فصل: فصل في مواعظ الآباء للأبناء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ابن المُبارك قال: كتب سَلْمان الفارسيّ إلى أبي الدّرداء: أما بعد، فإنك لن تنال ما تُريد إلا بترْكِ ما تشتهي، ولن تنال ما تأمُل إلا بالصَّبر على ما تَكْره. فَلْيكُن كلامُك ذِكْرًا، وصَمْتك فِكْرا، ونظرك عِبَرا، فإنّ الدُّنيا تتقلب، وبهجتها تتغيَّر، فلا تغترّ بها، وليكن بيتُك المسجدَ، والسلام. فأجابه أبو الدَّرداء: سلامٌ عليك، أما بعد، فإنِّي أُوصيك بتَقْوَى الله، وأن تأخذ من صِحَّتِك لِسَقَمِك، ومن شبابك لهِرَمك، ومن فراغك لِشُغلك، ومن حياتك لمَوْتك، ومن جَفائك لمودَّتك، واذكر حياةً لا موتَ فيها في إحدى المنزلتين: إما في الجنة، وإما في النار، فإنك لا تَدْري إلى أيهما تَصير.
وكتب أبو موسى الأشعريّ إلى عامر بن عبد القَيْس: أما بعد، فإني عاهدتُكَ على أمر وبَلغني أنك تغيَّرت، فإن كنتَ على ما عَهِدْتُك فاتق الله ودُمْ، وإن كنتَ على ما بلغني فاتّقِ الله وعُدْ.
وكتب محمد بن النَّضر إلى أخِ له: أما بعدُ، فإنك على مَنْهج، وأمامك منزلأن لابد لك من نُزول أحدهما، ولم يَأتِك أمانٌ فتَطْمَئنَّ، ولا براءة فتتَّكل.
وكتب حكيم إلى آخر: اعلم حَفِظك الله، أنّ النفوس جُبِلت على أخذ ما أُعْطِيتْ وَمَنْع ما سُئِلتْ، فاحْمِلها على مَطيّة لا تُبطئ إذا رُكبت، ولا تُسْبَق إذا قُدِّمَتْ، فإنما تحفظا لنفوسُ على قدْر الخوف، وتَطْلُب على قَدْرِ الطمع، وتطْمَع على قدر السبب. فإذا استطعت أن يكون معك خَوْف المُشْفِق وقناعة الرّاضي فافعل.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى رجاء بن حَيْوة: أما بعد، فإنه مَن أكثر من ذِكْر الموت اكتفى باليَسِير: ومن عَلِمَ أن الكلامَ عملٌ قلَّ كلامهُ إلا فيما يَنْفَعه. وكتب عمر بن الخطّاب إلى عُتبة بن غزوان عامِله على البَصْرة: أما بعد، فقد أصبحتَ أميرًا تقول فيُسمع لك، وتأمر فينفّذ أمرُك، فيالها نعمةً إن لم تَرْفعك فوق قَدْرك، وتُطْغِك على مَن دونك، فاحترَس من النِّعمة أشدّ من احتراسك من المُصيبة، وإياك أن تَسْقُطَ سَقْطَة لا لعًا لها- أي لا إقالة لها- وتَعْز عَثْرة لا تُقالها، والسلام.
وكتب الحسن إلى عمَر: إن فيما أمرك الله به شُغلا عما نهاك عنه، والسلام.
وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أَمْر الدنيا وصِفْ لي أَمرَ الآخرة. فكتب إليه: إنما الدُّنيا حُلْم والآخرة يَقَظَة والموت متوسِّط؛ ونحن في أضغاث أحْلام، من حاسَبَ نَفْسَه ربح، ومن غَفلَ عنها خَسِر، ومن نَظر في العواقِب نَجَا، ومن أطاعَ هواه ضَلَّ، ومن حَلُم غَنِم، ومن خافَ سَلِمَ، ومن اعتبر أَبْصَرَ، ومن أبصرَ فَهِمَ، ومن فَهِمَ عَلِمَ، ومن عَلِم عَمِلَ، فإذا زَلَلْتَ فارْجعِ، وإذا نَدِمْتَ فأَقْلِع، وإذا جَهِلْت فاسأل، وإذا غَضِبْتَ فأمْسِك، واْعلم أن أفضل الأعمال ما أُكْرِهَت النفوس عليه. اهـ.

.فصل في مواعظ الآباء للأبناء:

قال ابن عبد ربه:
قال لُقمأن لابنه: إذا أتيت مجلسَ قومٍ فاْرمهِمْ بسَهْم السلام ثم اجلس، فإن أفاضوا في ذِكر اللهّ فأَجِلْ سَهمْك مع سِهامهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فَتَخَلَّ عنهم وانهض. وقال: يا بني، استَعِذ بالله من شِرَار الناس وكُنْ من خِيارهم على حَذَر. ومثلُ هذا قولُ أكثَم بن صَيْفي: احذر الأمين ولا تأتمن الخائن، فإنّ القُلوب بيد غيرك. وقال لُقمأن لابنه: لا تركنْ إلى الدنيا، ولا تَشْغَل قلبك بها، فإِنك لم تُخْلَق لها، وما خَلَق الله خَلْقًا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمَها ثوابًا للمُطيعين، ولا بلاءَها عُقوبة للعاصين. يا بني، لا تضحك من غير عجب، ولا تَمْش في غير أرب، ولا تسأل عما لا يَعْنيك. يا بني، لا تُضَيِّع مالَك وتُصلِحْ مالَ غيرك، فإنّ مالَك ما قدَّمت، ومالَ غيرك ما تركت. يا بني، أنه من يَرْحم يُرْحَم، ومن يَصْمُت يَسْلم، ومن يَقُل الخير يَغْنَم، ومَنْ يقُل الباطل يأثَم، ومن لا يملك لِسانَه ينْدم. يا بني، زاحم العلماء برُكْبتَيْك، وأنصت إليهم بأذنَيك، فإِنّ القلب يَحيا بنُور العُلماء كما تحيا الأرض المَيتة بمطر السماء.
وقال خالدُ بن صَفْوأن لابنه: كُن أحسنَ ما تكون في الظاهر حالًا، أقلّ ما تكون في الباطن، مآلًا، ودَعْ من أعمال السرِّ مالا يَصْلُح لك في العلاَنِيَة.
وقال أعرابي لابنه: يا بني، أنه قد أَسْمَعك الدَّاعي، وأعذر إليك الطالب، وانتهى الأمر فيك إلى حَدّه، ولا أعرِفُ أعظمَ رزيّة ممن ضَيَّعَ اليقين وأَخْطأه الأمَلً.
وقال عليُّ بن الحسين لابنه، وكان من أفضل بني هاشم: يا بني، اصبر على النّوِائب، ولا تَعرّض للحُتوف، ولا تجبْ أخاك من الأمر إلى ما مَضرّتُه عليك أكثر من مَنْفعَته لك.
وقال حكيم لبنيه: يا بني، إياكم أن تكونوا بالأحداث مُغْتَرين، ولها آمنين، فإني والله ما سَخِرْت من شيء إلا نزل بي مثله، فاحذَروها وتوقَّعوِها، فإنما الإنسان في الدُّنيا غرَضٌ تَتَعاوره السِّهام، فمُجَاوزٌ له ومُقصِّر عنه وواقعٍ عن يمينه وشماله، حتى يُصيبه بعضها؛ واعلموا أن لكل شيء جرَاءَ ولكل عمل ثوابًا. وقد قالوا: كما تَدِين تُدَان، ومن بَرِّ يومًا بُرَّ به. وقال الشاعر:
إذا ما الدَّهر جرَّ على أُناس ** حوادثَه أناخَ بآخَرِينَا

فقُلْ للشّامتين بنا أَفيقوا ** سَيَلقى الشامِتون كما لقِينا

وقال حكيم لابنه: يا بني، إني مُوصيك بوصيّة، فإن لم تحفظ وصيتي عنّي لم تَحْفَظها عنِ غيري: اتّق الله ما استطعتَ، وإن قَدَرْت أن تكون اليومَ خيرًا منك أمس وغدًا خيراَ منك اليومَ فافعل، وإياك والطمعَ فإنه فَقْرٌ حاضِر، وعليك باليأسِ فإنك لن تيأسِ من شيء قطُّ إلا أغناك اللهّ عنه، وإياك وما يُعْتَذر منه فإنك لن تَعْتذر من خير أبداَ، وإذا عَثر عاثر فاحمد اللهّ أن لا تكون هو. يا بني، خذِ الخيرَ من أهله، ودع الشرً لأهله، وإذا قُمتَ إلى صَلاتك فَصلِّ صلاة مُوَدع، وأنت ترَى أن لا تُصَلِّي بعدها أبداَ.
وقال عليًّ بن الحُسن عليهما السلام لابنه: يا بني، إن الله لم يَرْضَك لي فأَوْصاك بي، ورَضيَنى لك فَحَذّرَني منك، واعلم أَنّ خيرَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المودة إلى التفريط فيه، وخيرَ الأبناء للآباء منِ لم يَدْعُه التقصيرُ إلى العُقوق له. وقال حكيم لابنه: يا بني، إن أشدَّ الناس حسرةً يومَ القيامة رجلٌ كَسَب مالًا من غير حِلّه فأدخله النارَ، وأوْرَثه مَنْ عَمِل فيه بطاعة الله فأدخله الجنة.
عَمْرو بن عُتْبَة قال: لما بلغتُ خمسَ عشرةَ سنة قال لي أبي: يا بني، قد تَقَطعَتْ عنك شرائع الصِّبَا فالزَم الحياء تكن منِ أهله، ولا تُزَايِلْه فَتَبِين منه، ولا يَغُرَّنك من اغترَّ بالله فيك فمَدحك بما تعلم خلافه من نفسك، فإنه من قال فيك من الخير ما لم يعْلَم إذا رَضي، قال فيك من الشرّ مثلَه إذا سَخِط. فاستأنس بالوُحْدَة من جُلساء السَّوءِ تَسْلَم من غِبّ عواقبهم.
وقال عبد الملك بنُ مَرْوَان لبَنيه: كُفّوا الأذى، وابذُلوا المعرِوف، واعْفوا إذا قَدَرْتم!، ولا تَبْخَلوا إذا سئلتم، ولا تُلْحِفوا إذا سألتم، فإنه من ضيّق ضُيِّق عليه، ومن أعطى أخْلَفَ اللهّ عليه. وقال الأشعثُ بن قيس لبنيه: يا بني، لا تَذِلُّوا في أعراضكم، وانخدعوا في أموالكم، ولتَخِفَّ بُطونُكم من أموال الناس، وظهوركم من دمائهم، فإنّ لكلِّ امرئ تَبِعة؛ وإياكم وما يُعتَذر منه أو يُستحى، فإنما يُعتذر من ذنب، ويستحى من عَيب؛ وأصْلِحوا المالَ لجفوة السُّلطان وتَغيُّر الزمان، وكُفُّوا عند الحاجة عن المسألَة، فإنه كَفي بالردّ مَنْعا، وأجملُوا في الطلب حتى يوافق الرِّزْق قدَرا، وامنعوا النساءَ من غير الأكفاء، فإنكم أهلُ بَيْت يتأسىّ بكم الكريمُ، ويتشرَف بكم اللئيم؛ وكونوا في عوامّ الناس ما لم يَضْطرب الحبْلُ فإذا اضطرب الحبلُ، فالحقوا بعشائركم.
وكتب عمرُ بن الخطّاب إلى ابنه عبد الله في غَيْبة غابها: أمَّا بعد، فإنّ مَنِ اتقى الله وَقاه، ومن اتْكل عليه كفاه، ومن شكَرَ له زاده، ومن أقْرَضه جَزاه؛ فاجعل التقوى عِمارة قلبك وجَلاءَ بَصرك، فإنه لا عمَل لمن لا نِيَّة له، ولا خيرَ لمن لا خَشْيَة له، ولا جديد لمن لا خلق له.
وكتب عليُّ بن أبي طالب إلى وَلده الحَسن عليهما السلام: من عليّ أمير المؤمنين الوالدِ الفان، المقرّ للزَّمان، المستَسْلم للحَدَثان: المُدْبر العُمر، المُؤمّل ما لا يُدْرك، السالك سبيلَ مَن قد هَلَك، غرَض الأسقام، ورهينة الأيّام، وعبْد الدنيا، وتاجر الغُرور، وأسير المنَايَا، وقرين الرَّزايا، وصريع الشهوات، ونُصْب الآفات، وخليفة الأموات، أما بعد، يا بني، فإن فيما تَفكرَّت فيه من إدبار الدُّنيا عني، وإقبال الآخرة إليّ، وجُموح الدهر علىّ، ما يُرَغِّبنى عن ذكر سوايِ، والاهتمام بما ورائي، غيرَ أنه حين تفرّد بي همّ نفسي دون همّ الناس، فَصدَقني رأي وصرَفني عن هواي، وصرزَح بي مَحْضُ أمري، فأَفْضىَ بي إلى جِدٍّ لا يُزْري به لَعِب، وصِدْق لا يَشو به كَذِب، وَوَجَدْتُك يا بُنيّ بَغضي، بل وجدتُك كُلِّي، حتى كأنّ شيئًا لو أصابك لأصابني، وحتى كأنّ الموت لو أتاك أتاني، فعند ذلك عَنَاني من أمرك ما عَنَاني من أمر نَفْسي. كتبتُ إليك كتابي هذا يا بُني مُستظهرًا به إن أنا بَقِيت لك أو فَنِيت، فإني مُوصيك بتقوى الله وعِمَارة قلبك بذكره، والاعتصام بحَبْله، فإنَّ الله تعالى يقول: {وَاْعْتَصِمُوا بِحَبْل الله جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَأذْ كُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءَ فألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوانًا} وأيُّ سبب يا بُني أوْثق من سبب بينك وبين الله تعالى إن أنت أخذت به.
أحْي قلبك بالموْعظة، ونَوَره بالحكمة، وأَمِّنه بالزهْد، وذَلِّلهُ بالموت، وقَوِّهِ بالغِنَى عن الناس، وحَذِّرْه صولةَ الدَّهر، وتقلُّبَ الأيام والليالي. واعرض عليه أخبارَ الصين، وسِرْ في ديارهم وآثارهم فانظرُ ما فعلوه وأين حلُّوا، فإنك تَجِدهم قد اْنتقلوا عن دار الأحبّة ونزلوا دارَ الغُرْبة، وكأنك عن قليل يا بنيّ قد صرت كأحدهم، فبعْ دنياكَ بآخرتك، ولا تبعْ آخرتك بدُنياك؛ ودَع القولَ فيما لا تَعْرِف، والأمر فيما لا تكلف، وأْمُر بالمعروف بيَدِك ولسانك، وَانْهَ عن المنكر بيدك ولسانك، وبايِنْ مَن فعَلَه؛ وخُض الغَمَرَاتِ للحق، ولا تأخُذْك في الله لوِمةُ لائم، واحفظ وَصيَّتي ولا تَذْهَب عنك صَفْحًا، فلا خير في عِلْم لا ينفع.
واعلم أنَّ أمامك طريقًا ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غِنى لك فيه عن حُسْن الارتياد، مَع بلاغك منِ الزَّاد. فإن أصَبتَ من أهلِ الفاقة مَنْ يحمل عنك زادك فيُواِفيك به في مَعارك فاغْتنِمه، فإن أَمامك عَقَبَةً كَؤُداَ لا يُجاوزها إلا أخفُّ الناس حْملاَ، فأَجْمل في الطلب، وأحسِن المكتسب، فرُب طَلَب قد جرَّ إلى حَرَب، وإنما المحْرُوب من حُرِبَ دِينُه، والمسلوبُ من سُلِب يقينه. واعلم أنه لا غِنى يَعْدِل الجنَّة، ولا فقْرَ يَعْدِل النار. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب إلى ابنه محمد بن الحنفية: أنْ تَفَقّه في الدّين، وعَوِّد نفسَك الصبر على المَكْروه، وكِلْ نَفْسَك في أمورك كلِّها إلى الله عزَّ وجلَّ، فإنك تَكِلها إلى كهف.
وأخْلِص المسألة لربِّك فإنّ بيده العَطاء والحِرمان. وأكثر الْاسْتخارة له، واعلم أنَّ من كانت مَطيّته الليلَ والنهار فإنه يُسار به وإن كأن لا يَسير، فإنَّ الله تعالى قد أبى إلا خرابَ الدنيا وعمارة الآخرة. فإن قَدرتَ أن تَزْهد فيها زُهْدَك كلّه فافعل ذلك، وإن كنتَ غير قابل نَصِيحتي إيّاك فاعلَم عِلْمًا يَقِينًا أنك لن تَبْلُغ أملك، ولن تَعْدو أجلك، وأنك في سَبيل مَن كان قَبْلك، فأكْرم نفسَك عن كل دَنِيَّة، وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تَعتاض بما تَبْذُلُ من نفسك عوضًا.
وإيّاك أن تُوجِف بك مَطايا للطمع وتقول: متى ما أخِّرت نزعتُ، فإنَّ هذا أهْلَك مَن هَلك قَبْلك. وأمسِك عَليك لسانك، فإنَ تَلافِيكَ ما فرط من صَمْتك أيْسر عليك من إدراك ما فات من مَنْطقك، واحفَظْ ما في الوِعاء بشدّ الوكاء، فحُسْن التَّدبير مع الاقتصاد أبْقى لك من الكثير مع الفَساد، والحُرْفة مع العِفّة خير من الغِنَى مع الفجور والمَرْء أحفظُ لسِرّه، ولربما سَعى فيما يَضرُه. إياك والاتّكالَ على الأماني، فإنها بضائع النَّوكي وتثبط عن الآخرة والأولى. ومن خير حظّ الدنيا القَرين الصالح، فقارنْ أهلَ الخَير تَكُن منهم، وباين أهلَ الشر تَبِنْ عنهم، ولا يَغْلبنَ عليك سوء الظنّ، فإنه لن يَدعَ بينك وبين خليل صُلْحًا. أذك قلبك بالأدب كما تذكى النار الحطب واعلم أنّ كُفْر النِّعمة لُؤْم، وصُحْبة الأحمق شُؤم، ومن الِكَرَم مَنْع الحُرَمٍ، ومَن حَلُم ساد، ومَن تَفَهّم ازداد. آمْحَض أخاك النصيحةَ، حسنةً كانت أو قبيحةً. لا تَصرْم أخاك على ارتياب، ولا تَقْطعه دون استعتاب، وليس جزاء من سرّك أن تَسُوءه. الرزق رِزْقان: رِزْق تَطْلبه ورِزْق يَطلبك، فإن لم تأته أتاك. واعلم يا بُني أن مالَك من دُنياك إلا ما أصلحت به من مَثْواك، فأنْفق من خَيْرك، ولا تَكن خازنًا لِغَيرك، وإن جَزعْت على ما يُفلت من يديك فاجزع على ما لم يَصِل إليك. ربما أخطأ البصيرُ قَصْدَه، وأبصر الأَعمى رُشْدَه، ولم يَهْلك أمرؤ اقتصد، ولم يَفْتقر من زَهد. مَن ائتمن الزمانَ خانه، ومن تَعظّم عليه أهانه. رأسُ الدين اليقين، وتمام الإخلاص اجتناب المَعاصي، وخيرُ المَقال ما صَدّقَته الفِعَال. سَلْ عن الرَّفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدّار، واحمل لِصَديقك عليك، واقْبل عذْر مَن اعتذر إليك، وأخر الشرَّ ما استطعت، فإنك إذا شِئْت تَعجّلته. لا يكن أخوك على قَطِيعتك أقوَى منك على صِلَته، وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان. لا تُمَلّكن المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإنَّ المرأة رَيْحانة، وليست بِقَهْرمانة، فإنَّ ذلك أدومُ لحالها، وأرخَى لبالها. واغضُض بصرَها بِستْرك، واكفُفْها بحجابك، وأكرم الذين بهم تَصُول، وإذا تطاولتَ بهم تَطُول. اسأل الله أن يُلْهمك الشكر والرَّشد، ويُقَوِّيك على العمل بكل خَيْر، ويَصرف عنك كل مَحْذور برحمته، والسلامُ عليك ورحمة الله وبركاته. اهـ.

.تفسير الآية رقم (139):

قوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما أمرهم بالمسارعة وأتبعها علتها ونتيجتها نهاهم عما يعوق عنها من قبل الوهن الذي عرض لهم عند رؤيتهم الموت فقال- ويجوز أن يعطف على ما تقديره: فتبينوا واهتدوا واتعظوا إن كنتم متقين، وانظروا أخذنا لمن كان قبلكم من أهل الباطل وإن كان لهم دول وصولات ومكر وحيل-: {ولا تهنوا} أي في جهاد أعدائكم الذين هم أعداء الله، فالله معكم عليهم، وإن ظهروا يوم أحد نوع ظهور فسترون إلى من يؤول الأمر {ولا تحزنوا} أي على ما أصابكم منهم ولا على غيره مما عساه ينوبكم {و} الحال أنكم {أنتم الأعلون} أي في الدارين {إن كنتم مؤمنين} أي إن كان الإيمان- وهو التصديق بكل ما يأتي عن الله- لكم صفة راسخة، فإنهم لا يهنون؛ لأنكم بين إحدى الحسنيين- كما لم يهن من سيقص عليكم نبأهم ممن كانوا مع الأنبياء قبلكم لعلوكم عدوكم، أما في الدنيا فلأن دينكم حق ودينهم باطل، ومولاكم العزيز الحكيم الذي قد وعدكم الحق الملكَ الكبير لمن قتل، والنصر والتوزر لمن بقي، وهو حي قيوم، ولا يخفى عليه شيء من أحوالكم، فهو ناصركم وخاذلكم، وأما في الآخرة فلأنكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وهم في النار عند ملائكة العذاب الغلاظ الشداد أبدًا. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الذي قدمه من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] وقوله: {هذا بيان للناس} [آل عمران: 138] كالمقدمة لقوله: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} كأنه قال إذا بحثتم عن أحوال القرون الماضية علمتم أن أهل الباطل وإن اتفقت لهم الصولة، لكن كان مآل الأمر إلى الضعف والفتور، وصارت دولة أهل الحق عالية، وصولة أهل الباطل مندرسة، فلا ينبغي أن تصير صولة الكفار عليكم يوم أحد سببًا لضعف قلبكم ولجبنكم وعجزكم، بل يجب أن يقوى قلبكم فإن الاستعلاء سيحصل لكم والقوة والدولة راجعة إليكم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} أخرج الواحدي عن ابن عباس أنه قال: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريدون أن يعلوا عليهم الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا قوة لنا إلا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر» فأنزل الله تعالى هذه الآية: وثاب نفر من المسلمين فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم وعن الزهري وقتادة أنها نزلت تسلية للمسلمين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح.