِيهِ لَا تُؤَدَّى فِي غَيْرِهِ، وَكَوْنُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ رَمْزًا إِلَى مُبَايَعَةِ اللهِ تعالى عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ فِيهِ، وَكَوْنُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ ضِعْفٍ فِي غَيْرِهِ. وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي ذَلِكَ تُطْلَبُ مِنَ الصَّحِيحَيْنِ وَكُتُبِ السُّنَنِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}.
لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعى المعاني سببا في إرواء الحق لكل ملكات الإنسانية، وقبل هذه الآية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه السلام حين قال الحق: {قُلْ صَدَقَ الله فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 95].
وإبراهيم عليه السلام هو أول الأنبياء صلة بالبيت الحرام، وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلام، فحين يأتي الكلام في رسالة سيدنا إبراهيم عليه السلام فلابد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم، وهي حادثة بناء البيت الحرام، كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده القرآن، وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والإنجيل المحرف أراد سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين. ومعنى ذلك أن الله يريد منا أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الأرض؛ لأن حركة أهل الأرض إن اتبعت الأهواء تصادمت الحركات، وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة الإنسانية، ويصير هذا المجهود مبددا.
ولكن الإنسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه- بعد أن يبحثها بفكره- هذا الإنسان له قالب تنفذ به تشريعات الله، ولولا وجود القالب هذا لما استطاع الإنسان أن يطبق تشريعات الله، ولَمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات، ولما استطاع أن يطيع الله بجوارحه؛ فالإنسان بغير قالب لا يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة.
إذن فلابد للقالب الإنساني- البدن- في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد لله، وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضا.
ولهذا كأن لابد أن يوجد للقالب- أيضا- مُتّجَهٌ وهذا المُتجه يحكم القالب نفسه، فكان المؤمن المسلم محكومًا قلبا وقالبا، فحين نأتي للصلاة لنكون في حضرة الله نتحرى أن يكون قالبنا متجها إلى المكان الذي أمرنا الله أن نتوجه إليه، لماذا؟
لأن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلاته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في وضع مؤهل لاستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كأن لابد أن يكون لله بيت يتجه إليه الجميع حتى يعطي للتدين وحدة، فكما أعطى الحق لموكب الرسالات وحدة، فإنه يعطي أيضا وحدة في القالب الإنساني والمتجَه، وكل مكان يعبد الله فيه بالنسبة للإسلام يُعتبر مسجدا، وقد يسر الله الأمر على أمة سيدنا محمد، فقال صلى الله عليه وسلم: «جعلت لي أرض مسجدًا وطهورا».
وكان لقاء الله وعبادته في الديانات السابقة يقتضي مكانا محددا ولكن قد وسع رحمته على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن تراب الأرض طهور، إننا عندما نفتقد الماء الطهور فإن التراب الذي قد يبدو للوهلة السطحية أنه سبب في عدم النظافة قد جعله الله لنا طهورا.