فصل: من فوائد القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [153].
إذ تصعدون متعلق بصرفكم أو بقوله ليبتليكم، أو بمقدر. والإصعاد: الإبعاد في الأرض. أي: تبعدون في الفرار، وقرئ: تَصعَدون، من الثلاثي، أي: في الجبل: {وَلاَ تَلْوُونَ} أي: لا تعطفون بالوقوف: {عَلَى أحَدٍ} أي: من قريب ولا بعيد، من الدهش والروعة: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} أي: ساقتكم وجماعتكم الأخرى، إلى ترك الفرار من الأعداء وإلى العود والكرة عليهم. وأنتم مدبرون وهو ثابت في مكانه في نحر العدو في نفر يسير وثوقًا بوعد الله ومراقبة له.
قال السدَي: لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد، فهزموهم، دخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها. فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: «إليَّ عَبَّاد الله! إليَّ عَبَّاد الله!» فذكر الله صعودهم إلى الجبل- ثم ذكر دعاء النبيَ صلى الله عليه وسلم إياهم فقال: {إِذْ تُصْعِدُونَ} إلخ.
قال ابن كثير: وكذا قال ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
وفي حديث البراء رضي الله عنه في مسند الإمام أحمد أنهم لما انهزموا لم يبق مع النبيَ صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلًا.
وروى مسلم عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش: {فَأَثَابَكُمْ} أي: جازاكم بهذا الهرب والفرار: {غُمًّا بِغَمٍّ} أي: غمًا متصلًا بغم، يعني غم الهزيمة والكسرة، وغم صرخة الشيطان فيهم بأن محمدًا قتل. وقيل: الباء بمعنى مع، وقيل: بمعنى على، وهما قريبان من الأول. وقيل: الباء للمقابلة والعوض، أي: أذاقكم عمًا بمقابلة غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو عصيانكم أمره. قاله الزجاج. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين، وقيل: المعنى غمًا بعد غم أي: غمًا مضاعفًا. ثم أشار إلى سر ذلك بقوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي: لتتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات فيها، وتتعودوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة، وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من الحظوظ والمنافع. وقوله: {وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} من الغموم والمضار.
قال العلامة ابن القيم في زاد المعاد: وقيل جازاكم غمًا بما غممتم به رسوله بفراركم عنه، وأسلمتموه إلى عدوه. فالغم الذي حصل لكم جزاءً على الغم الذي أوقعتموه بنبيه. والقول الأول أظهر لوجوه:
أحدها: أن قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ} تنبيه على حكمة هذا الغم بعد الغم، وهو أن ينسيهم الحزن على ما فاتهم من الظفر، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والجراح، فنسوا بذلك السلب، وهذا إنما يحصل بالغم الذي يعقبه غم آخر.
الثاني: أنه مطابق للواقع، فإنه حصل لهم غم فوات الغنيمة، ثم أعقبه غم الهزيمة، ثم غم الجراح الذي أصابهم، ثم غم القتل، ثم غم سماعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، ثم غم ظهور أعدائهم على الجبل فوقهم. وليس المراد غمين اثنين خاصة، بل غمًا متتابعًا لتمام الابتلاء والامتحان.
الثالث: أن قوله بغم من تمام الثواب، لا أنه سبب جزاء الثواب. والمعنى: أثابكم غمًا متصلًا بغم، جزاء على ما وقع منكم من الهرب، وإسلامكم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وترك استجابتكم له وهو يدعوكم، ومخالفتكم له في لزوم مركزكم، وتنازعكم في الأمر وفشلكم. وكل واحد من هذه الأمور يوجب غمًا يخصه، فترادفت عليهم الغموم، كما ترادفت منهم أسبابها وموجباتها. ولولا أن تداركهم بعفوه لكان أمرًا آخر. ومن لطفه بهم، ورأفته ورحمته، أن هذه الأمور التي صدرت منهم كان من أمور الطباع، وهي من بقايا النفوس التي تمنع من النصرة المستقرة، فقيض لهم بلطفه أسبابًا أخرجها من القوة إلى الفعل، فيترتب عليها آثارها المكروهة، فعلموا حينئذ أن التوبة منها، والاحتراز من أمثالها، ودفعها بأضدادها، أمرٌ متعين لا يتم لهم الفلاح والنصرة الدائمة المستقرة إلا به، فكانوا أشد حذرًا بعدها ومعرفة بالأبواب التي دخل عليهم منها. وربما صحت الأجسام بالعلل.

.لطيفة: [لفظ الثواب]:

لفظ الثواب لا يستعمل في الأغلب إلا في الخير، ويجوز أيضا استعماله في الشر، لأنه مأخوذ من قولهم: ثاب إليه عقله، أي: رجع إليه. قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ} [البقرة: 125]. والمرأة تسمى ثيَبًا لأن الواطئ عائد إليها.
وأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله، سواء كان خيرًا أو شرًا، إلا أنه بحسب العرف اختص لفظ الثواب بالخير. فإن حملنا لفظ الثواب هاهنا على أصل اللغة استقام الكلام، وإن حملنا على مقتضى العرف كان ذلك واردًا على سبيل التهكم، كما يقال: تحيته الضرب وعتابه السيف، أي: جعل الغم مكان ما يرجون من الثواب على حد: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عِمْرَان: 21]- قاله الرازي-.
تنبيه:
قال المفضل: لا زائدة، والمعنى: لتتأسفوا على مما فاتكم وعلى ما أصابكم عقوبة لكم، كقوله: {أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف: 12]، و: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} [الحديد: 29]، أي: أن تسجد وليعلم.
وعندي أنه بعيد، لاسيما مع تكرار لا في المعطوف، واستقامة المعنى الجيد على اعتبارها، فالوجه ما سلف.
{وَالله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} خيرًا وشرًا، قادر على مجازاتكم، وفيه أعظم زاجر عن الإقدام على المعصية. اهـ.

.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً}.
أي: أمنًا. والأمنة بتحريك الميم مصدر، يقال: أمن أمنًا وأمانًا وأمنًا وأمنة محركتين وفي حديث نزول عيسى عليه السلام، وتقع الأمنة في الأرض، أي: الأمن. ومثله من المصادر العظمة والغلبة، وهو منصوب على المفعولية. وقوله تعالى: {نُّعَاسًا} بدل من: {أَمَنَةً} وقيل: هو المفعول، و: {أَمَنَةً} حال أو مفعول له: {يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ} وهم المخلصون، أهل اليقين والثبات والتوكل الصادق، والجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله. والنعاس في حال الحرب دليل على الأمان، كما قال في سورة الأنفال: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] الآية.
وروى البخاري في التفسير عن أنس عن أبي طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد، قال: فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه، ويسقط وآخذه. ورواه الترمذي والنسائي والحاكم. ولفظ الترمذي: قال أبو طلحة: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر، وما منهم ويومئذ أحد إلا يميد تحت حجفته من النعاس. فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا}. وقد ساق الرازي لذلك النعاس فوائد:
منها: أن الأعداء كانوا في غاية الحرص على قتلهم، فبقاؤهم في النوم مع السلامة في مثل تلك المعركة من أدل الدلائل على أن حفظ الله وعصمته معهم. وذلك مما يزيل الخوف عن قلوبهم، ويورثهم مزيد الوثوق بوعد الله تعالى- انتهى-. ثم أخبر تعالى أن من لم يصبه ذلك النعاس فهو ممن أهمته نفسه، لا دينه ولا نبيه ولا أصحابه، بقوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ} أي: ما بهم إلا هم أنفسهم وقد قصد خلاصها، فلم يغشهم النعاس من القلق والجزع والخوف: {يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ} أي: غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به سبحانه: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} كما قال تعالى في الآية الأخرى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] الآية. وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن أهل الريب والشك، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة، تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة.
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: وقد فسر هذا الظن الذي لا يليق بالله بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وأنه يسلمه للقتل. وفسر بأن ما أصابهم لم يكن بقضائه وقدره، ولا حكمة له فيه. ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يتم أمر رسوله، ويظهره على الدين كله. وهذا هو ظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون به سبحانه وتعالى في سورة الفتح، حيث يقول: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِالله ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]. وإنما كان هذا ظن السوء، وظن الجاهلية المنسوب إلى أهل الجهل، وظن غير الحق، لأنه ظن غير ما يليق بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وذاته المبرأة من كل سوء. بخلاف ما يليق بحكمته وحمده، وتفرده بالربوبية والإلهية، وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه، وكلمته التي سبقت لرسله أنه ينصرهم ولا يخذلهم، ولجنده بأنهم هم الغالبون. فمن ظن به أنه لا ينصر رسله، ولا يتم أمره، ولا يؤيده ويؤيد جنده، ويعليهم ويظفرهم بأعدائه، ويظهرهم عليهم، وأنه لا ينصر دينه وكتابه، وأنه يديل الشرك على التوحيد، والباطل على الحق، إدالة مستقرة يضمحل معها التوحيد والحق اضمحلالًا لا يقوم بعده أبدًا- فقد ظن بالله السوء ونسبه إلى خلاف ما يليق بكماله وجلاله وصفاته ونعوته. فإن عزته وحكمة إلهيته تأبى ذلك، ويأبى أن يذل حزبه وجنده، وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين به، العادلين به- فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه، ولا عرف صفاته وكماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرفه ولا عرف ربوبيته وملكه وعظمته، وكذلك من أنكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة، وغاية محمودة يستحق الحمد عليها، وأن ذلك إنما صدر عن مشيئة مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هي أحب إليه من فوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقديرها عن الحكمة لإفضائها إلى ما يحب، وإن كانت مكروهة له، فما قدرها سدى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلًا: {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]. وأكثر الناس يظنون بالله غير الحق، ظن السوء، فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم. ولا يسلم عن ذلك إلا من عرف الله وعرف أسماءه وصفاته، وعرف موجب حمده وحكمته. فمن قنط من رحمته، وأيس من روحه، فقد ظن به ظن السوء. ومن جوّز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويسوي بينهم وبين أعدائه، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أن يترك خلقه سدى معطلين من الأمر والنهي ولا يرسل إليهم رسله، ولا ينزل عليهم كتبه، بل يتركهم هملًا كالأنعام فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه لن يجمع عبيده بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين، فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد، وأنه يعاقبه بما لا صنيع له فيه، ولا اختيار له، ولا قدرة ولا إرادة في حصوله، بل يعاقبه على فعله هو سبحانه به، أو ظن أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله ويجريها على أيديهم، يضلون بها عباده، وأنه يحسن منه كل شيء حتى تعذيب من أفنى عمره في طاعته، فيخلده في الجحيم أسفل السافلين، وينعم من استنفد عمره في داوته وعداوة رسله ودينه فيرفعه إلى أعلى عليين، وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده، ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق، وإلا فالعقل لا يقتضي بقبح أحدهما وحسن الآخر- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل، وترك الحق لم يخبر به، وإنما رمز إليه رموزًا بعيدة، وأشار إليه إشارات ملغزة، لم يصرح به، وصرح دائمًا بالتشبيه والتمثيل والباطل،، وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه، وتأويله على غير تأويله، ويتطلبوا له وجوه الاحتمالات المستكرهة، والتأويلات التي هي بالألغاز والأحاجي، أشبه منها بالكشف والبيان، وأحالهم في معرفة أسمائه، وصفاته على عقولهم وآرائهم، لا على كتابه، بل أراد منهم أن لا يحملوا كلامه على ما يعرفون من خطابهم ولغتهم، مع قدرته أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به، ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل، فلم يفعل، بل سلك بهم خلاف طريق الهدى والبيان- فقد ظن به ظن السوء. فإنه إن قال أنه غير قادر على التعبير عن الحق باللفظ الصريح الذي عبر به هو وسلفه، فقد ظن بقدرته العجز. وإن قال: أنه قادر ولم يبين، وعدل عن البيان، وعن التصريح بالحق، إلى ما يوهم، بل يوقع في الباطل المحال، والاعتقاد الفاسد- فقد ظن بحكمته ورحمته ظن السوء. وظن أنه هو وسلفه عبروا عن الحق بصريحه دون الله ورسوله، وإن الهدى والحق في كلامهم وعباراتهم. وأما كلام الله فإنما يؤخذ من ظاهره التشبيه والتمثيل والضلال، وظاهر كلام المتهوكين الحيارى هو الهدى والحق، وهذا من أسوأ الظن بالله. فكل هؤلاء من الظانين بالله ظن السوء. ومن الظانين به غير الحق، ظن الجاهلية. ومن ظن به يكون في ملكه ما يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه كان معطلًا من الأزل إلى الأبد، عن أن يفعل ولا يوصف حينئذ بالقدرة على الفعل، ثم صار قادرًا عليه بعد أن لم يكن قادرًا- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن به أنه ليس فوق سماواته على عرشه، بائنًا من خلقه، وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل السافلين، وإلى الأمكنة التي يرغب عن ذكرها، وأنه أسفل كما أنه أعلى، ومن قال سبحان ربي الأسفل، كمن قال سبحان ربي الأعلى- فقد ظن به أقبح الظن.
ثم قال: وبالجملة فيمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه، ووصفه به ورسله، أو عطل حقائق ما وصف به نفسه، ووصفته به رسله- فقد ظن به ظن السوء. ومن ظن أن أحدًا يشفع عنده بدون إذنه، أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه، أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه، ويتوسلون بهم إليه، ويجعلونهم وسائط بينهم وبينه، فيدعونهم، ويخافونهم، ويرجونهم- فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه.
ثم قال: ومن ظن به أنه إذا صدقه في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأله واستعان به وتوكل عليه، أنه يخيبه ولا يعطيه ما سأله- فقد ظن به ظن السوء. وظن به خلاف ما هو أهله.
ثم قال: ومن ظن به أنه إن عصاه أو أسخطه وأوضع في معاصيه، ثم اتخذ من دونه وليًا، ودعا من دونه ملكًا أو بشرًا حيًا أو ميتًا، يرجوا بذلك أن ينفعه عند ربه، ويخلصه من عذابه- فقد ظن به ظن السوء. وذلك زيادة في بعده من الله، وفي عذابه. ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد أعداءه تسليطًا مستقرًا دائمًا في حياته وفي مماته، وابتلاه بهم لا يفارقونه. فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيته، وظلموا أهل بيته، وسلبوهم حقهم، وأذلوهم، وكانت العزة والغلبة والقهر لأعدائه وأعدائهم دائمًا من غير جرم ولا ذنب لأوليائه وأهل الحق، وهو يرى قهرهم لهم، وغصبهم إياهم حقهم، وتبديلهم دين نبيهم، وهو يقدر على نصر أوليائه، وحزبه وجنده، ولا ينصرهم ولا يديلهم، بل يديل أعدائهم عليهم أبدًا، أو أنه لا يقدر على ذلك، بل حصل هذا بغير قدرته ولا مشيئته، ثم جعل أعداءه الذين بدلوا دينه مضاجعيه في حضرته، تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة- فقد ظن به أقبح الظن وأسوأه، وسواء قالوا: أنه قادر على أن ينصرهم ويجعل لهم الدولة والظفر، أو أنه غير قادر على ذلك. فهم قادحون في قدرته أو في حكمته وحمده، وذلك من ظن السوء به. ولا ريب أن الرب الذي فعل هذا بغيض إلى من ظن به ذلك، غير محمود عندهم، وكان الواجب أن يفعل خلاف ذلك، لكن رَفَوا هذا الظن الفاسد بخرق أعظم منه، واستجاروا من الرمضاء بالنار، فقالوا: لم يكن هذا بمشيئة الله، ولا قدرة على دفعه ونصر أوليائه، فإنه لا يقدر على أفعال عباده، ولا يدخل تحت قدرته، فظنوا به ظن إخوانهم المجوس والثنوية بربهم. وكل مبطر وكافر ومبتدع ومقهور مستذل، فهو يظن بربه هذا الظن، وإنه أولى بالنصر والظفر والعلو من خصومه، فأكثر الخلق، بل كلهم، إلا من شاء الله، يظنون بالله غير الحق وظن السوء. فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكره، ولا يتجاسر على التصريح به. ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمون النار في الزناد، فاقدح زناد من شئت ينبئك شراره عما في زناده، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبًا على القدر، وملامة له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا، فمستقل ومستكثر، وفتش نفسك هل أنت سالم من ذلك:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ** وإلا فإني لا أخالك ناجيًا