فصل: من فوائد ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عاشور:

قال عليه الرحمة:
كلام ألقي إليهم بإجمال بالغ غاية الإيجاز، ليكون جامعًا بين الموعظة، والمعذرة، والملام، والواو عاطفة أو حالية.
والخطاب للأحياء، لا محالة، الَّذين لم يذوقوا الموت، ولم ينالوا الشهادة، والَّذين كان حظّهم في ذلك اليوم هو الهزيمة، فقوله: {كنتم تمنّون الموت} أريد به تمنّي لقاء العدوّ يوم أُحُد، وعدم رضاهم بأن يتحصّنوا بالمدينة، ويقفوا موقف الدّفاع، كما أشار به الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنّهم أظهروا الشجاعة وحبّ اللِّقاء، ولو كان فيه الموت، نظرًا لقوة العدوّ وكثرته، فالتمنّي هو تمنّي اللِّقاء ونصر الدّين بأقصى جهدهم، ولمَّا كان ذلك يقتضي عدم اكتراث كُلّ واحد منهم بتلف نفسه في الدّفاع، رجاء أن يكون قبل هلاكه قد أبلى في العدوّ، وهيّأ النَّصر لمن بقي بعده، جعل تمنّيهم اللِّقاء كأنَّه تمنّي الموت من أوّل الأمر، تنزيلًا لِغاية التمنّي منزلة مبدئه.
وقوله: {من قبل أن تلقوه} تعريض بأنهم تمنّوا أمرًا مع الإغضاء عن شدّته عليهم، فتمنّيهم إيّاه كتمنّي شيء قد جهلوا ما فيه من المصائب.
وقوله: {فقد رأيتموه} أي رأيتم الموت، ومعنى رؤيته مشاهدة أسبابه المحقّقة، الَّتي رؤيتها كمشاهدة الموت، فيجوز أن يكون قوله: {فقد رأيتموه} تمثيلًا، ويجوز أن تطلق الرؤية على شدّة التوقّع، كإطلاق الشمّ على ذلك في قول الحارث بن هشام المخزومي:
وشممتُ ريح الموت من تلقائهم ** في مأزق والخيل لم تتبدّد

وكإطلاقه في قول ابن معدي كرب يوم القادسية: فضمّني ضمّة وَجَدْت منها ريحَ الموت.
والفاء في قوله: {فقد رأيتموه} فاء الفصيحة عن قوله: {كنتم تمنون} والتقدير: وأجبتم إلى ما تمنّيتم فقد رأيتموه، أو التقدير: فإن كان تمنّيكم حقًّا فقد رأيتموه، والمعنى: فأين بلاء من يتمنّى الموت، كقول عباس بن الأحنف:
قالُوا خُراسانُ أقصى ما يُراد بنا ** ثُمّ القُفول فقدْ جِئْنا خُراسانا

ومنه قوله تعالى: {فقد كذّبوكم بما تقولون} [الفرقان: 19] وقوله في سورة الروم (56): {فهذا يوم البعث}.
{وجملة وأنتم تنظرون} حال مؤكّدة لمعنى {رأيتُموه}، أو هو تفريع أي: رأيتم الموت وكان حظّكم من ذلك النظر، دون الغَناء في وقت الخطر، فأنتم مبهوتون.
ومحلّ الموعظة من الآية: أنّ المرء لا يطلب أمرًا حَتَّى يفكِّر في عواقبه، ويسبر مقدار تحمّله لمصائبه.
ومحلّ المعذرة في قوله: {من قبل أن تلقوه} وقوله: {فقد رأيتموه} ومحلّ الملام في قوله: {وأنتم تنظرون}.
ويحتمل أن يكون قوله: {تمنون الموت} بمعنى تتمنَّوْن موت الشهادة في سبيل الله فقد رأيتم مشارفة الموت إياكم، وأنتم تنظرون من مات من إخوانكم، أي فكيف وجدتم أنفسكم حين رأيتم الموت، وكأنَّه تعريض بهم بأنهم ليسوا بمقام من يتمنّى الشهادة.
إذ قد جبنوا وقت الحاجة، وخفّوا إلى الغنيمة، فالكلام ملام محض على هذا، وليس تمنّي الشهادة بملوم عليه، ولكن اللَّوم على تمنّي ما لا يستطيع كما قيل:
إذا لم تستطع شيئًا فدعه

كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ولوددت أنّي أقتل في سبيل الله، ثُمّ أُحيا ثُمّ أقتل ثمّ أحيا، ثمّ أقْتل» وقال عمر: اللهم إنّي أسألك شهادة في سبيلك وقال ابن رواحة:
لكنّني أسأل الرّحمانَ مغفرة ** وضربةً ذات فرغ تقذِف الزبدا

حتَّى يقولوا إذا مَرّوا على جَدثي ** أرشدَك الله من غازٍ وقد رشدا

وعلى هذا الاحتمال فالضّمير راجع إلى الموت، بمعنى أسبابه، تنزيلًا لرؤية أسبابه منزلة رؤيته، وهو كالاستخدام، وعندي أنه أقرب من الاستخدام لأنَّه عاد إلى أسباب الموت باعتبار تنزيلها منزلة الموت. اهـ.

.كلام في الامتحان وحقيقته:

قال في الميزان:
لا ريب أن القرآن الكريم يخص أمر الهداية بالله سبحانه غير أن الهداية فيه لا تنحصر في الهداية الاختيارية إلى سعادة الآخرة أو الدنيا فقد قال تعالى فيما قال: {الذى أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه- 50].
فعمم الهداية لكل شيء من ذوى الشعور والعقل وغيرهم وأطلقها أيضا من جهة الغاية وقال أيضا {الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى} [الأعلى- 3] والآية من جهة الإطلاق كسابقتها.
ومن هنا يظهر أن هذه الهداية غير الهداية الخاصة التي تقابل الإضلال فإن الله سبحانه نفاها وأثبت مكانها الضلال في طوائف والهداية العامة لا تنفى عن شيء من خلقه قال تعالى: {والله لا يهدى القوم الظالمين} [الجمعة- 5] وقال: {والله لا يهدى القوم الفاسقين} [الصف- 5] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
وكذا يظهر أيضا أن الهداية المذكورة غير الهداية بمعنى إراءة الطريق العامة للمؤمن والكافر كما في قوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا} [الدهر- 3] وقوله: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى} [حم السجدة- 17] فإن ما في هاتين الآيتين ونظائرهما من الهداية لا يعم غير أرباب الشعور والعقل وقد عرفت أن ما في قوله: {ثم هدى} وقوله: {والذى قدر فهدى} عام من حيث المورد والغاية جميعا على أن الآية الثانية تفرع الهداية على التقدير والهداية الخاصة لا تلائم التقدير الذي هو تهيئة الأسباب والعلل لسوق الشيء إلى غاية خلقته وإن كانت تلك الهداية أيضا من جهة النظام العام في العالم داخلة في حيطة التقدير لكن النظر غير النظر فافهم ذلك.
وكيف كان فهذه الهداية العامة هي هدايته تعالى كل شيء إلى كمال وجوده وإيصاله إلى غاية خلقته وهى التي بها نزوع كل شيء إلى ما يقتضيه قوام ذاته من نشوء واستكمال وأفعال وحركات وغير ذلك وللكلام ذيل طويل سنشرحه إن ساعدنا التوفيق إن شاء الله العزيز.
والغرض أن كلامه تعالى يدل على أن الأشياء إنما تنساق إلى غاياتها وآجالها بهداية عامة إلهية لا يشذ عنها شاذ وقد جعلها الله تعالى حقا لها على نفسه وهو لا يخلف الميعاد كما قال تعالى: {إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى} [الليل- 13] والآية كما ترى تعم بإطلاقها الهداية الاجتماعية للمجتمعات والهداية الفردية مضافة إلى ما تدل عليه الآيتان السابقتان.
فمن حق الأشياء على الله تعالى هدايتها تكوينا إلى كمالها المقدر لها وهدايتها إلى كمالها المشرع لها وقد عرفت فيما مر من مباحث النبوة أن التشريع كيف يدخل في التكوين وكيف يحيط به القضاء والقدر فإن النوع الإنساني له نوع وجود لا يتم أمره إلا بسلسلة من الأفعال الاختيارية الإرادية التي لا تقع إلا عن اعتقادات نظرية وعملية فلابد أن يعيش تحت قوانين حقة أو باطلة جيدة أو ردية فلابد لسائق التكوين أن يهيئ له سلسلة من الأوامر والنواهي الشريعة وسلسلة أخرى من الحوادث الاجتماعية والفردية حتى يخرج بتلاقيه معهما ما في قوته إلى الفعل فيسعد أو يشقى ويظهر ما في مكمن وجوده وعند ذلك ينطبق على هذه الحوادث وهذا التشريع اسم المحنة والبلاء ونحوهما.
توضيح ذلك أن من لم يتبع الدعوة الإلهية واستوجب لنفسه الشقاء فقد حقت عليه كلمة العذاب إن بقى على تلك الحال فكل ما يستقبله من الحوادث المتعلقة بها الأوامر والنواهي الإلهية ويخرج بها من القوة إلى الفعل تتم له بذلك فعلية جديدة من الشقاء وإن كان راضيا بما عنده مغرورا بما يجده فليس ذلك إلا مكرا إلهيا فإنه يشقيهم بعين ما يحسبونه سعادة لأنفسهم ويخيب سعيهم في ما يظنونه فوزا لأنفسهم قال تعالى: {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين} [آل عمران- 54] وقال: {ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله} [فاطر- 43] وقال: {ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون} [الأنعام- 123] وقال: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملى لهم إن كيدى متين} [الأعراف- 183] فما يتبجح به المغرور الجأهل بأمر الله أنه سبق ربه في ما أراده منه بالمخالفة والتمرد فإنه يعينه على نفسه فيما أراده قال تعالى: {أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون} [العنكبوت- 4] ومن أعجب الآيات في هذا الباب قوله تعالى: {فلله المكر جميعا} [الرعد- 42].
فجميع هذه المماكرات والمخالفات والمظالم والتعديات التي تظهر من هؤلاء بالنسبة إلى الوظائف الدينية وكل ما يستقبلهم من حوادث الأيام ويظهر بها منهم ما أضمروه في قلوبهم ودعتهم إلى ذلك أهواؤهم مكر إلهي وإملاء واستدراج فإن من حقهم على الله أن يهديهم إلى عاقبة أمرهم وخاتمته وقد فعل والله غالب على أمره.
وهذه الأمور بعينها إذا نسبت إلى الشيطان كانت أقسام الكفر والمعاصي إغواء منه لهم والنزوع إليها دعوة ووسوسة ونزعة ووحيا وإضلالا والحوادث الداعية وما يجرى مجراها زينة له ووسائل وحبائل وشبكات منه على ما سيجئ بيانه في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.
وأما المؤمن الذي رسخ في قلبه الإيمان فما تظهر منه من الطاعات والعبادات وكذا الحوادث التي تستقبله فيظهر منه عندها ذلك ينطبق عليها مفهوم التوفيق والولاية الإلهية والهداية بالمعنى الأخص نوع انطباق قال تعالى: {والله يؤيد بنصره من يشاء} [آل عمران- 13] وقال: {والله ولى المؤمنين} [آل عمران- 68] وقال: {الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور} [البقرة- 257] وقال: {يهديهم ربهم بإيمانهم} [يونس- 9] وقال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس} [الأنعام- 122] هذا إذا نسبت هذه الأمور إلى الله سبحانه، وأما إذا نسبت إلى الملائكة فتسمى تأييدا وتسديدا منهم قال تعالى: {أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة- 22].
ثم أنه كما أن الهداية العامة تصاحب الأشياء من بدء كونها إلى آخر أحيان وجودها ما دامت سالكة سبيل الرجوع إلى الله سبحانه كذلك المقادير تدفعها من ورائها كما هو ظاهر قوله تعالى: {والذى قدر فهدى} [الأعلى- 3] فإن المقادير التي تحملها العلل والأسباب المحتفة بوجود الشيء هي التي تحول الشيء من حال أولى إلي حال ثانية وهلم جرا فهى لا تزال تدفع الأشياء من ورائها.
وكما أن المقادير تدفعها من ورائها كذلك الآجال وهى آخر ما ينتهى إليه وجود الأشياء تجذبها من أمامها كما يدل عليه قوله تعالى: {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون} [الاحقاف- 3] فإن الآية تربط الأشياء بغاياتها وهى الآجال والشيئان المرتبطان إذا قوى أحدهما على الآخر كان حاله بالنسبة إلى قرينه هو المسمى جذبا والآجال المسماة امور ثابتة غير متغيرة فهى تجذب الأشياء من أمامها وهو ظاهر.
فالأشياء محاطة بقوى إلهية قوة تدفعها وقوة تجذبها وقوة تصاحبها وتربيها وهى القوى الأصلية التي تثبتها القرآن الكريم غير القوى الحافظة والرقباء والقرناء كالملائكة والشياطين وغير ذلك.
ثم إنا نسمى نوع التصرفات في الشيء إذا قصد به مقصد لا يظهر حاله بالنسبة إليه هل له صلوحه أو ليس له بالامتحان والاختبار فإنك إذا جهلت حال الشيء أنه هل يصلح لأمر كذا أو لا يصلح أو علمت باطن أمره ولكن أردت أن يظهر منه ذلك أوردت عليه أشياء مما يلائم المقصد المذكور حتى يظهر حاله بذلك هل يقبلها لنفسه أو يدفعها عن نفسه وتسمى ذلك امتحانا واختبارا واستعلاما لحاله أو ما يقاربها من الألفاظ.
وهذا المعنى بعينه ينطبق على التصرف الإلهي بما يورده من الشرائع والحوادث الجارية على أولي الشعور والعقل من الأشياء كالإنسان فإن هذه الأمور يظهر بها حال الإنسان بالنسبة إلى المقصد الذي يدعى إليه الإنسان بالدعوة الدينية فهى امتحانات إلهية.
وإنما الفرق بين الامتحان الإلهي وما عندنا من الامتحان أنا لا نخلو غالبا عن الجهل بما في باطن الأشياء فنريد بالامتحان استعلام حالها المجهول لنا والله سبحانه يمتنع عليه الجهل وعنده مفاتح الغيب فالتربية العامة الإلهية للإنسان من جهة دعوته إلى حسن العاقبة والسعادة امتحأن لانه يظهر ويتعين بها حال الشيء أنه من أهل أي الدارين دار الثواب أو دار العقاب.
ولذلك سمى الله تعالى هذا التصرف الإلهى من نفسه أعنى التشريع وتوجيه الحوادث بلاء وابتلاء وفتنة فقال بوجه عام {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} [الكهف- 7] وقال: {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا} [الدهر- 2] وقال: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} [الأنبياء- 35] وكأنه يريد به ما يفصله قوله: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربى أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربى أهانن} [الفجر- 16] وقال: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن- 15] وقال: {ولكن ليبلو بعضكم ببعض} [محمد- 4] وقال: {كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون} [الأعراف- 163] وقال: {وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا} [الأنفال- 17] وقال: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} [العنكبوت- 3] وقال في مثل إبراهيم {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات} [البقرة- 124] وقال في قصة ذبح إسماعيل {إن هذا لهو البلاء المبين} [الصافات- 106] وقال في موسى {وفتناك فتونا} [طه- 40] إلى غير ذلك من الآيات.
والآيات كما ترى تعمم المحنة والبلاء لجميع ما يرتبط به الإنسان من وجوده وأجزاء وجوده كالسمع والبصر والحياة والخارج من وجوده المرتبط به بنحو كالأولاد والأزواج والعشيرة والأصدقاء والمال والجاه وجميع ما ينتفع به نوع انتفاع وكذا مقابلات هذه الأمور كالموت وسائر المصائب المتوجهة إليه وبالجملة الآيات تعد كل ما يرتبط به الإنسان من أجزاء العالم وأحوالها فتنة وبلاءا من الله سبحانه بالنسبة إليه.
وفيها تعميم آخر من حيث الأفراد فالكل مفتنون مبتلون من مؤمن أو كافر وصالح أو طالح ونبى أو من دونه فهى سنة جارية لا يستثنى منها أحد.
فقد بان أن سنة الامتحان سنة إلهية جارية وهى سنة عملية متكئة على سنة أخرى تكوينية وهى سنة الهداية العامة الإلهية من حيث تعلقها بالمكلفين كالإنسان وما يتقدمها وما يتأخر عنها أعنى القدر والأجل كما مر بيانه.
ومن هنا يظهر أنها غير قابلة للنسخ فإن انتساخها عين فساد التكوين وهو محال ويشير إلى ذلك ما يدل من الآيات على كون الخلقة على الحق وما يدل على كون البعث حقا كقوله تعالى: {ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} [الأحقاف- 3] وقوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون- 115] وقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} [الدخان- 39] وقوله تعالى: {من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت} [العنكبوت- 5] إلى غيرها فإن جميعها تدل على أن الخلقة بالحق وليست باطلة مقطوعة عن الغاية وإذا كانت أمام الأشياء غايات وآجال حقة ومن ورائها مقادير حقة ومعها هداية حقة فلا مناص عن تصادمها عامة وابتلاء أرباب التكليف منها خاصة بأمور يخرج بالاتصال بها ما في قوتها من الكمال والنقص والسعادة والشقاء إلى الفعل وهذا المعنى في الإنسان المكلف بتكليف الدين امتحان وابتلاء فافهم ذلك.
ويظهر مما ذكرناه معنى المحق والتمحيص أيضا فإن الامتحان إذا ورد على المؤمن فأوجب امتياز فضائله الكامنة من الرذائل أو ورد على الجماعة فاقتضى امتياز المؤمنين من المنافقين والذين في قلوبهم مرض صدق عليه اسم التمحيص وهو التمييز.
وكذا إذا توالت الامتحانات الإلهية على الكافر والمنافق وفي ظاهرهما صفات وأحوال حسنة مغبوطة فأوجبت تدريجا ظهور ما في باطنهما من الخبائث وكلما ظهرت خبيثة أزالت فضيلة ظاهرية كان ذلك محقا له أي إنفادا تدريجيا لمحاسنها قال تعالى: {وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين} [آل عمران- 141].
وللكافرين محق آخر من جهة ما يخبره تعالى أن الكون ينساق إلى صلاح البشر وخلوص الدين لله قال تعالى: {والعاقبة للتقوى} [طه- 132] وقال: {أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء- 105]. اهـ.