فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ ظالمون}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ ظالمون}:

.قال الفخر:

إن كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفر صح الكلام وهو أنه تعالى سماهم ظالمين، لأن الشرك ظلم قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وإن كان الغرض منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره صح الكلام أيضا، لأن من عصى الله فقد ظلم نفسه. اهـ.

.قال أبو السعود:

{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَئ} اعتراضٌ وُسِّط بين المعطوف عليه المتعلّقِ بالعاجل والمعطوفِ المتعلّقِ بالآجل لتحقيق أن لا تأثيرَ للمنصورين إثرَ بيانِ أن لا تأثيرَ للناصرين، وتخصيصُ النفيِ برسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق تلوينِ الخطابِ للدلالة على الانتفاءِ من غيره بالطريق الأولى، وإنما خُصّ الاعتراضُ بموقعه لأن ما قبله من القطع والكبْتِ من مظانِّ أن يكون فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولسائر مباشري القتالِ مدخَلٌ في الجملة {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ} عطفٌ على يكبِتَهم والمعنى أن مالِكَ أمرِهم على الإطلاق هو الله عز وجل نصرَكم عليهم ليُهلِكَهم أو يكبتَهم أو يتوبَ عليهم إن أسلموا أو يعذبَهم إن أصرّوا (على الكفر) وليس لك من أمرهم شيءٌ إنما أنت عبدٌ مأمورٌ بإنذارهم وجهادِهم والمرادُ بتعذيبهم التعذيبُ الشديدُ الأخرويُّ المخصوصُ بأشد الكفَرةِ كُفرًا، وإلا فمطلقُ التعذيبِ الأخرويِّ متحققٌ في الفريقين الأولين أيضا، ونظمُ التوبةِ والتعذيبِ المذكورِ في سلك العلةِ الغائيةِ للنصر المترتبةِ عليه في الوجود من حيث إن قبولَ توبتِهم فرْعُ تحققِها الناشئ من علمهم بحقية الإسلام بسبب غلبةِ أهلِه المترتبةِ على النصر، وأن تعذيبَهم بالعذاب المذكورِ مترتبٌ على إصرارهم على الكفر بعد تبيُّنِ الحقِّ على الوجه المذكورِ. اهـ.

.قال الفخر:

يحتمل أن يكون المراد من العذاب المذكور في هذه الآية عذاب الدنيا، وهو القتل والأسر وأن يكون عذاب الآخرة، وعلى التقديرين فعلم ذلك مفوض إلى الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {أَوْ يَتُوبَ} في نصبه أوجهٌ:
أحدها: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه، تقديره: لِيقطَعَ، أو يتوبَ عليهم، أو يكبتهم، أو يعذبهم.
وعلى هذا فيكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن، والمعنى: إن الله تعالى هو المالك لأمرهم، فإن شاء قطع طرفًا منهم، أو هزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء، والزجاج.
الثاني: أن أو هنا بمعنى إلا أن كقولهم: لألزمنك أو تقضين حقي أي: إلا أن تقتضينه.
الثالث: {أوْ} بمعنى: حتى، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء}، والمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه، أو يعذبهم بقتل، أو نار في الآخرة، فتشقى بهم، وممن ذهب إلى ذلك الفراء، وأبو بكر بن الأنباري، قال الفراء: ومثل هذا من الكلام: لألزمنك أو تعطيني، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ** تُحَاوِلُ مُلْكًا، أوْ تَمُوتَ، فَعُذَرَا

أراد: حتى تموت، أو: إلا أن تموت.
قال شهاب الدين: وفي تقدير بيت امرئ القيس بحتى نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى: إلا أنْ.
الثالث: منصوب بإضمار: أنْ عطفًا على قوله: {الأمر}، كأنه قيل: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو تعذيبهم شيء، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه، فهو من باب قوله: [الطويل]
فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ ** وَآلُ سُبَيْعٍ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا

وقوله: [الوافر]
لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ، وَتَقَرَّ عَيْنِي ** أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ

الرابع: أنه معطوف- بالتأويل المذكور- على {شَيءٌ}، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء، أو توبة الله عليهم، أو تعذيبهم، أي: ليس لك- أيضا- توبتهم ولا تعذيبهم، إنما ذلك راجع إلى الله عز وجل.
وقرأ أبَيّ: أو يتوبُ، أو يعذبهم، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية، أضْمِر مبتدؤُها، أي: هو يتوبُ، ويعذبُهم. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من فوائد الفخر:

قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ ظالمون} جملة مستقلة، إلا أن المقصود من ذكرها تعليل حسن التعذيب، والمعنى: أو يعذبهم فإنه إن عذبهم إنما يعذبهم لأنهم ظالمون. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
وجملة {ليس لك من الأمر شيء} معترضة بين المتعاطفات، والخطاب للنَّبيء صلى الله عليه وسلم فيجوز أن تُحْمَل على صريح لفظها، فيكون المعنى نفي أن يكون للنَّبيء، أي لقتاله الكفارَ بجيشه من المسلمين، تأثير في حصول النَّصر يوم بدر، فإن المسلمين كانوا في قلّة من كُلّ جانب من جوانب القتال، أي فالنصر حصل بمحض فضل الله على المسلمين، وهذا من معنى قوله: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17].
ولفظ {الأمر} من قوله: {ليس لك من الأمر شيء} معناه الشأن، و(أل) فيه للعهد، أي من الشأن الذي عرفتموه وهو النَّصر.
ويجوز أن تحمل الجملة على أنَّها كناية عن صرف النَّبيء عليْه الصلاة والسلام عن الاشتغال بشأن ما صنع الله بالَّذين كفروا، من قطع طَرفهم، وكبْتِهم أو توبة عليهم، أو تعذيب لهم: أي فذلك موكول إلينا نحقّقُه متى أردنا، ويتخلّف متى أردنا على حسب ما تقتضيه حكمتنا، وذلك كالاعتذار عن تخلّف نصر المُسلمين يوم أحُد.
فلفظ {الأمر} بمعنى شأن المشركين.
والتعريفُ فيه عوض عن المضاف إليه، أي ليس لك من أمرهم اهتمام.
وهذا تذكير بما كان للنَّبيء صلى الله عليه وسلم يوم بدر من تخوّف ظهور المشركين عليه، وإلحاحه في الدّعاء بالنَّصر.
ولعلّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم كان يوَدّ استئصال جميع المشركين يوم بدر حيث وجد مقتضى ذلك وهو نزول الملائكة لأهلاكهم، فذكّره الله بذلك أنه لم يقدّر استيصالهم جميعًا بل جعل الانتقام منهم ألوانًا فانتقم من طائفة بقطع طرَف منهم، ومن بقيّتهم بالكَبْتتِ، وهو الحزن على قتلاهم، وذهاب رؤسائهم، واختلال أمورهم، واستبقى طائفة ليتوب عليهم ويهديهم، فيكونوا قوّة للمسلمين فيؤمنوا بعد ذلك، وهم من آمن من أهل مكَّة قبل الفتح، ويوم الفتح: مثل أبي سفيان، والحارث بن هشام أخي أبي جهل، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وخالد بن الوليد، وعذّب طائفة عذاب الدنيا بالأسر، أو بالقتل: مثل ابن خَطل، والنضْر بن الحارث، فلذلك قيل له: {ليس لك من الأمر شيء}.
ووضعت هذه الجملة بين المتعاطفات ليظهر أنّ المراد من الأمر هو الأمر الدائر بين هذه الأحوال الأربعة من أحوال المشركين، أي ليس لك من أمر هذه الأحوال الأربعة شيء ولكنّه موكول إلى الله، هو أعلم بما سيصيرون إليه وجَعل هذه الجملة قبل قوله: {أو يتوب عليهم} استئناس للنَّبيء صلى الله عليه وسلم إذ قُدّم ما يدلّ على الانتقام منهم لأجله، ثُمّ أردف بما يدلّ على العفو عنهم، ثُمّ أردف بما يدلّ على عقابهم، ففي بعض هذه الأحوال إرضاء له من جانب الانتصار له، وفي بعضها إرضاء له من جانب تطويعهم له.
ولأجل هذا المقصد عاد الكلام إلى بقية عقوبات المشركين بقوله تعالى: {أو يعذبهم}.
ولكون التَّذكير بيوم بدر وقع في خلال الإشارة إلى وقعة أحُد، كأنّ في هذا التَّقسيم إيماء إلى ما يصلح بيانًا لِحكمة الهزيمة اللاحقة المسلمين يوم أحُد، إذ كان في استبقاء كثير من المشركين، لم يصبهم القتلُ يومئذ، ادّخار فريق عظيم منهم للإسلام فيما بعد، بَعْد أن حصل رعبهم من المسلمين بوقعة بدر، وإن حسِبوا للمسلمين أي حساب بما شاهدوه من شجاعتهم يوم أحُد، وإن لم ينتصروا.
ولا يستقيم أن يكون قوله: {ليس لك من الأمر شيء} متعلّقًا بأحوال يوم أحُد: لأنّ سياق الكلام ينبو عنه، وحال المشركين يوم أحُد لا يناسبه قوله: {ليقطع طرفًا من الذين كفروا} إلى قوله: {خائبين}.
ووقع في صَحِيح مسلم، عن أنس بن مالك: أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم شُجّ وجهه، وكُسرت رباعيته يوم أحُد، وجاء المسلمون يمسحون الدم عن وجه نبيّهم، فقال النَّبيء عليْه السَّلام: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى ربّهم» أي في حال أنه يدعوهم إلى الخير عند ربّهم، فنزلت الآية، ومعناه: لا تستبْعِد فلاحهم.
ولا شكّ أن قوله فنزلت هذه الآية مُتأوّل على إرادة: فذُكِّر النَّبيء صلى الله عليه وسلم بهذه الآية، لظهور أن ما ذكروه غير صالح لأن يكون سببًا لأنّ النَّبيء تعجّب من فلاحهم أو استبعده، ولم يدّع لنفسه شيئًا، أو عملًا، حتَّى يقال: {ليس لك من الأمر شيء}.
وروى الترمذي: أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم دعا على أربعة من المشركين، وسمّى أناسًا، فنزلت هذه الآية لنهيه عن ذلك، ثُمّ أسلموا.
وقيل: أنه همّ بالدعاء، أو استأذن الله أن يدعو عليهم بالاستيصال، فنهى.
ويردّ هذه الوجوه ما في صحيح مسلم، عن ابن مسعود، قال: كأنِّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيئًا من الأنبياء ضربه قومه، وهو يمسح الدم عن وجهه، وهو يقول: ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون.
وورد أنه لمَّا شجّ وجهه يوم أحُد قال له أصحابه: لو دعوت عليهم، فقال: إنِّي لم أبعث لَعَّانًا، ولكِنِّي بعثت داعيًا ورحمة، اللهمّ اهْدِ قومي فإنَّهم لا يعلمون.
وما ثبت من خُلقه صلى الله عليه وسلم أنه كأن لا ينتقم لنفسه.
وأغرَبَ جماعة فقالوا نزل قوله: {ليس لك من الأمر شيء} نسخًا لما كان يدعو به النَّبيء صلى الله عليه وسلم في قنوته على رِعْل، وذكْوان، وعُصية، ولِحْيان، الَّذين قتلوا أصحاب بئر معونة، وسندهم في ذلك ما وقع في البخاري أنّ النَّبيء صلى الله عليه وسلم لم يزل يدعو عليهم، حتَّى أنزل الله: {ليس لك من الأمر شيء}.
قال ابن عطية: وهذا كلام ضعيف كله وليس هذا من مواضع الناسخ والمنسوخ.
وكيف يصحّ أن تكون نزلت لنسخ ذلك وهي متوسطة بين علل النَّصر الواقع يوم بدر.
وتفسيرُ ما وقع في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم ترك الدعاء على المشركين بعد نزول هذه الآية أخذًا بكامل الأدب، لأنّ الله لمَّا أعلمه في هذا بما يدلّ على أن الله أعلَمُ بما فيه نفع الإسلام، ونقمة الكفر، ترك الدعاء عليهم إذ لعلّهم أن يسلموا.
وإذ جعلنا دعاءه صلى الله عليه وسلم على قبائل من المشركين في القنوت شرعًا تقررّ بالاجتهاد في موضع الإباحة لأن أصل الدعاء على العدوّ مباح، فتركه لذلك بعد نزول هذه الآية، من قبيل النسخ بالقياس، نسخت حكم الإباحة التي هي استواء الفعل والترك بإثبات حكم أولوية الفعل.
ومنهم من أبعد المرمى، وزعم أن قوله: {أو يتوب عليهم} منصوب بأن مضمرة وجوبًا، وأنّ {أو} بمعنى حتَّى: أي ليس لك من أمر إيمانهم شيء حتَّى يتوب الله عليهم، أي لا يؤمنون إلاّ إذا تاب عليهم، وهل يجهل هذا أحد حتَّى يحتاج إلى بيانه، على أن الجملة وقعت بين علل النصر، فكيف يشتّت الكلام، وتنتثر المتعاطفات.
ومنهم من جعل {أو يتوب عليهم} عطفًا على قوله: {الأمر} أو على قوله: {شيء}، من عطف الفعل على اسم خالص بإضمار أنْ على سبيل الجواز، أي ليس لك من أمرهم أو توبتهم شيء، أو ليس لك من الأمر شيء أو توبة عليهم.
فإن قلت: هلاّ جمع العقوبات متوالية: فقال ليقطع طرفًا من الَّذين كفروا، أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، أو يتوبَ عليهم، أو يعذّبهم، قلت: روعي قضاء حقّ جمع النظير أولًا، وجمع الضدّين ثانيًا، بجمع القَطْع والكبْتتِ، ثم جمع التوبة والعذاب، على نحو ما أجاب به أبو الطيب عن نقد من نقد قوله في سيف الدّولة:
وقفتَ وما في الموت شَكّ لواقف ** كأنَّك في جفن الردى وهو نائم

تَمُرّ بك الأبطال كَلْمى حزينة ** ووَجْهُك وَضّاح وثَغرك باسم

إذ قدّم من صفتيه تشبيهه بكونه في جفن الردى لمناسبة الموت، وأخَّر الحال وهي ووجهك وضّاح لمضادّة قوله كلمى حزينة، في قصة مذكورة في كتب الأدب.
واللام الجارّة لام الملك، وكاف الخطاب لمعيّن، وهو الرسول عليه الصّلاة والسّلام.
وهذه الجملة تجري مجرى المثل إذ ركبت تركيبًا وجيزًا محذوفًا منه بعض الكلمات، ولم أظفر، فيما حفظت من غير القرآن، بأنها كانت مستعملة عند العرب، فلعلّها من مبتكرات القرآن، وقريب منها قوله: {وما أملك لك من الله من شيء} [الممتحنة: 4] وسيجيء قريب منها في قوله الآتي: {يقولون هل لنا من الأمر من شيء} [آل عمران: 154] و{يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} [آل عمران: 154] فإن كانت حكاية قولهم بلفظه، فقد دلّ على أنّ هذه الكلمة مستعملة عند العرب، وإن كان حكاية بالمعنى فلا.
وقوله: {فإنهم ظالمون} إشارة إلى أنَّهم بالعقوبة أجدر، وأنّ التّوبة عليهم إن وقعت فضل من الله تعالى. اهـ.