فصل: النكتة الثامنة: (قلب المؤمن أشرف البقاع):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.النكتة الثامنة: (قلب المؤمن أشرف البقاع):

إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد ديارًا طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضًا ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم يرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علمًا بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: «القبر روضة من رياض الجنة» وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب سريرًا لمعرفة الله وعرشًا لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني: كأن الله تعالى يقول: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟ الثالث: أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال: {فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال: أنا في ذلك اليوم أكون مليكًا مقتدرًا وعبيدي يكونون ملوكًا، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: كأنه تعالى يقول: يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول تعالى: وهل دخلت جنتك؟ فلابد وأن يقول العبد: نعم يا رب، فيقول تعالى: إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤمًا مدحورًا، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول: إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول الله تعالى: العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قويًا فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
فإن قيل: فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه؟ (قلنا) قال أهل الإشارة: كأنه تعالى يقول للعبد: أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطانًا في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

.النكتة التاسعة: (وجوب معاداة الشيطان):

كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان؛ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقرا بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

.النكتة العاشرة: (غواية الشيطان):

أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال: {فبعزتك لأَغويتهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.

.النكتة الحادية عشرة: (سر اختيار اسم الله في الاستعاذة):

إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسمًا آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرًا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرًا عليمًا حكيمًا فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرًا إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لابد معها من العلم، وأيضًا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكرًا إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعًا منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فهاهنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.

.النكتة الثانية عشرة: (عصيان الشيطان وترك المعصية):

لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.

.النكتة الثالثة عشرة: (الشيطان اسم والرجيم صفة):

الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفًا من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

.النكتة الرابعة عشرة: (لم لم يقل: (أعوذ بالملائكة))؟

لقائل أن يقول: لم لم يقل: (أعوذ بالملائكة) مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

.النكتة الخامسة عشرة: (الألف واللام في الشيطان تعريف للجنس):

أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفًا للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه: إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطانًا فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال: إني أقاتل هؤلاء السبعين، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله، فرجع الرجل خائبًا إلى المسجد فقال المذكر: ماذا عملت؟ فقال: هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضًا جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان، والراضي يجري مجرى الفاعل له، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.

.النكتة السادسة عشرة: (الشيطان لغة):

الشيطان مأخوذ من (شطن) إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيدًا، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى: {واسجد واقترب} [العلق: 19] والله قريب منك قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيب} [البقرة: 186] وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرميًا بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيدًا مرجومًا، وجعلك قريبًا موصولًا، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريبًا لأنه تعالى قال: {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] فاعرف أنه لما جعلك قريبًا فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.

.النكتة السابعة عشرة: (التعوذ قبل القراءة):

قال جعفر الصادق: إنه لابد قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهرًا فيقرأ بلسان طاهر كلامًا أنزل من رب طيب طاهر.

.النكتة الثامنة عشرة: (الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم):

كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.

.النكتة التاسعة عشرة: (غفلة الإنسان عن عدوه الشيطان):

الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27].
فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى: {والله غَالِب على أَمْرِهِ} [يوسف: 21] فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.

.الباب الرابع: في المسائل الملتحقة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم):

.المسألة الأولى: (في الفرق بين قول: أعوذ بالله وبين قول: بالله أعوذ):

فرق بين أن يقال: (أعوذ بالله) وبين أن يقال: (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضًا جاء قوله: (الحمد لله) وجاء قوله: (لله الحمد) وأما هنا فقد جاء (أعوذ بالله) وما جاء قوله (بالله أعوذ) فما الفرق؟

.المسألة الثانية: (أعوذ بالله لفظه الخبر ومعناه الدعاء):

قوله: (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} كقوله: (أستغفر الله) أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: {أعوذ بالله} إخبار عن فعله، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: (أعوذ بالله) ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهدًا كما قال تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عاهدتم} [النحل: 91] وقال: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: (أعوذ بالله) فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم.
المسألة ج: أعوذ فعل مضارع، وهو يصلح للحال والاستقبال، فهل هو حقيقة فيهما؟ والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وإنما يختص به بحرف السين وسوف.
(د) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل، ولم يقع بين الحاضر والماضي؟
(ه) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم.
(و) كيف العامل فيه، ولا شك أنه معمول فما هو.
(ز) قوله: (أعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل، وهو الكمال، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة.
(ح) قوله: (أعوذ) حكاية عن النفس، ولابد من الأربعة المذكورة في قوله: (أتين).

.أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة (أ) الباء في قوله: (بالله) باء الإلصاق.

وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: (باء الإلصاق):

البصريون يسمونه باء الإلصاق، والكوفيون يسمونه باء الآلة، ويسميه قوم باء التضمين، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سببًا للإلصاق، وباء الآلة لكونه داخلًا على الشيء الذي هو آلة.