فصل: من فوائد صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}.
هَذِهِ الْآيَاتُ وَمَا بَعْدَهَا فِي قِصَّةِ أُحُدٍ وَمَا فِيهَا مِنَ السُّنَنِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْحِكَمِ وَالْأَحْكَامِ، فَهِيَ مُتَّصِلَةٌ بِقَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ إِلَخْ. الْآيَاتِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَذَكَرْنَا حِكْمَةَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا وَالأمر بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ وَوَصْفِ الْمُتَّقِينَ فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ فِي بَيَانِ وَجْهِ الِاتِّصَالِ: إِنَّ اللهَ تعالى لَمَّا وَعَدَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالتَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الْغُفْرَانَ وَالْجَنَّاتِ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ وَعَلَى التَّوْبَةِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَهُوَ تَأْمُلُ أَحْوَالِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ مِنَ الْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ وإِنَّمَا هَذَا الَّذِي قَالَهُ بَيَأن لاتِّصَالِ الْآيَةِ الأولى مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ بِمَا قَبْلَهَا مُبَاشَرَةً مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنِ السِّيَاقِ وَالِاتِّصَالِ بَيْنَ مَجْمُوعِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ وَاللَّاحِقَةِ.
ذَكَرَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ خَبَرَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وأَهَمَّ مَا وَقَعَ فِيهَا مَعَ التَّذْكِيرِ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ ومَا بَشَّرُوا بِهِ فِي ذَلِكَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَمَا بَعْدَهَا يَذْكُرُ السُّنَنَ وَالْحِكَمَ فِي ذَلِكَ. وَيُعَلِّمُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ؛ وَلِذَلِكَ افْتَتَحَهَا بِقَوْلِهِ الْحَكِيمِ: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ يَجْعَلُ الْآيَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْوَهَنِ وَالْحَزَنِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا جَرَى الْجَلَالُ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَذَا الَّذِي وَقَعَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضْعِفَ عَزَائِمَكُمْ فَإِنَّ السُّنَنَ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ تُبَيِّنُ لَكُمْ كَيْفَ كَانَتْ مُصَارَعَةُ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ، وَكَيْفَ ابْتُلِيَ أَهْلُ الْحَقِّ أَحْيَانًا بِالْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَالِانْكِسَارِ فِي الْحَرْبِ ثُمَّ كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الْمُقَاوِمِينَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا هُمُ الْمَخْذُولِينَ الْمَغْلُوبِينَ، وَكَانَ جُنْدُ اللهِ هُمُ الْمَنْصُورِينَ الْغَالِبِينَ، وَإِذَا كَانَ الأمر كَذَلِكَ فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا لِمَا أَصَابَكُمْ فِي أُحُدٍ.
ثُمَّ قَالَ مَا مِثَالُهُ مَعَ أيضاحٍ وَزِيَادَةٍ: هَذَا رَأْيٌ ضَعِيفٌ فَإِنَّ ذِكْرَ السُّنَنِ بَعْدَ آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فِي مَوْضُوعَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً، فَإِنَّ اللهَ تعالى نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخَاذِ بِطَانَةٍ مِنَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ بَدَتْ لَهُمْ بُغَضَاؤُهُمْ، وَبَيَّنَ هُوَ لَهُمْ مَجَامِعَ خُبْثِهِمْ وَكَيْدِهِمْ، ثُمَّ ذَكَّرَ النَّبِيَّ وَالْمُؤْمِنِينَ بِوَقْعَةِ أُحُدٍ ومَا كَانَ فِيهَا بِالْإِجْمَالِ، وَذَكَّرَهُمْ بِنَصْرِهِ لَهُمْ بِبَدْرٍ، ثُمَّ ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَأَوْصَافَهُمْ وَمَا وُعِدُوا بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مُضِيَّ السُّنَنِ فِي الْأُمَمِ وَأَنَّهُ بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، فَذِكْرُ السُّنَنِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ يُفِيدُ مَعَانِيَ كَثِيرَةً تَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ طَوِيلٍ جِدًّا لَا مَعْنًى وَاحِدًا كَمَا قِيلَ. وَإِنَّ فِي الْقُرْآنِ مِنْ إِفَادَةِ الْمَبَانِي الْقَلِيلَةِ لِلْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ بِمَعُونَةِ السِّيَاقِ وَالْأُسْلُوبِ مَا لَا يَخْطُرُ فِي بَالِ أَحَدٍ مِنْ كُتَّابِ الْبَشَرِ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا تَجِبُ الْعِنَايَةُ بِبَيَانِهِ، يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ فِي دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ: إِنَّ كَوْنَ الْقُرْآنِ مُعْجِزًا بِبَلَاغَتِهِ يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ أُسْلُوبَهُ الَّذِي كَانَ مُعْجِزًا بِهِ فَنًّا لِيَبْقَى دَإلا على وَجْهِ إِعْجَازِهِ. وَكَذَلِكَ أَقُولُ: إِنَّ إِرْشَادَ اللهِ إِيَّانَا إِلَى أَنَّ لَهُ فِي خَلْقِهِ سُنَنًا يُوجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَجْعَلَ هَذِهِ السُّنَنَ عِلْمًا مِنَ الْعُلُومِ الْمُدَوَّنَةِ لِنَسْتَدِيمَ مَا فِيهَا مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْمَوْعِظَةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا أن يكون فِيهَا قَوْمٌ يُبَيِّنُونَ لَهَا سُنَنَ اللهِ فِي خَلْقِهِ كَمَا فَعَلُوا فِي غَيْرِ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الَّتِي أَرْشَدَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ بِالْإِجْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ بِالتَّفْصِيلِ عَمَلًا بِإِرْشَادِهِ، كَالتَّوْحِيدِ وَالْأُصُولِ وَالْفِقْهِ. وَالْعِلْمُ بِسُنَنِ اللهِ تعالى مِنْ أَهَمِّ الْعُلُومِ وَأَنْفَعِهَا، وَالْقُرْآنُ سَجَّلَ عَلَيْهِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ دَلَّنَا عَلَى مَأْخَذِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْأُمَمِ إِذْ أَمَرَنَا أَنْ نَسِيرَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِ اجْتِلَائِهَا وَمَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهَا، وَلَا يُحْتَجُّ عَلَيْنَا بِعَدَمِ تَدْوِينِ الصَّحَابَةِ لَهَا فَإِنَّ الصَّحَابَةَ لَمْ يُدَوِّنُوا غَيْرَ هَذَا الْعِلْمِ مِنَ الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي وُضِعَتْ لَهَا الْأُصُولُ وَالْقَوَاعِدُ، وَفُرِّعَتْ مِنْهَا الْفُرُوعُ وَالْمَسَائِلُ، قَالَ وَإِنَّنِي لَا أَشُكُّ فِي كَوْنِ الصَّحَابَةِ كَانُوا مُهْتَدِينَ بِهَذِهِ السُّنَنِ وَعَالِمِينَ بِمُرَادِ اللهِ مِنْ ذِكْرِهَا. يَعْنِي أَنَّهُمْ بِمَا لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشُّعُوبِ الْقَرِيبَةِ مِنْهُمْ وَمِنَ التَّجَارِبِ وَالْأَخْبَارِ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا وَبِمَا مُنِحُوا مِنَ الذَّكَاءِ وَالْحِذْقِ وَقُوَّةِ الِاسْتِنْبَاطِ كَانُوا يَفْهَمُونَ الْمُرَادَ مِنْ سُنَنِ اللهِ تعالى وَيَهْتَدُونَ بِهَا فِي حُرُوبِهِمْ وَفُتُوحَاتِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ لِلْأُمَمِ الَّتِي اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا؛ لِذَلِكَ قَالَ: وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ بِالتَّجْرِبَةِ وَالْعَمَلِ أَنْفَعُ مِنَ الْعِلْمِ النَّظَرِيِّ الْمَحْضِ وَكَذَلِكَ كَانَتْ عُلُومُهُمْ كُلُّهَا، وَلَمَّا اخْتَلَفَتْ حَالَةُ الْعَصْرِ اخْتِلَافًا احْتَاجَتْ مَعَهُ الْأُمَّةُ إِلَى تَدْوِينِ عِلْمِ الْأَحْكَامِ وَعِلْمِ الْعَقَائِدِ وَغَيْرِهِمَا كَانَتْ مُحْتَاجَةً أيضا إِلَى تَدْوِينِ هَذَا الْعِلْمِ، وَلَكَ أَنْ تُسَمِّيَهُ عِلْمَ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ أَوْ عِلْمَ الِاجْتِمَاعِ أَوْ عِلْمَ السِّيَاسَةِ الدِّينِيَّةِ.
سَمِّ بِمَا شِئْتَ فَلَا حَرَجَ فِي التَّسْمِيَةِ.
ثُمَّ قَالَ: وَمَعْنَى الْجُمْلَةِ: انْظُرُوا إِلَى مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ؛ فَإِذَا أَنْتُمْ سَلَكْتُمْ سَبِيلَ الصَّالِحِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ، وَإِنْ سَلَكْتُمْ سُبُلَ الْمُكَذِّبِينَ فَعَاقِبَتُكُمْ كَعَاقِبَتِهِمْ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي أُحُدٍ، فَفِي الْآيَةِ مَجَارِي أَمْنٍ وَمَجَارِي خَوْفٍ، فَهُوَ عَلَى بِشَارَتِهِ لَهُمْ فِيهَا بِالنَّصْرِ وَهَلَاكِ عَدُوِّهِمْ يُنْذِرُهُمْ عَاقِبَةَ الْمَيْلِ عَنْ سُنَنِهِ، وَيُبَيِّنُ لَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا سَارُوا فِي طَرِيقِ الضَّالِّينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْتَهُونَ إِلَى مِثْلِ مَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَالْآيَةُ خَبَرٌ وَتَشْرِيعٌ، وَفِي طَيِّهَا وَعْدٌ وَوَعِيدٌ.
وَأَقُولُ: السُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ الْمُعَبَّدَةُ وَالسِّيرَةُ الْمُتَّبَعَةُ أَوِ الْمِثَالُ الْمُتَّبَعُ، قِيلَ إِنَّهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: سَنَّ الْمَاءَ إِذَا وَالَى صَبَّهُ، فَشَبَّهَتِ الْعَرَبُ الطَّرِيقَةَ الْمُسْتَقِيمَةَ بِالْمَاءِ الْمَصْبُوبِ، فَإِنَّهُ لِتَوَالِي أَجْزَائِهِ عَلَى نَهْجٍ وَاحِدٍ يَكُونُ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ. وَمَعْنَى {خَلَتْ}: مَضَتْ وَسَلَفَتْ.
أَيْ إِنَّ أَمْرَ الْبَشَرِ فِي اجْتِمَاعِهِمْ وَمَا يَعْرِضُ فِيهِ مِنْ مُصَارَعَةِ الْحَقِّ لِلْبَاطِلِ وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنَ الْحَرْبِ وَالنِّزَالِ وَالْمُلْكِ وَالسِّيَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَدْ جَرَى عَلَى طُرُقٍ قَوِيمَةٍ وَقَوَاعِدَ ثَابِتَةٍ اقْتَضَاهَا النِّظَامُ الْعَامُّ وَلَيْسَ الأمر أُنُفًا كَمَا يَزْعُمُ الْقَدَرِيَّةُ، وَلَا تَحَكُّمًا وَاسْتِبْدَادًا كَمَا يَتَوَهَّمُ الْحَشْوِيَّةُ.
جَاءَ ذِكْرُ السُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، كَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْكَامِ الْقِتَالِ وَمَا كَانَ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ: {قُلْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [8: 38] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ مَعَ أَنْبِيَائِهِمْ: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} [15: 13] وَقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ دَعْوَةِ الإسلام: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا} [18: 55] وَقَوْلِهِ فِي مِثْلِ هَذَا السِّيَاقِ: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا} [35: 43] وَصَرَّحَ فِي سُوَرٍ أُخْرَى كَمَا صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ سُنَنَهُ لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ بَنِي إسرائيل وَسُورَةِ الْأَحْزَابِ وَسُورَةِ الْفَتْحِ.
هَذَا إِرْشَادٌ إِلَهِيٌّ، لَمْ يُعْهَدْ فِي كِتَابٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَعَلَّهُ أُرْجِئَ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ الْإِنْسَانُ كَمَالَ اسْتِعْدَادِهِ الِاجْتِمَاعِيِّ، فَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي الْقُرْآنِ، الَّذِي خَتَمَ اللهُ بِهِ الْأَدْيَانَ.
كَانَ الْمِلِّيُّونَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْيَالِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تعالى فِي خَلْقِهِ تُشْبِهُ أَفْعَالَ الْحَاكِمِ الْمُسْتَبِدِّ فِي حُكُومَتِهِ، الْمُطْلَقِ فِي سُلْطَتِهِ، فَهُوَ يُحَابِي بَعْضَ النَّاسِ فَيَتَجَاوَزُ لَهُمْ عَمَّا يُعَاقِبُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُمْ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ مِنْ سِوَاهُمْ، لِمُجَرَّدِ دُخُولِهِمْ فِي عُنْوَانٍ مُعَيَّنٍ، وَانْتِمَائِهِمْ إِلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَيَنْتَقِمُ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْعُنْوَانُ، أَوْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُمُ الِانْتِمَاءُ إِلَى ذَلِكَ الْإِنْسَانِ.
هَذَا مَا كَانُوا يَظُنُّونَ فِي دِينِهِمْ وَيُسْنِدُونَهُ إِلَى مَشِيئَةِ اللهِ الْمُطْلَقَةِ، مِنْ غَيْرِ تَفْكِيرٍ فِي حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَتَطْبِيقِهَا عَلَى سُنَنِهِ الْعَادِلَةِ، فَإِنْ نَبَّهَهُمْ مُنَبِّهٌ إِلَى مَا يُصِيبُهُمْ بَلْ مَا أَصَابَ أَنْبِيَاءَهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالُوا أنه تعالى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَذَلِكَ رَفْعُ دَرَجَاتٍ أَوْ تَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَأَشْبَاهُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي يَشْتَبِهُ عَلَيْهِمْ حَقُّهُ بِبَاطِلِهِ، وَيَلْتَبِسُ عَلَيْهِمْ حَالِيهِ بِعَاطِلِهِ، وَقَدْ كَانَ وَمَا زَالَ عِلَّةَ غُرُورِ أَصْحَابِهِ بِدِينِهِمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ لِكُلِّ مَا عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ، فَجَاءَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ مَشِيئَةَ اللهِ تعالى فِي خَلْقِهِ إِنَّمَا تَنْفُذُ عَلَى سُنَنٍ حَكِيمَةٍ وَطَرَائِقَ قَوِيمَةٍ، فَمَنْ سَارَ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْحَرْبِ- مَثَلًا- ظَفِرَ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَإِنْ كَانَ مُلْحِدًا أَوْ وَثَنِيًّا، وَمَنْ تَنَكَّبَهَا خَسِرَ وَإِنْ كَانَ صِدِّيقًا أَوْ نَبِيًّا، وَعَلَى هَذَا يَتَخَرَّجُ انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ حَتَّى وَصَلَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَجُّوا رَأْسَهُ، وَكَسَرُوا سِنَّهُ، وَأَرْدَوْهُ فِي تِلْكَ الْحُفْرَةِ؛ كَمَا بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَسَيَأْتِي بَسْطُهُ فِي الْآيَاتِ اللَّاحِقَةِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ أَجْدَرُ النَّاسِ بِمَعْرِفَةِ سُنَنِ اللهِ تعالى فِي الْأُمَمِ، وَأَحَقُّ النَّاسِ بِالسَّيْرِ عَلَى طَرِيقِهَا بَيْنَ الْأُمَمِ؛ لِذَلِكَ لَمْ يَلْبَثْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ ثَابُوا يَوْمَئِذٍ إِلَى رُشْدِهِمْ، وَتَرَاجَعُوا لِلدِّفَاعِ عَنْ نَبِيِّهِمْ، وَثَبَتُوا حَتَّى انْجَلَى عَنْهُمُ الْمُشْرِكُونَ، وَلَمْ يَنَالُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ.
وَكَأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَكُونُوا قَدْ حَفِظُوا مَا وَرَدَ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِنْ إِثْبَاتِ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَكَوْنِهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ كَسُورَةِ الْحِجْرِ وَبَنِي إسرائيل وَالْكَهْفِ وَالْمَلَائِكَةِ أَوْ فَاطِرٍ وَهِيَ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا آنِفًا وَأَشَرْنَا إِلَى بَعْضٍ- أَوْ حَفِظُوا وَلَمْ يَفْقَهُوهُ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمُ انْطِبَاقُهُ عَلَى مَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ الْآتِي: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [3: 165] لِذَلِكَ صَرَّحَ لَهُمْ فِي بَدْءِ الْآيَاتِ الَّتِي تُبَيِّنُ لَهُمْ سُنَنَهُ أَنَّ لَهُ سُنَنًا عَامَّةً جَرَى عَلَيْهَا نِظَامُ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلُ. وَأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِمَّا يَقُصُّ حِكْمَتَهُ عَلَيْهِمْ هُوَ مُطَابِقٌ لِتِلْكَ السُّنَنِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ وَلَا تَتَبَدَّلُ.
وَلَمَّا كَانَ التَّعْلِيمُ بِالْقَوْلِ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ تَطْبِيقٍ عَلَى الْوَاقِعِ مِمَّا يُنْسَى أَوْ يَقِلُّ الِاعْتِبَارُ بِهِ نَبَّهَهُمْ عَلَى هَذَا التَّطْبِيقِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَرْشَدَهُمْ إِلَى تَطْبِيقِهِ عَلَى أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنَّ الْمُصَارَعَةَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ قَدْ وَقَعَتْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْحَقِّ يَغْلِبُونَ أَهْلَ الْبَاطِلِ وَيُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالصَّبْرِ وَالتَّقْوَى (أَيِ اتِّقَاءَ مَا يَجِبُ اتِّقَاؤُهُ فِي الْحَرْبِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَدَرَجَةِ اسْتِعْدَادِ الْأَعْدَاءِ) وَكَانَ ذَلِكَ يَجْرِي بِأَسْبَابٍ مُطَّرِدَةٍ وَعَلَى طَرَائِقَ مُسْتَقِيمَةٍ، يُعْلَمُ مِنْهَا أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إِذَا حَافَظَ عَلَيْهِ يُنْصَرُ وَيَرِثُ الْأَرْضَ، وَإِنَّ مَنْ يَنْحَرِفُ عَنْهُ وَيَعِيثُ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا يُخْذَلُ وَتَكُونُ عَاقِبَتُهُ الدَّمَارَ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ وَاسْتَقْرُوا مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ لِيَحْصُلَ لَكُمُ الْعِلْمُ الصَّحِيحُ التَّفْصِيلِيُّ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْيَقِينُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: أَيْ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُوا فَسِيرُوا. وَهَذَا قَوْلٌ بَاطِلٌ.
قَالَ: وَالسَّيْرُ فِي الْأَرْضِ وَالْبَحْثُ عَنْ أَحْوَالِ الْمَاضِينَ وَتَعَرُّفُ مَا حَلَّ بِهِمْ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ إِلَى مَعْرِفَةِ تِلْكَ السُّنَنِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا كَمَا يَنْبَغِي. نَعَمْ: إِنَّ النَّظَرَ فِي التَّارِيخِ الَّذِي يَشْرَحُ مَا عَرَفَهُ الَّذِينَ سَارُوا فِي الْأَرْضِ وَرَأَوْا آثَارَ الَّذِينَ خَلَوْا يُعْطِي الْإِنْسَانَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ مَا يَهْدِيهِ إِلَى تِلْكَ السُّنَنِ وَيُفِيدُهُ عِظَةً وَاعْتِبَارًا وَلَكِنْ دُونَ اعْتِبَارِ الَّذِي يَسِيرُ فِي الْأَرْضِ بِنَفْسِهِ وَيَرَى الْآثَارَ بِعَيْنِهِ وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِالسَّيْرِ وَالنَّظَرِ ثُمَّ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ مَعَ زِيَادَةٍ تَتَخَلَّلُهُ: كَأَنَّهُ يَقُولُ إِنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ لَهُ عَقْلٌ يَعْتَبِرُ بِهِ، فَهُوَ يَفْهَمُ أَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَرْضِ يَدُلُّهُ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ الْمُتَّقِيَ أَجْدَرُ بِفَهْمِهَا لِأَنَّ كِتَابَهُ أَرْشَدَهُ إِلَيْهَا وَأَجْدَرُ كَذَلِكَ بِالِاهْتِدَاءِ وَالِاتِّعَاظِ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ أَنَّ لِسَيْرِ النَّاسِ فِي الْحَيَاةِ سُنَنًا يُؤَدِّي بَعْضُهَا إِلَى الْخَيْرِ وَالسَّعَادَةِ وَبَعْضُهَا إِلَى الْهَلَاكِ وَالشَّقَاءِ وَأَنَّ مَنْ يَتَّبِعُ تِلْكَ السُّنَنَ فَلابد أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى غَايَتِهَا سَوَاءٌ كَانَ مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا، كَمَا قَالَ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ: إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدِ انْتَصَرُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَخُذِلْتُمْ بِتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ. وَمِنْ هَذِهِ السُّنَنِ أَنَّ اجْتِمَاعَ النَّاسِ وَتَوَاصُلَهُمْ وَتَعَاوُنَهُمْ عَلَى طَلَبِ مَصْلَحَةٍ مِنْ مَصَالِحِهِمْ يَكُونُ- مَعَ الثَّبَاتِ- مِنْ أَسْبَابِ نَجَاحِهِمْ وَوُصُولِهِمْ إِلَى مَقْصِدِهِمْ سَوَاءٌ كَانَ مَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا، وَإِنَّمَا يَصِلُونَ إِلَى مَقْصِدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَيَكُونُ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبَاطِلِ قَدْ ثَبَتَ بِاسْتِنَادِهِ إِلَى مَا مَعَهُمْ مِنَ الْحَقِّ وَهُوَ فَضِيلَةُ الِاجْتِمَاعِ وَالتَّعَاوُنِ وَالثَّبَاتِ، فَالْفَضَائِلُ لَهَا عِمَادٌ مِنَ الْحَقِّ، فَإِذَا قَامَ رَجُلٌ بِدَعْوَى بَاطِلَةٍ وَلَكِنْ رأى جُمْهُورٌ مِنَ النَّاسِ أنه مُحِقٌّ يَدْعُو إِلَى شَيْءٍ نَافِعٍ وَأَنَّهُ يَجِبُ نَصْرُهُ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَنَصَرُوهُ وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَنْجُونَ مَعَهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْبَاطِلَ لَا يَدُومُ، بَلْ لَا يَسْتَمِرُّ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الْوَاقِعِ مَا يُؤَيِّدُهُ بَلْ لَهُ مَا يُقَاوِمُهُ فَيَكُونُ صَاحِبُهُ دَائِمًا مُتَزَلْزِلًا، فَإِذَا جَاءَ الْحَقُّ وَوَجَدَ أَنْصَارًا يَجْرُونَ عَلَى سُنَّةِ الِاجْتِمَاعِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ، وَيُؤَيِّدُونَ الدَّاعِيَ إِلَيْهِ بِالثَّبَاتِ وَالتَّعَاوُنِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَدْمَغَ الْبَاطِلَ وَتَكُونَ الْعَاقِبَةُ لأهلهِ، فَإِنْ شَابَتْ حَقَّهُمْ شَائِبَةٌ مِنَ الْبَاطِلِ، أَوِ انْحَرَفُوا عَنْ سُنَنِ اللهِ فِي تَأْيِيدِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ تُنْذِرُهُمْ بِسُوءِ الْمَصِيرِ. فَالْقُرْآنُ يَهْدِينَا فِي مَسَائِلِ الْحَرْبِ وَالتَّنَازُعِ مَعَ غَيْرِنَا إِلَى أَنْ نَعْرِفَ أَنْفُسَنَا وَكُنْهَ اسْتِعْدَادِنَا لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ حَقِّنَا وَمِنَ السَّيْرِ عَلَى سُنَنِ اللهِ فِي طَلَبِهِ وَفِي حِفْظِهِ، وَأَنْ نَعْرِفَ كَذَلِكَ حَالَ خَصْمِنَا، وَنَضَعَ الْمِيزَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ وَإِلَّا كُنَّا غَيْرَ مُهْتَدِينَ وَلَا مُتَّعِظِينَ.
وَأَقُولُ: أيضاحُ النُّكْتَةِ فِي جَعْلِ الْبَيَانِ لِلنَّاسِ كَافَّةً، وَالْهُدَى وَالْمَوْعِظَةِ لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً هُوَ بَيَانُ أَنَّ الْإِرْشَادَ عَامٌّ، وَأَنَّ جَرَيَانَ الْأُمُورِ عَلَى السُّنَنِ الْمُطَّرِدَةِ حُجَّةٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، تَقِيِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، وَهِيَ تَدْحَضُ مَا وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنَ الشُّبْهَةِ عَلَى الإسلام إِذْ قَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ لَمَا نِيلَ مِنْهُ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: إِنَّ سُنَنَ اللهِ حَاكِمَةٌ عَلَى رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ كَمَا هِيَ حَاكِمَةٌ عَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ. فَمَا مِنْ قَائِدِ عَسْكَرٍ يَكُونُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ فِي أُحُدٍ، وَيُعْمَلُ مَعَهُ مَا عَمِلُوا إِلَّا وَيُنَالُ مِنْهُ؛ أَيْ يُخَالِفُهُ جُنْدُهُ، وَيَتْرُكُونَ حِمَايَةَ الثَّغْرِ الَّذِي يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِهِ، وَيُخَلُّونَ بَيْنَ عَدُوِّهِمْ وَبَيْنَ ظُهُورِهِمْ وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِخَطِّ الرَّجْعَةِ مِنْ مَوَاقِعِهِمْ وَالْعَدُوُّ مُشْرِفٌ عَلَيْهِمْ إِلَّا وَيَكُونُونَ عُرْضَةً لِلِانْكِسَارِ إِذَا هُوَ كَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَلاسيما إِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ فَشَلٍ وَتَنَازُعٍ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ، فَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ لِلَّهِ تعالى سُنَنًا فِي الْأُمَمِ هُوَ بَيَانٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِاسْتِعْدَادِ كُلِّ عَاقِلٍ لِفَهْمِهِ، وَاضْطِرَارِهِ إِلَى قَبُولِ الْحُجَّةِ الْمُؤَلَّفَةِ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يَتْرُكَ النَّظَرَ أَوْ يُكَابِرَ وَيُعَانِدَ، وَأَمَّا كَوْنُهُ هُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ خَاصَّةً فَهُوَ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَيَتَّعِظُونَ بِمَا يَنْطَبِقُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَقَائِعِ فَيَسْتَقِيمُونَ عَلَى الطَّرِيقَةِ، هُمُ الَّذِينَ تَكْمُلُ لَهُمُ الْفَائِدَةُ وَالْمَوْعِظَةُ لِأَنَّهُمْ يَتَجَنَّبُونَ وَيَتَّقُونَ نَتَائِجَ الْإِهْمَالِ الَّتِي يَظْهَرُ لَهُمْ أَنَّ عَاقِبَتَهَا ضَارَّةٌ، فَلْيَزِنْ مُسْلِمُو هَذَا الزَّمَانِ إِيمَانَهُمْ وَإِسْلَامَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَيَنْظُرُوا أَيْنَ مَكَانُهُمْ مِنْ هِدَايَتِهَا، وَمَا هُوَ حَظُّهُمْ مِنْ مَوْعِظَتِهَا؟
أَمَا إِنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا فَبَدَءُوا بِالسَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِمَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ وَأَسْبَابِ هَلَاكِهَا، ثُمَّ اعْتَبَرُوا بِحَالِ الْأُمَمِ الْقَائِمَةِ وَبَحَثُوا عَنْ أَسْبَابِ عِزِّهَا وَثَبَاتِهَا، لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَمْسَوْا مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِسُنَنِ اللهِ، وَأَبْعَدِهِمْ عَنْ مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ خَلْقِ اللهِ، وَلَرَأَوْا أَنَّ غَيْرَهُمْ أَكْثَرُ مِنْهُمْ سَيْرًا فِي الْأَرْضِ، وَأَشَدُّ مِنْهُمُ اسْتِنْبَاطًا لِسُنَنِ الِاجْتِمَاعِ، وَأَعْرَقُ مِنْهُمْ فِي الِاعْتِبَارِ بِمَا أَصَابَ الْأَوَّلِينَ، وَالِاتِّعَاظِ بِجَهْلِ الْمُعَاصِرِينَ، فَهَلْ يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا كِتَابُهُمْ، أن يكون مَنْ يَسِمُونَهُ بِسِمَةِ الْعَدَاوَةِ لَهُ أَقْرَبَ إِلَى هِدَايَتِهِ هَذِهِ مِنْهُمْ؟