فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنها صورة كاملة السمات، ناطقة بدخائل النفوس، وشواهد الملامح، تسجل المشاعر الباطنة، والانفعالات الظاهرة، والحركة الذاهبة الآيبة. وتسجل بذلك كله نموذجًا بشريًا مكرورًا في كل زمان وفي كل مكان. ونستعرضها اليوم وغدا فيمن حول الجماعة المسلمة من أعداء. يتظاهرون للمسلمين- في ساعة قوة المسلمين وغلبتهم- بالمودة. فتكذبهم كل خالجة وكل جارحة. وينخدع المسلمون بهم فيمنحونهم الود والثقة وهم لا يريدون للمسلمين إلا الاضطراب والخبال، ولا يقصرون في إعنات المسلمين ونثر الشوك في طريقهم، والكيد لهم والدس، ما واتتهم الفرصة في ليل أو نهار.
وما من شك أن هذه الصورة التي رسمها القرآن الكريم هذا الرسم العجيب، كانت تنطبق ابتداء على أهل الكتاب المجاورين للمسلمين في المدينة؛ وترسم صورة قوية للغيظ الكظيم الذي كانوا يضمرونه للإسلام والمسلمين، وللشر المبيت، وللنوايا السيئة التي تجيش في صدورهم؛ في الوقت الذي كان بعض المسلمين ما يزال مخدوعًا في أعداء الله هؤلاء، وما يزال يفضي إليهم بالمودة، وما يزال يأمنهم على أسرار الجماعة المسلمة؛ ويتخذ منهم بطانة وأصحابًا وأصدقاء، لا يخشى مغبة الإفضاء إليهم بدخائل الأسرار.
فجاء هذا التنوير، وهذا التحذير، يبصر الجماعة المسلمة بحقيقة الأمر، ويوعيها لكيد أعدائها الطبيعيين، الذين لا يخلصون لها أبدًا، ولا تغسل أحقادهم مودة من المسلمين وصحبة. ولم يجيء هذا التنوير وهذا التحذير ليكون مقصورًا على فترة تاريخية معينة، فهو حقيقة دائمة، تواجه واقعًا دائمًا.. كما نرى مصداق هذا فيما بين أيدينا من حاضر مكشوف مشهود..
والمسلمون في غفلة عن أمر ربهم: ألا يتخذوا بطانة من دونهم. بطانة من ناس هم دونهم في الحقيقة والمنهج والوسيلة. وألا يجعلوهم موضع الثقة والسر والاستشارة.. المسلمون في غفلة عن أمر ربهم هذا يتخذون من أمثال هؤلاء مرجعًا في كل أمر، وكل شأن، وكل وضع، وكل نظام، وكل تصور، وكل منهج، وكل طريق!
والمسلمون في غفلة من تحذير الله لهم، يوادون من حاد الله ورسوله؛ ويفتحون لهم صدورهم وقلوبهم. والله سبحانه يقول للجماعة المسلمة الأولى كما يقول للجماعة المسلمة في أي جيل: {ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر}.
والله سبحانه يقول: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ}.
والله سبحانه يقول: {أن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها}.
ومرة بعد مرة تصفعنا التجارب المرة، ولكننا لا نفيق.. ومرة بعد مرة نكشف عن المكيدة والمؤامرة تلبس أزياء مختلفة ولكننا لا نعتبر. ومرة بعد مرة تنفلت ألسنتهم فتنم عن أحقادهم التي لا يذهب بها ود يبذله المسلمون، ولا تغلسها سماحة يعلمها لهم الدين.. ومع ذلك نعود، فنفتح لهم قلوبنا ونتخذ منهم رفقاء في الحياة والطريق!.. وتبلغ بنا المجاملة، أو تبلغ بنا الهزيمة الروحية أن نجاملهم في عقيدتنا فنتحاشى ذكرها، وفي منهج حياتنا فلا نقيمه على أساس الإسلام، وفي تزوير تاريخنا وطمس معالمه كي نتقي فيه ذكر أي صدام كان بين أسلافنا وهؤلاء الأعداء المتربصين! ومن ثم يحل علينا جزاء المخالفين عن أمر الله. ومن هنا نذل ونضعف ونستخذي. ومن هنا نلقى العنت الذي يوده أعداؤنا لنا، ونلقى الخبال الذي يدسونه في صفوفنا..
وها هو ذا كتاب الله يعلمنا- كما علم الجماعة المسلمة الأولى- كيف نتقي كيدهم، وندفع أذاهم، وننجو من الشر الذي تكنه صدورهم، ويفلت على السنتهم منه شواظ: {وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط}.
فهو الصبر والعزم والصمود أمام قوتهم إن كانوا أقوياء؛ وأمام مكرهم وكيدهم إن سلكوا طريق الوقيعة والخداع. الصبر والتماسك لا الانهيار والتخاذل؛ ولا التنازل عن العقيدة كلها أو بعضها اتقاء لشرهم المتوقع أو كسبا لودهم المدخول.. ثم هو التقوى: الخوف من الله وحده. ومراقبته وحده.
هو تقوى الله التي تربط القلوب بالله، فلا تلتقي مع أحد إلا في منهجه، ولا تعتصم بحبل إلا حبله.. وحين يتصل القلب بالله فإنه سيحقر كل قوة غير قوته؛ وستشد هذه الرابطة من عزيمته، فلا يستسلم من قريب، ولا يواد من حاد الله ورسوله، طلبًا للنجاة أو كسبًا للعزة!
هذا هو الطريق: الصبر والتقوى.. التماسك والاعتصام بحبل الله. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة الله وحدها، وحققوا منهج الله في حياتهم كلها.. إلا عزوا وانتصروا، ووقاهم الله كيد أعدائهم، وكانت كلمتهم هي العليا. وما استمسك المسلمون في تاريخهم كله بعروة أعدائهم الطبيعيين، الذين يحاربون عقيدتهم ومنهجهم سرًا وجهرًا، واستمعوا إلى مشورتهم، واتخذوا منهم بطانة وأصدقاء وأعوانًا وخبراء ومستشارين.. إلا كتب الله عليهم الهزيمة، ومكن لأعدائهم فيهم، وأذل رقابهم، وأذاقهم وبال أمرهم.. والتاريخ كله شاهد على أن كلمة الله خالدة؛ وأن سنة الله نافذة. فمن عمي عن سنة الله المشهودة في الأرض، فلن ترى عيناه إلا آيات الذلة والإنكسار والهوان..
بهذا ينتهي هذا الدرس، وينتهي كذلك المقطع الأول في السورة. وقد وصل السياق إلى ذروة المعركة؛ وقمة المفاصلة الكاملة الشاملة.
ويحسن قبل أن ننهي هذا الدرس أن نقرر حقيقة أخرى، عن سماحة الإسلام في وجه كل هذا العداء. فهو يأمر المسلمين ألا يتخذوا بطانة من هؤلاء. ولكنه لا يحرضهم على مقابلة الغل والحقد والكراهية والدس والمكر بمثلها. إنما هي مجرد الوقاية للجماعة المسلمة وللصف المسلم، وللكينونة المسلمة.. مجرد الوقاية ومجرد التنبيه إلى الخطر الذي يحيطها به الآخرون.. أما المسلم فبسماحة الإسلام يتعامل مع الناس جميعا؛ وبنظافة الإسلام يعامل الناس جميعًا؛ وبمحبة الخير الشامل يلقى الناس جميعًا؛ يتقي الكيد ولكنه لا يكيد، ويحذر الحقد ولكنه لا يحقد. إلا أن يحارب في دينه، وأن يفتن في عقيدته، وأن يصد عن سبيل الله ومنهجه. فحينئذ هو مطالب أن يحارب، وأن يمنع الفتنة، وأن يزيل العقبات التي تصد الناس عن سبيل الله، وعن تحقيق منهجه في الحياة. يحارب جهادًا في سبيل الله لا انتقامًا لذاته. وحبًا لخير البشر لا حقدًا على الذين آذوه. وتحطيمًا للحواجز الحائلة دون إيصال هذا الخير للناس. لا حبًا للغلب والاستعلاء والاستغلال.. وإقامة للنظام القويم الذي يستمتع الجميع في ظله بالعدل والسلام. لا لتركيز راية قومية ولا لبناء امبراطورية!
هذه حقيقة تقررها النصوص الكثيرة من القرآن والسنة؛ ويترجمها تاريخ الجماعة المسلمة الأولى، وهي تعمل في الأرض وفق هذه النصوص.
إن هذا المنهج خير. وما يصد البشرية عنه إلا أعدى أعداء البشرية. الذين ينبغي لها أن تطاردهم، حتى تقصيهم عن قيادتها.. وهذا هو الواجب الذي انتدبت له الجماعة المسلمة، فأدته مرة خير ما يكون الأداء. وهي مدعوة دائمًا إلى أدائه، والجهاد ماض إلى يوم القيامة.. تحت هذا اللواء. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الفخر:

يقال ساء الشيء يسوء فهو سيء، والأنثى سيئة أي: قبح، ومنه قوله تعالى: {سَاء مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] والسوأى ضد الحسنى. اهـ.
قال: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل إن الله محيط بما يعملون لأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه، أعني وليس المقصود هاهنا بيان كونه تعالى عالمًا، بينا أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى ومجازيهم عليها، فلا جرم قد ذكر العمل، والله أعلم. اهـ.

.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ}.
بظهوركم على العدو، ونيلكم الغنيمة، وخصب معاشكم، وتتابع الناس في دينكم: {تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ} بإصابة العدو منكم، أو اختلاف بينكم، أو جدب أو بلية: {يَفْرَحُواْ بِهَا} ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة.
لطيفة:
المس أصله باليد، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا. والتعبير به في جانب الحسنة، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن. وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50] وقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79]. وقال: {إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج 20- 21].
قال ناصر الدين في الانتصاف: يمكن أن يقال: المس أقل تمكنًا من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام- والله أعلم- إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها. وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم، ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون. والله أعلم- انتهى-.
وهذا من أسرار بلاغة التنزيل. فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن. فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلًا. فكيف تتخذونهم بطانة؟. قال البقاعي: ولما كان هذا الأمر منكيًا غائظًا مؤلمًا داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ} أي: تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم، والالتجاء إلى ولايتهم: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه، المستعين به لا بغيره: ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه. والمستعين بغيره: مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه، أفاده القاشاني.
وقيل: المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال، جريئًا على الخصم. الكيد: الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قرئ بياء الغيبة، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه. وبتاء الخطاب، أي: بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله.
تنبيه مهم:
قال الرازي: إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالمًا بكل الأشياء، قادرًا على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله: {وَالله مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20]. انتهى.
أقول: ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث، وأخذ خاصتها به، وهو قياس مع الفارق. والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث. فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير الرحمن الرحيم من البسملة أول التنزيل الجليل. فارجع إليها. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا}.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ الْآيَاتِ السَّابِقَةَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ كَانَتْ فِي الْحِجَاجِ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَكَذَا مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالتَّبَعِ وَالْمُنَاسِبَةِ، وَإِنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَمُعَامَلَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَإِرْشَادِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ، أَيْ إِنَّ أَكْثَرَ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ لِبَيَانِ اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا ثَلَاثَ مُقَدِّمَاتٍ:
(1) أنه كَانَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ صِلَاتٌ كَانَتْ مَدْعَاةً إِلَى الثِّقَةِ بِهِمْ وَالْإِفْضَاءِ إِلَيْهِمْ بِالسِّرِّ وَإِطْلَاعِهِمْ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ، مِنْهَا الْمُحَالَفَةُ وَالْعَهْدُ، وَمِنْهَا النَّسَبُ وَالْمُصَاهَرَةُ، وَمِنْهَا الرَّضَاعَةُ.
(2) إِنَّ الْغِرَّةَ مِنْ طَبْعِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَبْنِي أَمْرَهُ عَلَى الْيُسْرِ وَالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَلَا يَبْحَثُ عَنِ الْعُيُوبِ؛ وَلِذَلِكَ يَظْهَرُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ وَإِنْ كَانَ بَلِيدًا مَا لَا يَظْهَرُ لَهُ هُوَ وَإِنْ كَانَ ذَكِيًّا.
(3) إِنَّ الْمُنَاصِبِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ كَانَ هَمُّهُمُ الْأَكْبَرُ إِطْفَاءَ نُورِ الدَّعْوَةِ وَإِبْطَالَ مَا جَاءَ بِهِ الإسلام، وَكَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ الْأَكْبَرِ نَشْرَ الدَّعْوَةِ وَتَأْيِيدَ الْحَقِّ، فَكَانَ الْهَمَّانِ مُتَبَايِنَيْنِ، وَالْقَصْدَانِ مُتَنَاقِضَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: فَإِذَا كَانَتْ حَالَةُ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى مَا ذُكِرَ فَهِيَ لَا شَكَّ مُقْتَضِيَةٌ لِأَنْ يُفْضِي النَّسِيبُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نَسِيبِهِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَالْمُحَالِفُ مِنْهُمْ لِمُحَالِفِهِ مَنْ غَيْرِهِمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ الَّتِي هِيَ مَوْضُوعُ التَّبَايُنِ وَالْخِلَافِ بَيْنَهُمْ، وَفِي ذَلِكَ تَعْرِيضُ مَصْلَحَةِ الْمِلَّةِ لِلْخَبَالِ، لِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ تعالى لِلصِّلَاتِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمْ حَدًّا لَا يَتَعَدُّونَهُ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ.
بِطَانَةُ الرَّجُلِ: وَلِيجَتُهُ وَخَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ وَيَتَوَلَّوْنَ سِرَّهُ، مَأْخُوذٌ مِنْ بِطَانَةِ الثَّوْبِ وَهُوَ الْوَجْهُ الْبَاطِنُ مِنْهُ، كَمَا يُسَمَّى الْوَجْهُ الظَّاهِرُ: ظِهَارَةً، ومِنْ دُونِكُمْ مَعْنَاهُ مِنْ غَيْرِكُمْ، ويَأْلُونَكُمْ مِنَ الْإِلْوِ: وَهُوَ التَّقْصِيرُ وَالضَّعْفُ، والْخَبَالُ فِي الْأَصْلِ الْفَسَادُ الَّذِي يَلْحَقُ الْحَيَوَانَ فَيُورِثُهُ اضْطِرَابًا كَالأمراضِ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْمُخِّ فَيَخْتَلُّ إِدْرَاكُ الْمُصَابِ بِهَا، أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ وَلَا يَنُونَ فِي إِفْسَادِ أَمْرِكُمْ، وَالْأَصْلُ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ أَلَا أَنْ يُقَالَ فِيهِ نَحْوُ: لَا آلُو فِي نُصْحِكَ وَسُمِعَ مِثْلُ لَا آلُوكَ نُصْحًا عَلَى مَعْنَى لَا أَمْنَعُكَ نُصْحًا، وَهُوَ مَا يُسَمُّونَهُ التَّضْمِينَ. وعَنِتُّمْ مِنَ الْعَنَتِ وَهُوَ الْمَشَقَّةُ الشَّدِيدَةُ، والْبَغْضَاءُ: شِدَّةُ الْبُغْضِ.
أَمَّا سَبَبُ النُّزُولِ: فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ يَهُودَ لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ- يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ الْقَوْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الرَّازِيُّ وَجْهًا ثَالِثًا:أَنَّهَا فِي الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ عَامَّةً. قَالَ: وَأَمَّا مَا تَمَسَّكُوا بِهِ مِنْ أَنَّ مَا بَعْدَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُنَافِقِينَ فَهَذَا ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ إِذَا كَانَ عَامًّا وَآخِرَهَا إِذَا كَانَ خَاصًّا لَمْ يَكُنْ خُصُوصُ آخِرِ الْآيَةِ مَانِعًا عُمُومَ أَوَّلِهَا وَسَيَأْتِي عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ.
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ نَهْيُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَّخِذُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِطَانَةً مِنَ الْكَافِرِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قوله: {لَا يَأْلُونَكُمْ} إِلَخْ نُعُوتٌ لِلْبِطَانَةِ هِيَ قُيُودٌ لِلنَّهْيِ، وَكَذَا عَلَى الْقَوْلِ بأنه كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ مَسُوقٌ لِلتَّعْلِيلِ، فَالْمُرَادُ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ بِمَنْ كَانُوا فِي عَدَاوَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يَأْلُونَهُمْ خَبَالًا وَإِفْسَادًا لِأَمْرِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا. فَهَذَا هُوَ الْقَيْدُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ أَيْ تَمَنَّوْا عَنَتَكُمْ، أَيْ وُقُوعَكُمْ فِي الضَّرَرِ الشَّدِيدِ وَالْمَشَقَّةِ. وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ قوله: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} أَيْ قَدْ ظَهَرَتْ عَلَامَاتُ بَغْضَائِهِمْ لَكُمْ مِنْ كَلَامِهِمْ، فَهِيَ لِشِدَّتِهَا مِمَّا يَعُوزُهُمْ كِتْمَانُهَا وَيَعِزُّ عَلَيْهِمْ إِخْفَاؤُهَا، عَلَى أَنَّ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنْهَا أَكْبَرُ مِمَّا يَفِيضُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَيْهِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْبَغْضَاءِ وَالْعَدَاوَةِ مِمَّا يَلْقَاهُ الْقَائِمُونَ بِكُلِّ دَعْوَةٍ جَدِيدَةٍ فِي الْإِصْلَاحِ مِمَّنْ يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ، وَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ الْأَوَّلُونَ يَعْرِفُونَ سُنَّةَ الْبَشَرِ فِي ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَكُونُوا عَلَى عِلْمٍ بِطَبَائِعِ الْمِلَلِ وَقَوَانِينِ الِاجْتِمَاعِ وَحَوَادِثِ التَّارِيخِ حَتَّى أَعْلَمَهُمُ اللهُ بِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ يَعْنِي بِالْآيَاتِ هُنَا: الْعَلَامَاتِ الْفَارِقَةَ بَيْنَ مَنْ يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً وَمَنْ لَا يَصِحُّ أَنْ يُتَّخَذَ لِخِيَانَتِهِ وَسُوءِ عَاقِبَةِ مُبَاطَنَتِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُدْرِكُونَ حَقَائِقَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْفُصُولَ الْفَارِقَةَ بَيْنَ الْأَعْدَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فَاعْتَبِرُوا بِهَا وَلَا تَتَّخِذُوا أُولَئِكَ بِطَانَةً.