فصل: من فوائد الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{فآتاهم الله} أي بسبب قولهم ذلك كما تؤذن به الفاء {ثَوَابَ الدنيا} أي النصر والغنيمة قاله ابن جريج وقال قتادة: الفتح والظهور والتمكن والنصر على عدوهم، قيل: وتسمية ذلك ثوابًا لأنه مترتب على طاعتهم، وفيه إجلال لهم وتعظيم، وقيل: تسمية ذلك ثوابًا مجاز لأنه يحاكيه.
واستشكل تفسير ابن جريج بأن الغنائم لم تحل لأحد قبل الإسلام بل كانت الأنبياء إذا غنموا مالًا جاءت نار من السماء فأخذته فكيف تكون الغنيمة ثوابًا دنيويًا ولم يصل للغانمين منها شيء؟ ا وأجيب بأن المال الذي تأخذه النار غير الحيوان، وأما الحيوان فكان يبقى للغانمين دون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك هو الثواب الدنيوي {وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} أي وثواب الآخرة الحسن، وهو عند ابن جريج رضوان الله تعالى ورحمته، وعند قتادة هي الجنة، وتخصيص الحسن بهذا الثواب للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتد به عنده تعالى، ولعل تقديم ثواب الدنيا عليه مراعاة للترتيب الوقوعي، أو لأنه أنسب بما قبله من الدعاء بالنصر على الكافرين.
{والله يُحِبُّ المحسنين} تذييل مقرر لما قبله فإن محبة الله سبحانه للعبد مبدأ كل خير وسعادة، واللام إما للعهد ووضع الظاهر موضع المضمر إيذانًا بأن ما حكى عنهم من باب الإحسان، وإما للجنس وهم داخلون فيه دخولًا أوليًا وفيه على كلا التقديرين ترغيب للمؤمنين في تحصيل ما حكى من المناقب الجليلة. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}.
بَعْدَ هَذَا بَيَّنَ اللهُ تعالى حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ أَعْظَمِ الْحِكَمِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِغَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ إِشَاعَةُ قَتْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا كَانَ مِنْ تَأْثِيرِهَا فِي الْمُسْلِمِينَ وَمَا كَانَ يَجِبُ أن يكون، وَقَدْ ذَكَرْنَا تَفْصِيلَ ذَلِكَ فِي الْقِصَّةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا فَقَالَ:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ؟ إِلَخْ.
تَقَدَّمَ أنه أُشِيعَ عِنْدَمَا فَرَّقَ خَالِدٌ جَمْعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُحُدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي سَبَبِ ذَلِكَ: إِنَّ عَمْرَو بْنَ قَمِيئَةَ الْحَارِثِيَّ لَمَّا رُمِيَ الرَّسُولُ بِالْحَجَرِ فَشَجَّ رَأْسَهُ وَكَسَرَ سِنَّهُ أَقْبَلَ يُرِيدُ قَتْلَهُ فَذَبَّ عَنْهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ صَاحِبُ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ حَتَّى قُتِلَ فَظَنَّ أنه قَتَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا. فَصَرَخَ بِهَا الصَّارِخُ حَتَّى سَمِعَهَا الْكَثِيرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَفَشَتْ فِي النَّاسِ، فَوَهَنَ أَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ وَضَعُفُوا وَاسْتَكَانُوا مِنْ شِدَّةِ الْحُزْنِ، وَقَالَ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ: لَيْتَ عَبْدَ اللهِ بْنَ أُبَيٍّ يَأْخُذُ لَنَا مِنْ أَبِي سُفْيَانَ أَمَانًا، وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمَا قُتِلَ، ارْجِعُوا إِلَى إِخْوَانِكُمْ وَإِلَى دِينِكُمْ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ: وَفَشَا فِي النَّاسِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قُتِلَ، فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّخْرَةِ- أَيِ الَّذِينَ فَرُّوا إِلَى الْجَبَلِ فَقَامُوا عَلَى صَخْرَةٍ مِنْهُ- لَيْتَ لَنَا رَسُولًا إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيٍّ فَيَأْخُذُ لَنَا أَمَنَةً مِنْ أَبِي سُفْيَانَ، يَا قَوْمِ إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ فَارْجِعُوا إِلَى قَوْمِكُمْ قَبْلَ أَنْ يَأْتُوكُمْ فَيَقْتُلُوكُمْ وقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ مَا يَأْتِي عَنْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ الْمُوقِنُونَ فَمِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ مَعَهُ وَمَنْ كَانَ بَعِيدًا فَرَجَعَ إِلَيْهِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَأَبُو دُجَانَةَ الَّذِي جَعَلَ نَفْسَهُ تُرْسًا دُونَهُ فَكَانَ يَقَعُ عَلَيْهِ النَّبْلُ وَهُوَ لَا يَتَحَرَّكُ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي بَيَانِ حُكْمِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ كَانَتْ مُقَدِّمَةً وَإِرْهَاصًا بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَذَكَرَ أَنَّ تَوْبِيخَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ يَوْمَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَدِ ارْتَدَّ مَنِ ارْتَدَّ عَلَى عَقِبَيْهِ وَثَبَتَ الصَّادِقُونَ عَلَى دِينِهِ حَتَّى كَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَهُمْ، أَقُولُ: وَلَا يُنَافِي هَذِهِ الْحِكْمَةَ كَوْنُ الْوَقْعَةِ كَانَتْ قَبْلَ وَفَاتِهِ صلى الله عليه وسلم بِبِضْعِ سِنِينَ- لِأَنَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ كَانَتْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ- فَإِنَّ تَوْطِينَ نَفْسِ الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ عَلَى الشَّيْءِ وَإِعْدَادِهَا لَهُ لَا يَكُونُ قَبْلَ وُقُوعِهِ بِيَوْمٍ أَوْ أَيَّامٍ أَوْ شُهُورٍ بَلْ لابد فِيهِ مِنْ زَمَنٍ يَكْفِي لِتَعْمِيمِهِ فِيهَا وَصَيْرُورَتِهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسَلَّمَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَهَا حَتَّى لَا يَغِيبَ عَنِ الْأَذْهَانِ.
وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا قَدْ خَلَتْ وَمَضَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ فَمَاتُوا وَقَدْ قُتِلَ بَعْضُ النَّبِيِّينَ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمُ الْخُلْدُ وَهُوَ لابد أَنْ تَحْكُمَ عَلَيْهِ سُنَّةُ اللهِ بِالْمَوْتِ فَيَخْلُو كَمَا خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِ، إِذْ لَا بَقَاءَ إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْمُوَحِّدِ أَنْ يَعْتَقِدَهُ لِغَيْرِهِ، أَفَإِنْ مَاتَ كَمَا مَاتَ مُوسَى وَعِيسَى، أَوْ قُتِلَ كَمَا قُتِلَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى تَنْقَلِبُونَ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، أَيْ تُوَلُّونَ الدُّبُرَ رَاجِعِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، يَهْدِيهِمُ اللهُ بِهَذَا إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ فَيَبْقَى لِلنَّاسِ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مِنْ إِرْسَالِهِ مَا أُرْسِلَ بِهِ مِنَ الْهِدَايَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، كَمَا وَجَبَ فِي عَهْدِهِ، وَلِلَّهِ دَرُّ أَنَسِ بْنِ النَّضْرِ وَرَضِيَ عَنْهُ فَإِنَّهُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الَّتِي زَاغَتْ فِيهَا الْأَبْصَارُ وَالْبَصَائِرُ، وَاشْتَدَّ الْكَرْبُ حَتَّى بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَقَالَ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ مَا قَالُوا، قَدْ قَالَ: يَا قَوْمِ إِنْ مُحَمَّدٌ قُتِلَ فَإِنَّ رَبَّ مُحَمَّدٍ لَمْ يُقْتَلْ فَقَاتِلُوا عَلَى مَا قَاتَلَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، اللهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ، وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ ثُمَّ شَدَّ بِسَيْفِهِ وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَالِانْقِلَابُ عَلَى الْأَعْقَابِ: الْإِدْبَارُ عَمَّا كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُومُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْجِهَادِ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الِارْتِدَادُ، وَمَا ارْتَدَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ قَوْمِ الْمُنَافِقِينَ، وَيَجُوزُ أن يكون عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيظِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْفِرَارِ وَالِانْكِشَافِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَإِسْلَامِهِ.
وقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ كَلِمَةَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ مِنْ قَبِيلِ الْمَثَلِ تُضْرَبُ لِمَنْ رَجَعَ عَنِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً تَشْمَلُ الِارْتِدَادَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جَاهَرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ، وَالِارْتِدَادُ عَنِ الْعَمَلِ كَالْجِهَادِ وَمُكَافَحَةِ الْأَعْدَاءِ وَتَأْيِيدِ الْحَقِّ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
قال تعالى: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا} لِأَنَّهُ وَعْدٌ بِأَنْ يَنْصُرَ مَنْ يَنْصُرُهُ وَيُعِزُّ دِينَهُ وَيَجْعَلُ كَلِمَتَهُ هِيَ الْعُلْيَا وَهُوَ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ لَا يَحُولُ دُونَ إِنْجَازِهِ ارْتِدَادُ بَعْضِ الضُّعَفَاءِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ، فَإِنَّهُ يُثَبِّتُ الْمُؤْمِنِينَ وَيُمَحِّصُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا كَالتِّبْرِ الْخَالِصِ وَبِهِمْ يُقِيمُ دِينَهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ لَهُ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ بِالْقُوَى الْعَقْلِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ وَبِالْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ، الْقَائِمِينَ بِحُقُوقِهَا فِي حَيَاةِ رَسُولِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَوَاءٍ، يَأْتُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُمْكِنُ الْإِتْيَانُ بِهِ، لَا يَأْلُونَ جُهْدًا، وَلَا يُقَصِّرُونَ فِي شَيْءٍ عَمْدًا، إِذْ لَمْ يَكُنْ عَمَلُهُمْ لِوَجْهِ الرَّسُولِ فَيَبْطُلُ إِذَا غَيَّبَهُ الْمَوْتُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ لِوَجْهِ اللهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وَهُوَ لَا يَمُوتُ وَلَا يَزُولُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِرْشَادٌ لَنَا إِلَى أَلَّا نَجْعَلَ الْمَصَائِبَ الشَّخْصِيَّةَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِ مَنْ تُصِيبُهُ عَلَى بَاطِلٍ أَوْ عَلَى حَقٍّ، فَإِنَّ مِنَ الْجَائِزِ عَقْلًا وَالْوَاقِعِ فِعْلًا أَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْحَقِّ بِالْمَصَائِبِ وَالرَّزَايَا، وَأَنْ يُبْتَلَى صَاحِبُ الْبَاطِلِ بِالنِّعَمِ وَالْعَطَايَا، كَمَا أَنَّ عَكْسَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَوَاقِعٌ، وَتُعَلِّمُنَا أيضا أَلَّا نَعْتَمِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ عَلَى وُجُودِ الْمُعَلِّمِ بِحَيْثُ نَتْرُكُهُمَا بَعْدَ ذَهَابِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا نَعْتَمِدُ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا وَالتَّحَقُّقِ بِهِمَا وَالسَّيْرِ عَلَى مِنْهَاجِهِمَا فِي حَالِ وُجُودِ الْمُعَلِّمِ وَبَعْدَهُ، فَكَأَنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ: عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَضِيئُوا بِالنُّورِ وَتَتَقَلَّدُوا سَيْفَ الْبُرْهَانِ اللَّذَيْنِ جَاءَكُمْ بِهِمَا مُحَمَّدٌ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ جِسْمَهُ مِنْ جُرْحٍ أَوْ أَلَمٍ، وَمَا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيَاةٍ أَوْ مَوْتٍ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي صِحَّةِ دَعْوَتِهِ، وَلَا فِي إِضْعَافِ النُّورِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَلَا مَعْنَى إذًا لِتَعْلِيقِ إِيمَانِكُمْ بِحَيَاتِهِ أَوْ سَلَامَةِ بَدَنِهِ مِمَّا يَعْرِضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، خَاضِعٌ لِسُنَنِ اللهِ كَخُضُوعِكُمْ.
أَقُولُ: قَدْ غَفَلَ عَنْ هَذَا مَنْ أَهْمَلَ هِدَايَةَ الْقُرْآنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (جِنْسِيَّةً لَا إِذْعَانًا وَمَعْرِفَةً) فَتَرَاهُمْ إِذَا سَاءَ اعْتِقَادُهُمْ فِي رَجُلٍ- كَأَنْ خَالَفَ تَقَالِيدَهُمْ أَوْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَهْوَاءَهُمْ- يَتَرَبَّصُونَ بِهِ الدَّوَائِرَ فَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ زَعَمُوا أَنَّ اللهَ تعالى قَدِ انْتَقَمَ مِنْهُ حُبًّا لَهُمْ وَبُغْضًا فِيهِ! فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ مُتَّهَمًا بِالْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُونَ صَلَاحَهُمْ وَوِلَايَتَهُمْ، قَالُوا إِنَّهُمْ قَدْ تَصَرَّفُوا فِيهِ!! وَيَغْفُلُونَ عَمَّا أَصَابَ النَّبِيَّ فِي أُحُدٍ وَمَا أَصَابَ كَثِيرًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، بَلْ يَعْمُونَ عَمَّا يُصِيبُ مُعْتَقَدِيهِمْ وَأَوْلِيَاءَهُمْ فِي عَهْدِهِمْ. لَمَّا حُبِسَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي عَاقِبَةِ الثَّوْرَةِ الْعُرَابِيَّةِ قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ: أنه حُبِسَ كَرَامَةً لِلشَّيْخِ عِلِيشٍ لِأَنَّهُ- أَيِ الشَّيْخِ عِلِيشٍ- كَانَ يَكْرَهُهُ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ وَكَانَ الشَّيْخُ عِلِيشٍ مَحْبُوسًا أيضا فَقَالَ: لِمَاذَا أَكُونُ حُبِسْتُ كَرَامَةً لَهُ وَلَمْ يَكُنْ هُوَ الَّذِي حُبِسَ كَرَامَةً لِي؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ بِي الظَّنَّ وَقَالَ السُّوءَ لِتَصْدِيقِهِ فِيَّ الْوُشَاةَ النَّمَّامِينَ وَأَنَا لَمْ أَقُلْ فِيهِ شَيْئًا؟ السَّبَبُ فِي حَبْسِ كُلٍّ مِنَّا وَاحِدٌ، فَلِمَاذَا كَانَ كَرَامَةً لِوَاحِدٍ وَانْتِقَامًا مِنَ الْآخَرِ؟
وَلَا يَخْفَى عَلَى الْمُؤْمِنِ الْعَارِفِ أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ يُعَارِضُ التَّوْحِيدَ الْخَالِصَ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِنَ الْمَقَاصِدِ فِي الْآيَةِ وَالْحُكْمِ فِي سَبَبِهَا تَقْرِيرُ التَّوْحِيدِ بِبَيَانِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ كَسَائِرِ الْبَشَرِ فِي الْخُضُوعِ لِسُنَنِ اللهِ وَنِظَامِ خَلْقِهِ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِ مَزَايَا الإسلام مِنْ رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ مَا نَصُّهُ:
ثُمَّ أَمَاطَ (أَيِ الإسلام) اللِّثَامَ عَنْ حَالِ الْإِنْسَانِ فِي النِّعَمِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ بِهَا الْأَشْخَاصُ أَوِ الْأُمَّةُ، وَالْمَصَائِبُ الَّتِي يُرْزَءُونَ بِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ الأمريْنِ فَصْلًا لَا مَجَالَ مَعَهُ لِلْخَلْطِ بَيْنَهُمَا، فَأَمَّا النِّعَمُ الَّتِي يُمَتِّعُ اللهُ بِهَا بَعْضَ الْأَشْخَاصِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، وَالرَّزَايَا الَّتِي يُرْزَأُ بِهَا فِي نَفْسِهِ فَكَثِيرٌ مِنْهَا كَالثَّرْوَةِ وَالْجَاهِ وَالْقُوَّةِ وَالْبَنِينَ أَوِ الْفَقْرِ وَالضَّعَةِ وَالضَّعْفِ وَالْفَقْدِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ كَاسِبُهَا أَوْ جَالِبُهَا مَا عَلَيْهِ الشَّخْصُ فِي سِيرَتِهِ مِنِ اسْتِقَامَةٍ وَعِوَجٍ أَوْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، كَثِيرًا مَا أَمْهَلَ اللهُ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْبُغَاةِ أَوِ الْفَجَرَةِ الْفَسَقَةِ وَتَرَكَ لَهُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنْظَارًا لَهُمْ حَتَّى يَتَلَقَّاهُمْ مَا أَعَدَّ مِنَ الْعَذَابِ الْمُقِيمِ فِي الْحَيَاةِ الْأُخْرَى وَكَثِيرًا مَا امْتَحَنَ اللهُ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِحُكْمِهِ، وَهُمُ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ عَبَّرُوا عَنْ إِخْلَاصِهِمْ فِي التَّسْلِيمِ بِقَوْلِهِمْ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [2: 156] فَلَا غَضَبُ زَيْدٍ وَلَا رِضَا عَمْرٍو وَلَا إِخْلَاصُ سَرِيرَةٍ وَلَا فَسَادُ عَمَلٍ مِمَّا يَكُونُ لَهُ فِي هَذِهِ الرَّزَايَا، وَلَا فِي تِلْكَ النِّعَمِ الْخَاصَّةِ، اللهُمَّ إِلَّا فِيمَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ ارْتِبَاطَ الْمُسَبِّبِ بِالسَّبَبِ عَلَى جَارِي الْعَادَةِ كَارْتِبَاطِ الْفَقْرِ بِالْإِسْرَافِ، وَالذُّلِّ بِالْجُبْنِ وَضَيَاعِ السُّلْطَانِ بِالظُّلْمِ، وَكَارْتِبَاطِ الثَّرْوَةِ بِحُسْنِ التَّدْبِيرِ فِي الْأَغْلَبِ، وَالْمَكَانَةِ عِنْدَ النَّاسِ بِالسَّعْيِ فِي مَصَالِحِهِمْ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمٍ آخَرَ.
أَمَّا شَأْنُ الْأُمَمِ فَلَيْسَ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الرُّوحَ الَّذِي أَوْدَعَهُ اللهُ جَمِيعَ شَرَائِعِهِ الْإِلَهِيَّةِ مِنْ تَصْحِيحِ الْفِكْرِ وَتَسْدِيدِ النَّظْرَةِ وَتَأْدِيبِ الْأَهْوَاءِ وَتَحْدِيدِ مَطَامِحِ الشَّهَوَاتِ، وَالدُّخُولِ إِلَى كُلِّ أَمْرٍ مِنْ بَابِهِ، وَطَلَبِ كُلِّ رَغِيبَةٍ مِنْ أَسْبَابِهَا، وَحِفْظِ الْأَمَانَةِ، وَاسْتِشْعَارِ الْأُخُوَّةِ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ، وَالتَّنَاصُحِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْفَضَائِلِ- ذَلِكَ الرُّوحُ هُوَ مَصْدَرُ حَيَاةِ الْأُمَمِ وَمَشْرِقِ سَعَادَتِهَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَلَنْ يَسْلُبَ اللهُ عَنْهَا نِعْمَتَهُ مَا دَامَ هَذَا الرُّوحُ فِيهَا، يَزِيدُ اللهُ النِّعَمَ بِقُوَّتِهِ، وَيُنْقِصُهَا بِضَعْفِهِ حَتَّى إِذَا فَارَقَهَا ذَهَبَتِ السَّعَادَةُ عَلَى أَثَرِهِ وَتَبِعَتْهُ الرَّاحَةُ إِلَى مَقَرِّهِ، وَغَيَّرَ اللهُ عِزَّةَ الْقَوْمِ بِالذِّلَّةِ، وَكُثْرَهُمْ بِالْقِلِّ، وَنَعِيمَهُمْ بِالشَّقَاءِ، وَرَاحَتَهُمْ بِالْعَنَاءِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمُ الظَّالِمِينَ أَوِ الْعَادِلِينَ فَأَخَذَهُمْ بِهِمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ سَاهُونَ {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [17: 16]، أَمَرْنَاهُمْ بِالْحَقِّ فَفَسَقُوا عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ، ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُمُ الْأَنِينُ وَلَا يُجْدِيهِمُ الْبُكَاءُ، وَلَا يُفِيدُهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ صُوَرِ الْأَعْمَالِ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُمُ الدُّعَاءُ، وَلَا كَاشِفَ لِمَا نَزَلَ بِهِمْ إِلَّا أَنْ يَلْجَئُوا إِلَى ذَلِكَ الرُّوحِ الْأَكْرَمِ فَيَسْتَنْزِلُوهُ مِنْ سَمَاءِ الرَّحْمَةِ بِرُسُلِ الْفِكْرِ وَالذِّكْرِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ {إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [13: 11] {سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} [33: 62] وَمَا أَجَلَّ مَا قَالَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي اسْتِسْقَائِهِ: اللهُمَّ أنه لَمْ يَنْزِلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ وَلَمْ يُرْفَعْ إِلَّا بِتَوْبَةٍ عَلَى هَذِهِ السُّنَنِ جَرَى سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسْلِمُ يَرْفَعُ رُوحَهُ بِهَذِهِ الْعَقَائِدِ السَّامِيَةِ وَيَأْخُذُ نَفْسَهُ بِمَا يُتْبِعُهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْجَلِيَّةِ كَانَ غَيْرُهُ يَظُنُّ أنه يُزَلْزِلُ الْأَرْضَ بِدُعَائِهِ وَيَشُقُّ الْفُلْكَ بِبُكَائِهِ، وَهُوَ وَلِعٌ بِأَهْوَائِهِ مَاضٍ فِي غُلَوَائِهِ، وَمَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُ ظَنُّهُ مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. اهـ.
أَقُولُ: وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ أيضا أنه لَا يَنْبَغِي أن يكون اسْتِمْرَارُ الْحَرْبِ وَعَدَمَهُ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقَائِدِ بِحَيْثُ إِذَا قُتِلَ يَنْهَزِمُ الْجَيْشُ أَوْ يَسْتَسْلِمُ لِلْأَعْدَاءِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَعْمَالُ وَالْمَصَالِحُ الْعَامَّةُ جَارِيَةً عَلَى نِظَامٍ ثَابِتٍ لَا يُزَلْزِلُهُ فَقْدُ الرُّؤَسَاءِ، وَهَذَا مَا عَلَيْهِ نِظَامُ الْحُرُوبِ وَالْحُكُومَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي الْعُصُورِ الْقَدِيمَةِ تَبَعًا لِرُؤَسَائِهِمْ يَحْيَوْنَ لِحَيَاتِهِمْ وَيُخْذَلُونَ بِمَوْتِهِمْ، حَتَّى إِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ وُجُودَ الْجَيْشِ الْعَظِيمِ بَعْدَ فَقْدِ الْقَائِدِ كَالْعَدَمِ.
إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي تُقَدِّرُ هَذِهِ الْهِدَايَةَ حَقَّ قَدْرِهَا تُعِدُّ لِكُلِّ عِلْمٍ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ وَلِكُلِّ عَمَلٍ تَقُومُ مَصَالِحُهَا بِهِ رِجَالًا كَثِيرِينَ، فَلَا تَفْقِدُ مُعَلِّمًا وَلَا مُرْشِدًا وَلَا حَاكِمًا وَلَا قَائِدًا وَلَا رَئِيسًا وَلَا زَعِيمًا إِلَّا وَيُوجَدُ فِيهَا مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيُؤَدِّي لَهَا مِنَ الْخِدْمَةِ مَا كَانَ يُؤَدِّيهِ، فَهِيَ لَا تَحْصُرُ الِاسْتِعْدَادَ لِشَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ فِي فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ، وَلَا تَقْصُرُ الْقِيَامَ بِأَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَلَى نَابِغٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّابِغِينَ، وَلَا يَتَجَرَّأُ فِيهَا حَاكِمٌ وَلَا زَعِيمٌ عَلَى احْتِكَارِ عِلْمٍ مِنَ الْعُلُومِ أَوْ عَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، بَلْ تَتَسَابَقُ فِيهَا الْهِمَمُ إِلَى الِاسْتِعْدَادِ لِكُلِّ شَيْءٍ يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ، وَيَنَالَ مِنْهُ الْعَامِلُ بِقَدْرِ هِمَّتِهِ وَسَعْيِهِ وَتَأْيِيدِ التَّوْفِيقِ لَهُ، فَأَيْنَ نَحْنُ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذِهِ الْهِدَايَةِ الْيَوْمَ؟.
بَعْدَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ- قَاعِدَةِ الِاعْتِمَادِ عَلَى التَّحَقُّقِ بِالْعُلُومِ وَالنُّهُوضِ بِالْأَعْمَالِ دُونَ الِاتِّكَالِ عَلَى أَفْرَادِ الرِّجَالِ- هَدَانَا اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ إِلَى قَاعِدَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ فَقَالَ: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا الْآيَةَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: تِلْكَ قَضِيَّةٌ وَهَذِهِ قَضِيَّةٌ أُخْرَى، وَوَجْهُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ لَوْمُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا وَقَعَ مِنْهُمْ إِذْ بَلَغَهُمْ قَتْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُرَادُ بِهَذِهِ بَيَانُ أنه لَوْ قُتِلَ لَمَا كَانَ قَتْلُهُ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَهُوَ تَوْبِيخٌ لِمَنِ انْدَهَشَ مِنْ خَبَرِ مَوْتِهِ كَأَنَّهُمْ بِسَبَبِ زِلْزَالِهِمْ وَزَعْزَعَةِ عَقَائِدِهِمْ قَدْ جَعَلُوا مَوْتَهُ جِنَايَةً مِنْهُ، فَأَذَاقَهُمْ تعالى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ مَرَارَةَ خَطَئِهِمْ وَأَرَاهُمْ بِهَا قُبْحَ جَهْلِهِمْ؛ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ- أَيْ لَا إِلَى نَفْسِهِ- فَلَوْ كَانَ هَذَا الْمَوْتُ يَقَعُ بِدُونِ إِذْنِ اللهِ لَكَانَ الِانْقِلَابُ صَوَابًا، وَلَكِنْ إِذَا كَانَ هَذَا الْمَوْتُ لَا يَقَعُ إِلَّا بِإِذْنِهِ تعالى إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِي الْعَالَمِ سُلْطَانٌ يَقْهَرُهُ وَيُوقِعُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا بِالْكُرْهِ مِنْهُ، فَلَا مَعْنَى لِزَلْزَلَةِ ثِقَتِكُمْ عَنِ الْمُضِيِّ فِيمَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ مَعَ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَنَّ اللهَ لَمْ يَزَلْ حَيًّا بَاقِيًا عَلِيمًا حَكِيمًا.