فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو حيان: وهذا الذي ذكره- من أن أصبح للاستمرار وعلله بما ذكره- لم أر أحدًا من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما.
قال شهاب الدين: وهذا- الذي ذكره ابن عطية- معنى حَسَنٌ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة- غالبًا- إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالبًا.
والإخوان: جمع أخ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه، وعند غيره هي جمع.
وقال بعضهم: إن الأخ في النسب- يُجْمَع على: إخوة، وفي الدين يُجْمَع على: إخوان، هذا أغلب استعمالهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد- هنا- ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة.
قال أبو حاتم: قال أهل البصرة: الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، قال: وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء: إخوة، وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النسب، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب.
وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال.
قال الزجاج: أصل الأخ- في اللغة- من التوخي- وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه، ولا يُخْفِي عنه شيئًا.
قوله: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ} شَفَا الشيء: طرفه وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو، ويُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن ويكتب بالألف، ويُجْمَع على أشفاء، ويُسْتَعْمَل مضافًا إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمن الأول: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] ومن الثاني: هذه الآية.
وأشْفَى على كذا: قاربه، ومنه: أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي منه، أو منها، إلا شَفًا، أي: إلا قليل. وقال بعضهم: يقال لما بين الليل والنهار، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها: شَفًا.
وأنشد: [الرجز]
أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفًا، أوْ بِشَفَا ** وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا

قوله بلا بشفا: أي: غابت الشمسُ، وقوله: أو بشفا، أي: بقيت منه بقية.
قال الراغب: والشفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسمًا للبُرْء والشفاء.
قال البخاري: قال النحاس: الأصل في شفا- شَفَوٌ، ولهذا يُكْتَب بالألف، ولا يمال.
وقال الأخفش: لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو؛ لأن الإمالةَ من الياء.
قال المهدويّ: وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان.
قوله: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} في عَود هذا الضمير وجوه:
أحدها: أنه عائد على {حُفْرَةٍ}.
والثاني: أنه عائد على {النَّارِ}.
قال الطبريّ: إن بعض الناس يُعيده على الشفا، وأنث من حيث كان الشفا مضافًا إلى مؤنث، كما قال جرير: [الوافر]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ** كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ

قال ابن عطية: وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج- في الآية- إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم يجد للضمير مُعَادًا إلا الشفا، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة.
قال أبو حيان: وأقول: لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذِكْرُ الحفرة، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر، لم يكن جعفر محدِّثًا عنه، وليس أحد جُزْأي الإسناد، وكذا لو قلتَ: زيد ضرب غلامَ هند، لم تُحَدِّث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفرًا وهندًا؛ تخصيصًا للمحدَّث عنه، وأما ذكر: {النَّارِ} فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة، وليست- أيضا- أحد جزأي الإسناد، وليست أيضا محدَّثًا عنها، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى.
قال الزجَّاج: وقوله: {مِنْهَا} الكناية راجعة إلى النار، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة.
وقال غيره: الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها.
قال الواحديّ: على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه- دون المضاف، كقول جرير: [الوافر]
أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ** كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ

كذلك قول العجاج: [الرجز]
طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ** طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي

قال: وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، فإن مَرَّ السنين هو المسنون، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة، فذكَّر الشَّفَا، وعادت الكناية إلى الحفرة.
وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره- أيضا- من الصناعة واضح.
قال بعضهم: شَفَا الحُفْرة، وشفتها: طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث.
والإنقاذ: التخليص والتنحِية.
قال الأزهَريُّ: يقال: أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال: فرس نقيذ، إذا كان مأخوذًا من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم.
والحفرة: فُعْلَة بمعنى: مفعولة، كغُرْفة بمعنى: مغروفة.
قوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله} نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي: يبين الله لكم تَبْيينًا مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها. اهـ. بتصرف يسير.
لطيفة:
رُوِيَ أن أعرابيًّا سمع ابن عباس يقرأ هذه الآية، فقال الأعرابي: والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها، فقال ابن عباس رضي الله عنه خذوها من غير فقيه. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الجصاص:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْنَى الْحَبْلِ هاهنا: «أَنَّهُ الْقُرْآنُ» وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الله وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ.
وَقِيلَ: إنَّ الْمُرَادَ بِهِ دِينُ الله.
وَقِيلَ: بِعَهْدِ الله؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ كَالْحَبْلِ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ لِلنَّجَاةِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ نَحْوِهِ.
وَيُسَمَّى الأمان الْحَبْلَ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ النَّجَاةِ، وَذَلِكَ فِي قوله تعالى: {إلَّا بِحَبْلٍ مِنْ الله وَحَبْلٍ مِنْ النَّاسِ} يَعْنِي بِهِ الأمان.
إلَّا أَنَّ قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا} أَمْرٌ بِالِاجْتِمَاعِ وَنَهْيٌ عَنْ الْفُرْقَةِ، وَأَكَّدَهُ بِقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} مَعْنَاهُ التَّفَرُّقُ عَنْ دِينِ الله الَّذِي أُمِرُوا جَمِيعًا بِلُزُومِهِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الله وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَا تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ فَرِيقَانِ مِنْ النَّاسِ: أَحَدُهُمَا: نُفَاتَ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، مِثْلُ النِّظَامِ، وَأمثالهِ مِنْ الرَّافِضَةِ.
وَالْآخَرُ مَنْ يَقُولُ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ، وَيَقُولُ مَعَ ذَلِكَ: إنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ مِنْ أَقَاوِيلِ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَيُخْطِئُ مَنْ لَمْ يُصِبْ الْحَقَّ عِنْدَهُ؛ صَلَّى الله عَلَى مُحَمَّدٍ: {وَلَا تَفَرَّقُوا}.
فَغَيْرُ جَائِزٍ أن يكون التَّفَرُّقُ وَالِاخْتِلَافُ دِينًا لِلَّهِ تعالى مَعَ نَهْيِ الله تعالى عَنْهُ.
وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَنَا كَمَا قَالُوا؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ الشَّرْعِ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنْحَاءَ: مِنْهَا مَا لَا يَجُوزُ الْخِلَافُ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي دَلَّتْ الْعُقُولُ عَلَى حَظْرِهِ فِي كُلِّ حَالٍ أَوْ عَلَى إيجَابِهِ فِي كُلِّ حَالٍ؛ فَأَمَّا مَا جَازَ أن يكون تَارَةً وَاجِبًا وَتَارَةً مَحْظُورًا وَتَارَةً مُبَاحًا، فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ فِي ذَلِكَ سَائِغٌ يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ، كَاخْتِلَافِ حُكْمِ الطَّاهِرِ وَالْحَائِضِ فِي الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَاخْتِلَافِ حُكْمِ الْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ فِي الْقَصْرِ وَالْإِتْمَامِ.
وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
فَمِنْ حَيْثُ جَازَ وُرُودُ النَّصِّ بِاخْتِلَافِ أَحْكَامِ النَّاسِ فِيهِ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ مُتَعَبِّدًا بِخِلَافِ مَا تَعَبَّدَ بِهِ الْآخَرُ، لَمْ يَمْتَنِعْ تَسْوِيغُ الِاجْتِهَادِ فِيمَا يُؤَدِّي إلَى الْخِلَافِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ النَّصِّ بِمِثْلِهِ؛ وَلَوْ كَانَ جَمِيعُ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَوَجَبَ أن لا يَجُوزَ وُرُودُ الِاخْتِلَافِ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ مِنْ طَرِيقِ النَّصِّ وَالتَّوْقِيفِ، فَمَا جَازَ مِثْلُهُ فِي النَّصِّ جَازَ فِي الِاجْتِهَادِ.
وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدَانِ فِي نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ، وَأُرُوشِ كَثِيرٍ مِنْ الْجِنَايَاتِ فَلَا يَلْحَقُ وَاحِدًا مِنْهَا لَوْمٌ، وَلَا تَعْنِيفٌ؛ وَهَذَا حُكْمُ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَذْمُومًا لَكَانَ لِلصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ، وَلَمَا وَجَدْنَاهُمْ مُخْتَلِفِينَ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَوَاصِلُونَ يُسَوِّغُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِصَاحِبِهِ مُخَالَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ لَوْمٍ، وَلَا تَعْنِيفٍ فَقَدْ حَصَلَ مِنْهُمْ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَسْوِيَةِ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَقَدْ حَكَمَ الله تعالى بِصِحَّةِ إجْمَاعِهِمْ وَثُبُوتِ حُجَّتِهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ.
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: {اخْتِلَافُ أُمَّتِي رَحْمَةٌ} وَقَالَ: {لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالٍ}؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الله تعالى لَمْ يَنْهَنَا بِقوله: {وَلَا تَفَرَّقُوا} عَنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
وَأَنَّ النَّهْيَ مُنْصَرِفٌ إلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا فِي النُّصُوصِ أَوْ فِيمَا قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ أَوْ سَمْعِيٌّ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا؛ وَفِي فَحَوَى الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الِاخْتِلَافُ وَالتَّفَرُّقُ فِي أُصُولِ الدِّينِ لَا فِي فُرُوعِهِ، وَمَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِالِاخْتِلَافِ فِيهِ، وَهُوَ قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} يَعْنِي بِالإسلام.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّقَ الْمَذْمُومَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ هُوَ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَالإسلام لَا فِي فُرُوعِهِ، وَالله أَعْلَمُ. اهـ.

.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}.
الحبل: إما بمعنى العهد، كما قال تعالى في الآية بعدها: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عِمْرَان: 112]. أي: بعهد وذمة، وإما بمعنى القرآن، كما في صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا وإني تارك فيكم ثقلين: أحدهما كتاب الله هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة...» الحديث، والوجهان متقاربان، فإن عهده أي: شرعه ودينه كتابه حرز للمتمسك به من الضلالة، كالحبل الذي يتمسك به خشية السقوط. وقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي: لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم. كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية، متدابرين، يعادي بعضكم بعضًا، ويحاربه. أو ولا تحدثوا ما يكون عنه التفرق، ويزول معه الاجتماع والألفة التي أنتم عليها مما يأباه جامعكم والمؤلف بينكم، وهو اتباع الحق والتمسك بالإسلام- أفاده الزمخشري-: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
قال الزمخشري: كانوا في الجاهلية بينهم الإحن والعداوات والحروب المتواصلة، فألف الله بين قلوبهم بالإسلام، وقذف فيها المحبة، فتحابوا وتوافقوا وصاروا إخوانًا متراحمين متناصحين مجتمعين على أمر واحد، قد نظم بينهم وأزال الاختلاف، وهو الأخوة في الله: {وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا} أي: طرف: {حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ} بما كنتم فيه من الجاهلية: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} أي: بالإسلام.
قال ابن كثير: وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج، فإنه كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم، والوقائع بينهم. فلما جاء الله بالإسلام، فدخل فيه من دخل منهم، صاروا إخوانًا متحابين بجلال الله، متواصلين في ذات الله، متعاونين على البر والتقوى. قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال: 62- 63] الآية. وكانوا على شفا حفرة من النار، بسبب كفرهم، فأنقذهم الله منها، إذ هداهم للإيمان. وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم قسم غنائم حنين، فعتب من عتب منهم، بما فضل عليهم في القسمة، بما أراه الله، فخطبهم فقال: «يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالًا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟» فكلما قال شيئًا قالوا: الله ورسوله أمنّ- انتهى-.
قال الزمخشري: الضمير في: {منها} للحفرة أو للنار أو للشفا، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة، وهو منها كما قال:
كما شرقت صدر القناة من الدم

انتهى.
وقال أبو حيان: لا يحسن عوده إلا إلى الشفا؛ لأنه المحدَّث عنه. انتهى.
وفي الانتصاف: يجوز عود الضمير إلى الحفرة، فلا يحتاج إلى تأويله المذكور، كما تقول: أكرمت غلام هند، وأحسنت إليها، والمعنى على عوده إلى الحفرة أتم، لأنها التي يمتن بالإنقاذ منها حقيقة، وأما الامتنان بالإنقاذ من الشفا، فلما يستلزمه الكون على الشفا غالبًا من الهويّ إلى الحفرة، فيكون الإنقاذ من الشفا إنقاذًا من الحفرة التي يتوقع الهويّ فيها. فإضافة المنة إلى الإنقاذ من الحفرة تكون أبلغ وأوقع. مع أن اكتساب التأنيث من المضاف إليه قد عده أبو علي في التعاليق من ضرورة الشعر، خلاف رأيه في الأيضاح- نقله ابن يسعون-.
وما حمل الزمخشري على إعادة الضمير إلى الشفا إلا أنه هو الذي كانوا عليه، ولم يكونوا في الحفرة حتى يمتن عليهم بالإنقاذ منها، وقد بينا في أدراج هذا الكلام ما يسوغ الامتنان عليهم بالإنقاذ من الحفرة، لأنهم كانوا صائرين إليها غالبًا، لولا الإنقاذ الرباني. ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: «الراتع حول الحمى يوشك أن يواقعه» وإلى قوله تعالى: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة: 109]. وانظر كيف جعل تعالى كون البنيان على الشفا سببًا مؤديًا إلى انهياره في نار جهنم، مع تأكيد ذلك بقوله: {هَارٍ}. والله أعلم- انتهى-.
ثم قال الزمخشري: وشفا الحفرة وشفتها: حرفها، بالتذكير والتأنيث، ولامها واو إلا أنها في المذكر مقلوبة، وفي المؤنث محذوفة، ونحو الشفا والشفة، الجانب والجانبة. انتهى.
وحكى الزجاج في تثنية شفا: شفوان. قال الأخفش لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو، لأنه الإمالة من الياء. كذا في الصحاح.
ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلوا على حرف حفرة من النار؟ قلت: لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار، فمثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار، بالقعود على حرفها مشفين على الوقوع فيها.
قال الرازي: وهذا فيه تنبيه على تحقير مدة الحياة، فإنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة، إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء.
{كَذَلِكَ} أي: مثل ذلك البيان: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ} في كل مكأن لانقاذكم عن الضلال فيه: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لرشدكم الديني والدنيوي فيه. اهـ.