فصل: من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ}:

.قال الفخر:

وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه وجهان:
الأول: أنه حال من فعل الإصرار، والتقدير: ولم يصروا على ما فعلوا من الذنوب حال ما كانوا عالمين بكونها محظورة محرمة لأنه قد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بحرمته فإنه لا يعذر في فعله ألبتة.
الثاني: أن يكون المراد منه العقل والتمييز والتمكين من الاحتراز من الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث». اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فيه أقوال.
فقيل: أي يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها.
قال النحاس: وهذا قول حسن.
وقيل: {وَهُمْ يَعْلَمُون} أني أُعاقب على الإصرار.
وقال عبد الله بن عبيد ابن عُمير {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم إن تابوا تاب الله عليهم.
وقيل: {يَعْلَمُونَ} أنهم إن استغفروا غفر لهم.
وقيل: {يَعْلَمُونَ} بما حرّمتُ عليهم؛ قاله ابن إسحاق.
وقال ابن عباس والحسن ومقاتل والكلبِي: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أن الإصرار ضار، وأن تركه خير من التمادِي.
وقال الحسن بن الفضل: {وَهُمْ يَعلْمَوُنَ} أن لهم ربًا يغفر الذنب.
قلت: وهذا أخذه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يَحكِي عن ربه عز وجل قال: «أذنبَ عبدٌ ذنبًا فقال اللهم اغفر لي ذنبي فقال تبارك وتعالى أذنب عبدي ذنبًا فعَلِم أن له ربًّا يغفِر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال أيْ ربِّ اغفر لي ذنبي فذكر مثله مرتين، وفي آخره: اعمل ما شئتَ فقد غفرتُ لك» أخرجه مسلم.
وفيه دليلٌ على صحة التوبة بعد نَقْضها بمُعاوَدة الذّنب؛ لأن التوبة الأولى طاعةٌ وقد انقضت وصحَّتْ، وهو محتاج بعد مواقعة الذنب الثاني إلى توبة أُخرى مستأنفة، والعود إلى الذنب وإن كان أقبح من ابتدائه؛ لأنه أضاف إلى الذنب نقض التوبة، فالعود إلى التوبة أحسن من ابتدائها؛ لأنه أضاف إليها ملازمة الإلْحَاح بباب الكريم، وأنه لا غافر للذنوب سواه.
وقوله في آخر الحديث «اعمل ما شئت» أمرٌ معناه الإكرام في أحد الأقوال؛ فيكون من باب قوله: {ادخلوها بِسَلامٍ} [الحجر: 46].
وآخر الكلام خَبرٌ عن حال المخاطب بأنه مغفور له ما سلف من ذنبه، ومحفوظ إن شاء الله تعالى فيما يستقبل من شأنه.
ودلّت الآية والحديثُ على عظيم فائدة الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه» أخرجاه في الصحيحين.
وقال:
يستوجبُ العفوَ الفتى إذَا اعتَرفْ ** بما جَنَى من الذنوب واقترفْ

وقال آخر:
أقرِرْ بذنبك ثم اطلُبْ تجاوُزَه ** إن الجُحُودَ جُحُودَ الذّنْب ذنبان

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو لم تُذْنِبُوا لذهب الله بكم ولَجَاء بقوم يُذنبون ويستغفرون فيغفر لهم» وهذه فائدة اسم الله تعالى الغفّار والتوّاب، على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. اهـ.

.قال أبو حيان نقلا عن الزمخشري:

وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون، وتائبون، ومصرّون.
وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه.
وآخره على طريقته الاعتزالية من: أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبدًا. اهـ.

.قال القرطبي:

الذنوب التي يُتاب منها إمّا كُفْرٌ أو غيره، فتوبة الكافر إيمانُه مع ندمِه على ما سلف من كفره، وليس مجرّدُ الإيمان نفسَ توبة، وغير الكفر إمّا حقٌّ لله تعالى، وإمّا حقٌّ لغيره، فحق الله تعالى يكفي في التوبة منه التَّركُ؛ غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيها بمجرّد الترك بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاءً كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالْحِنث في الإيمان والظِّهار وغير ذلك، وأمّا حقوقُ الآدميّين فلابد من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجَدوا تُصدّق عنهم، ومن لم يجد السبيل لخروج ما عليه لإعسارٍ فعفو الله مأمولٌ، وفضله مبذولٌ؛ فكم ضمِن من التبِعات وبدّل من السيئات بالحسنات.
وستأتي زيادة بيان لهذا المعنى. اهـ.
وقال رحمه الله أيضا:
ليس على الإنسان إذا لم يذكر ذَنْبه ويعلمْه أن يتوب منه بعينه، ولكن يلزمه إذا ذكر ذنبًا تاب منه.
وقد تأوّل كثير من الناس فيما ذكر شيخنا أبو محمد عبد المعطي الأسكندرانيّ رضي الله عنه أن الإمام المحاسبيّ رحمه الله يرى أن التوبة من أجناس المعاصي لا تصح، وأن الندم على جملتها لا يكفي، بل لابد أن يتوب من كل فعلٍ بجارحته وكل عقد بقلبه على التعيين.
ظنوا ذلك من قوله، وليس هذا مراده، ولا يقتضيه كلامه، بل حكم المكلَّف إذا عرف أفعاله، وعرف المعصية من غيرها، صحّتْ منه التوبة من جملة ما عرف؛ فإنه إن لم يعرف كون فعله الماضي معصية لا يمكنه أن يتوب منه لا على الجملة ولا على التفصيل؛ ومثاله رجل كان يتعاطى بابًا من أبواب الربا ولا يعرف أنه رِبا فإذا سمع كلام الله عز وجل: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279- 278] عظم عليه هذا التهديد، وظن أنه سالم من الربا، فإذا علم حقيقة الربا الآن، ثم تفكر فيما مضى من أيامه وعلم أنه لابَسَ منه شيئًا كثيرًا في أوقات متقدّمة، صحّ أن يندم عليه الآن جملة، ولا يلزمه تعيينُ أوقاته، وهكذا كل ما واقع من الذنوب والسيئات كالغيبة والنَّميمة وغيرِ ذلك من المحرّمات التي لم يعرف كونها محرّمة، فإذا فَقُه العبد وتفقَّد ما مضى من كلامه تاب من ذلك جملةً، ونَدِم على ما فرّط فيه من حق الله تعالى، وإذا استحلّ مَن كان ظلمه فحالَلَهُ على الجملة وطابت نفسه بترك حقه جاز؛ لأنه من باب هبة المجهول، هذا مع شُحِّ العبد وحرصه على طلب حقه، فكيف بأكرم الأكرمين المتفضل بالطاعات وأسبابها والعفوِّ عن المعاصي صغارها وكبارها.
قال شيخنا رحمه الله تعالى هذا مراد الإمام، والذي يدل عليه كلامه لمن تفقَّده، وما ظنه به الظّانّ من أنه لا يصح الندم إلا على فِعلٍ فِعلٍ وحركةٍ حركةٍ وسكنةٍ سكنةٍ على التعيين هو من باب تكْلِيف ما لا يُطاق، الذي لم يقع شرعًا وإن جاز عقلًا، ويلزم عنه أن يعرف كم جرعة جرعها في شرب الخمر، وكم حركة تحركها في الزنا، وكم خطوة مَشاها إلى محرّم، وهذا ما لا يطيقه أَحدٌ، ولا تتأتّى منه توبة على التفصيل.
وسيأتي لهذا الباب مزيدُ بيان من أحكام التوبة وشروطها في النساء وغيرها إن شاء الله تعالى. اهـ. بتصرف يسير.

.قال الخطيب الشربيني:

تنبيه: لا يلزم من إعداد الجنة للمتقين والتائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرون كما لا يلزم من إعداد النار للكافرين جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم، فقول الزمخشري في الكشاف وفي هذه الآيات بيان قاطع على أنّ الذين آمنوا على ثلاث طبقات: متقون وتائبون ومصرون وأنّ الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ومن خلف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه جار على طريق الاعتزال من أن مرتكب الكبيرة إذا مات مصرًّا لا يدخل الجنة ونعوذ بالله من ذلك بل كل من مات على الإسلام يدخل الجنة وهو تحت المشيئة إن شاء الله عذبه، وإن شاء عفا عنه. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {والذين إذا فعلوا فاحشة}.
يجوز أن يكون معطوفًا على الموصول قبله، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكون الجملةُ من قوله: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] جملة اعتراض بين المتعاطفين.
ويجوز أن يكون {والذين} مرفوعًا بالابتداء، و{أولَئِكَ} مبتدأ ثانٍ، و{جَزَاؤهُمْ} مبتدأ ثالث، و{مَغْفِرَةٌ} خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول.
وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرط، وجوابه: {ذَكَرُواْ}.
قوله: {فاستغفروا} عطف على الجواب، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول، والمفعول الأول لـ {اسْتَغْفَرُوا} محذوف، أي: استغفروا الله لذنوبهم، وقد تقدم الكلام على استغفر، وأنه تعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، وليس هو هذه اللام، بل {من} وقد يُحْذَف.
الفاحشة- هنا- نعت محذوف، تقديره: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً.
وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد، فقوله: {فَاحِشَةً} يعني: قبيحة، خارجة عما أذن الله فيه.
قال جَابِر: الفاحشة: الزنا؛ لقوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَائِكُمْ} [النساء: 15]، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى أنه كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32].
قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ} استفهام بمعنى: النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء.
قوله: {إلاَّ الله} بدل من الضمير المستكن في {يَغْفِرُ}، والتقدير: لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى، والمختار- هنا- الرفع على البدل، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130].
وقال أبو البقاء {مَنْ} مبتدأ، {يَغْفِرُ} خبره، و{إلاَّ الله} فاعل {يَغْفِرُ}، أو بدل من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت {اللهُ} فاعلًا، احتجْتَ إلى تقدير ضمير، أي: ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله.
قال شهَابُ الدين: وهذا الذي قاله- أعني: جعله الجلالة فاعلًا- يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام- هنا- لا يُراد به حقيقته، إنما يرادُ النفي، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلًا من ذلك الضمير المستتر، والعائد على من الاستفهامية.
ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه.
قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل {فاستغفروا} أي: ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم إصرارهم عليها، وتكون الجملة من قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله}- على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول.
فصل:
وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء.
قال الحسن: إتيان العبد ذَنْبًا عَمْدًا إصرار، حتى يتوب.
وقال السُّدِّي: الإصرار: السكوت وتَرْك الاستغفار.
وعن أبي نُصيرة قال: لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له: أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئًا؟
قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً».
وقيل: الإصرار: المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم: صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه: صُرَّة الدراهم- لما يربط منها-.
قال الحُطَيْئة: يصف خيلًا: [الطويل]
عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا ** عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ

أي: ثبتت، وأقامت، مداومة على ما حملت عليه.
وقال الشاعر: [البسيط]
يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ ** يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ

وما في قوله: {على مَا فَعَلُواْ} يجوز أن تكون اسمية بمعنى: الذي، ويجوز أن تكون مصدرية.
قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يكون حالًا ثانية من فاعل {فاستغفروا}، وأن يكون حالًا من فاعل {يُصِرُّوا}، والتقدير: ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر.
ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف للعلم به.
فقيل: تقديره: يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد.
وقيل: يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن.
وقيل: يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها.
وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: وهم يعلمون أنها معصية.
وقيل: وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار.
وقال الضَّحَّاكُ: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل: وهم يعلمون أن لهم ربًا يغفر الذنوب.
وقيل: وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب- وإن كثرت-.
وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم. اهـ. بتصرف يسير.