فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال الفخر:

وقد احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ذلك الذنب كان من الكبائر، لأنه لو كان من الصغائر لوجب على قول المعتزلة أن يعفو عنه، ولو كان العفو عنه واجبا لما حسن التمدح به، لأن من يظلم إنسانا فإنه لا يحسن أن يتمدح بأنه عفا عنه وغفر له، فلما ذكر هذا التمدح علمنا أن ذلك الذنب كان من الكبائر، ولما عفا عنه علمنا أن العفو عن الكبائر واقع، والله أعلم. اهـ.

.فصل في الحلم ودفع السيئة بالحسنة:

قال ابن عبد ربه:
قال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم}.
وقال رجل لعمرو بن العاص: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشغل؟ قال: كأنك تهددني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشرًا، قال: وانت والله لئن قلت لي عشرًا لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا يَدْخل القبرَ معك؟ قال: معك يَدْخل لا مَعي.
وقيل لعمرو بن عُبيد: لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك، قال: إياه فارحموا. وشَتم رجلٌ الشَعبَيّ، فقال له: إن كنتَ صادقًا فغَفر اللهّ لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك.
وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ فقال: يا هذا، لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعًا، فإنا لا نكافيء مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه.
ومَرَّ المَسيح بن مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود، فقالوا له شرًّا، فقال خيراَ؛ فقيل له: إنّهم يقولون شرًّا وتقول لهم خيرًا؟ فقال: كلّ واحد يُنفق مما عنده.
وقال الشاعر:
ثَالَبني عَمْرو وثَالبته ** فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ

قلتُ له خيرًا وقال الخنى ** كل على صاحبِه كاذِب

وقال آخر.
وذي رَحِمٍ قَلّمْت أَظفار ضغنه ** بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ

إذا سُمْتهُ وَصْلَ القَرابة سامَني ** قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم

فداويتُه بالحِلْم والمَرْءُ قادرٌ ** على سَهْمه ما كان في كَفِّه السهم

وعن النبي صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم، أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر وكتب رجل إلى صديق له، وبلَغه أنه وَقع فيه:
لئن ساءَني أن نِلْتِني بمَساءةٍ ** لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك

وأنشد طاهرُ بن عبد العزيز:
إذا ما خَليلي أَسا مَرَّةً ** وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ

ذكرتُ المقدم من فِعْلهِ ** فلم يفسد الآخرُ الأوّلا

صفة الحلم وما يصلح له.
قيل للأحنف بن قيس: ممنِ تعلَّمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ، رأيتهُ قاعدًا بفِناء داره مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه؟ حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟ فوالله ما حَل حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، أَثِمت برّبك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة، ثم أنشأ يقول:
إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي ** دَنَس يهجنه ولا أفْنُ

من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة ** والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن

خطباء حي يقول قائلُهم ** بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن

لا يفطنون لعَيْب جارهمُ ** وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ

وقال رجل للأحنف بن قَيْس: علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر، قال: هو الذُّل يا ابن أَخي، أَفتصبر عليه؟ وقال الأحنف: لستُ حليمًا ولكنّي أتحالم.
وقيل له: مَن أَحلمُ: أنت أم معاوية؟ قال: تالله ما رأيتُ أجهلَ منكم، إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم، وأنا أَحلُم ولا أقدِر، فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه! وقال هشامُ بن عبد الملك لخالد بنِ صَفْوان: بم بلغ فيكم الأحنفُ ما بلَغ؟ قال: إن شئتَ أخبرتُك بخَلَّة، وإن شئت بخَلَّتين، وإن شئت بثلاث قال: فما الخَلَّة؟ قال: كان أَقوى الناس على نفسه قال: فما الخلتان؟ قال: كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر؟ قال: فما الثلاث؟ قال: كأن لا يجهل ولا يبْغي ولا يَبْخل.
وقيل لقَيْس بن عاصم: ما الْحِلم؟ قال: أن تَصِل مَن قطَعك، وتُعْطي مَن حرَمَك، وتعفو عَمَّن ظلَمك.
وقالوا: ما قرن شيء إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم، ومن عَفْو إلى قُدْرة.
وقال لُقمانُ الحكيم: ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحَرْب، ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه.
وقال الشاعر:
ليْست الأحلامُ في حي الرِّضا ** إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ

وفي الحديث. أقرب ما يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب.
وقال الحسن: المؤْمن حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه، وتلا قولَ الله عز وجلَّ: {وَإذَا خاطَبَهُمْ الجاهلونَ قَالُوا سَلامًا}.
وقال معاوية: إني لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي، أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي، أو عوْرة لا أُواريها بسَتري.
وقال مُؤَرِّق العِجْليّ: ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا. وقال يزيدُ بن أبي حَبيب: إنما غَضَبي في نَعْليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت.
وقالوا: إذا غَضِب الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه، وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ.
وقيل للأحنف: ما الحِلْم؟ فقال: قوْل إن لم يكنِ فعل، وصَمْت إن ضَرَّ قوْل.
وقال أمير المؤمنين علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: مَن لانَتْ كلمته، وجبت مَحبَّتهُ.
وقال: حِلْمك على السفيه يكثر أنصارك عليه.
وقال الأحنف: مَن لم يصبر على كلمة سَمِع كلمات.
وقال: رب غَيْظ تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه، وأنشد:
رَضيتُ بِبَعْض الذُّلِّ خوفَ جميعه ** كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض

وأسمع رجلٌ عمر بن عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره، فقال؛ لا عليك، إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غدًا، انصرفْ إذا شئت.
وقال الشاعرُ في هذا المعنى:
لَنْ يدْرِك المجدَ أقوامٌ وإن كَرُموِا ** حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام

ويُشْتَموا فترَى الألوانَ كَاسفةَ ** لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام

ولآخر:
إذا قِيلت العوراءُ أغضى كأنّه ** ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ

وأحسن بيْت في الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير:
إذا أنت لم تُعْرِض عن الجهل والخَنَى ** أصبتَ حَليمًا أو أصابك جاهلُ

وقال الأحنفُ آفةُ الحِلْم الذّلّ.
وقال؛ لا حِلْم لمَن لا سَفِيه له.
وقال: ما قلَّ سُفهاء قَوْم إلا ذَلْوا. وأنشد:
لابدَّ للسّودد من رِماح ** ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح

يُدَافعون دونه بالرَّاح ** ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح

وقال النَابغة الجعديّ:
ولا خير في حِلْمٍ إذا لم تَكُنْ له ** بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا

ولا خَير في جَهْل إذا لم يَكُن له ** حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا

ولمّا أنشدَ هذين البيتن للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يَفْضُض اللهّ فاك، قال: فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة.
وقالوا: لا يَظهر الحِلْم إلاِّ مع الانتصار، كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار. اهـ.

.بحث في معنى العفو والمغفرة في القرآن:

قال في الميزان:
العفو على ما ذكره الراغب وهو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته هو القصد لتناول الشيء يقال عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده وعفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها انتهى، وكأن قولهم عفت الدار إذ بلت مبنى على عناية لطيفة وهى أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها وظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين وبهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعنى بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب ويتركه بلا ذنب.
ومن هنا يظهر أن المغفرة وهو الستر متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشيء كالذنب مثلا يؤخذ ويتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه ولا عند غيره قال تعالى: {واعف عنا واغفر لنا} [البقرة- 286] وقال: {وكان الله عفوا غفورا} [النساء- 99].
وقد تبين بذلك أن العفو والمغفرة وإن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد وأن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} [البقرة- 237] وقال تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية- 14] وقال تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر} الآية فأمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة والعتاب والإعراض ونحو ذلك وأن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم وهو تعالى فاعله لا محالة فيما يرجع إليه من آثار الذنب.
وقد تبين أيضا أن معنى العفو والمغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية والتشريعية والدنيوية والأخروية جميعا قال تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير} [الشورى- 30] والآية شاملة للآثار والعواقب الدنيوية قطعا ومثله قوله تعالى: {والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض} [الشورى- 5] على ظاهر معناه وكذا قول آدم وزوجته فيما حكاه الله عنهما {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الاعراف- 23] بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهى إرشادى لا مولوى.
والآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب والزلفى من الله والتنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية وإزالة رين الشرك والذنوب بتوبة ونحوها كما قال تعالى: {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين- 14] وقال تعالى: {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} [التغابن- 11].
وبالجملة العفو والمغفرة من قبيل إزالة المانع ورفع المنافى المضاد وقد عد الله سبحانه الإيمان والدار الآخرة حياة وآثار الإيمان وأفعال أهل الآخرة وسيرهم الحيوى نورا كما قال: {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشى به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام- 122] وقال تعالى: {وإن الدار الآخرة لهى الحيوان} [العنكبوت- 64] فالشرك موت والمعاصي ظلمات قال تعالى: {أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} [النور- 40] فالمغفرة إزالة الموت والظلمة وإنما تكون بحياة وهو الإيمان ونور وهو الرحمة الإلهية.
فالكافر لا حياة له ولا نور والمؤمن المغفور له له حياة ونور والمؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره وإنما يتم بالمغفرة قال تعالى: {نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا} [التحريم- 8].
فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو والمغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه وفي الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق ونحوه وفي مورد السعادة والشقاوة إزالة المانع عن السعادة. اهـ.