فصل: من فوائد الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الألوسي:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ} الدبر عن المشركين بأحد {منكُمْ} أيها المسلمون، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة {يَوْمَ التقى الجمعان} وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبي سفيان.
{إِنَّمَا استزلهم الشيطان} أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوبًا فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذٍ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ومعنى السببية انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول ما زين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج: إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله:
إن التي ضربت بيتًا مهاجرة ** بكوفة الجند غالت ودها غول

وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم} [لقمان: 8] لأن ببعض ما كسبوا يأباه ويحقق التحقيق، وهو أيضا من باب الترديد للتعليق كقوله:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء

لأن إنما استزلهم الخ خبر إن وزيد إن للتوكيد وطول الكلام، وما لتكفها عن العمل، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض الخ فهو كقولك: إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} [فاطر: 45].
{وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيدًا لطمع المذنبين فيه ومنعًا لهم عن اليأس وتحسينًا للظنون بأتم وجه، وقد يقال: هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر {إنَّ الله غَفُورٌ} للذنوب صغائرها وكبائرها {حَلِيمٌ} لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفسًا خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافًا للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة. اهـ.

.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ} أي: عن القتال ومقارعة الأبطال: {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} أي: جمع المسلمين وجمع المشركين: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} أي: حمله على الزلل بمكر منه. مع وعد الله بالنصر: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} أي: بشؤم بعض ما اكتسبوه من الذنوب، كترك المركز، والميل إلى الغنيمة، مع النهي عنه، فمنعوا التأييد وقوة القلب. قال ابن القيم: كانت أعمالهم جندًا عليهم ازداد بها عدوهم قوة. فإن الأعمال جند للعبد، وجند عليه، ولابد للعبد في كل وقت من سرية من نفسه تهزمه أو تنصره. فهو يمد عدوه بأعماله من حيث يظن أنه يقاتل بها، ويبعث إليه سرية تغزوه مع عدوه من حيث يظن أنه يغزو عدوه. فأعمال العبد تسوقه قسرًا إلى مقتضاه من الخير والشر. والعبد لا يشعر، أو يشعر ويتعامى. ففرار الْإِنْسَاْن من عدوه، وهو يطيقه، إنما هو بجند من عمله، بعثه له الشيطان واستزله به، ثم أخبر سبحانه أنه عفا عنهم بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} أي: بالاعتذار والندم لأن هذا الفرار لم يكن عن نفاق، ولا شك أنه كان عارضًا عفا الله عنه، فعادت شجاعة الإيمان وثباته إلى مركزها ونصابها: {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: يغفر الذنب ويحلم عن خلقه، ويتجاوز عنهم. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

قال رحمه الله:
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ}.
أَيْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي أَصْعَدْتُمْ فِيهِ، أَيْ ذَهَبْتُمْ وَأَبْعَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُنْهَزِمِينَ، وَهُوَ غَيْرُ الصُّعُودِ الَّذِي هُوَ الذَّهَابُ فِي الْمُرْتَفَعَاتِ كَالْجِبَالِ وَلَا تَلْوُونَ أَيْ لَا تَعْطِفُونَ عَلَى أَحَدٍ بِنَجْدَةٍ وَلَا مُدَافَعَةٍ، وَلَا تَلْتَفِتُونَ إِلَى مَنْ وَرَاءَكُمْ لِشِدَّةِ الدَّهْشَةِ الَّتِي عَرَتْكُمْ وَالذُّعْرِ الَّذِي فَاجَأَكُمْ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ أَيْ تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَالرَّسُولُ مِنْ وَرَائِكُمْ يَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ فِيمَنْ تَأَخَّرَ مَعَهُ مِنْكُمْ فَكَانُوا سَاقَةَ الْجَيْشِ- رُوِيَ أنه كَانَ يَقُولُ فِي دَعْوَتِهِ: إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ إِلَيَّ عِبَادَ اللهِ، أَنَا رَسُولُ اللهِ مَنْ يَكُرُّ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأَنْتُمْ لَا تَسْمَعُونَ وَلَا تَنْظُرُونَ، وَكَانَ يَجِبُ أن يكون لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي الرَّسُولِ فَتَقْتَدُوا بِهِ فِي صَبْرِهِ وَثَبَاتِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لَمْ يَفْعَلْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ أَيْ فَجَازَاكُمُ اللهُ غَمًّا بِسَبَبِ الْغَمِّ الَّذِي أَصَابَ الرَّسُولَ مِنْ فَشَلِكُمْ وَهَزِيمَتِكُمْ أَوْ غَمًّا مُتَّصِلًا بِغَمٍّ، فَنَالَ الْعَدُوُّ مِنْكُمْ وَنِلْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِذْ صِرْتُمْ مِنَ الدَّهْشَةِ يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَفَاتَتْكُمُ الْغَنِيمَةُ الَّتِي طَمِعْتُمْ فِيهَا. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْغَمُّ هُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يُفَاجِئُ الْإِنْسَانَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُصِيبَةِ، وَأَمَّا الْحُزْنُ فَهُوَ الْأَلَمُ الَّذِي يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَمِرُّ زَمَنًا، أَقُولُ: وَالْمُتَبَادِرُ أَنَّ الْغَمَّ أَلَمٌ أَوْ ضِيقٌ فِي الصَّدْرِ يَكُونُ مِنَ الأمر الَّذِي يَسُوؤُكَ وَإِنْ لَمْ تَتَبَيَّنْ حَقِيقَتَهُ أَوْ سَبَبَهُ، أَوْ لَا تَدْرِي كَيْفَ يَكُونُ الْمَخْرَجُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْمَادَّةَ تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْخَفَاءِ، يَقُولُونَ: غَمَّ الشَّيْءَ إِذَا أَخْفَاهُ، وَغُمَّ عَلَيْهِمُ الْهِلَالُ لَمْ يَظْهَرْ وَلَمْ يُرَ، وَرَجُلٌ أَغَمُّ الْوَجْهِ: كَثِيرُ شِعْرِهِ.. وَمِنْهُ قوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} [10: 71].
وَفِي الْأَسَاسِ: وإِنَّهُ لَفِي غُمَّةٍ مِنْ أَمْرِهِ، إِذَا لَمْ يَهْتَدِ لِلْخُرُوجِ مِنْهُ {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أَيْ لِأَجْلِ أَلَّا تَحْزَنُوا بَعْدَ هَذَا التَّأْدِيبِ وَالتَّمْرِينِ عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ غَنِيمَةٍ وَمَنْفَعَةٍ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ مِنْ قَرْحٍ وَمُصِيبَةٍ فَإِنَّ التَّرْبِيَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْعَمَلِ وَالتَّمَرُّنِ الَّذِي بِهِ يَكْمُلُ الإيمان وَتَرْسَخُ الْأَخْلَاقُ، قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَيَجُوزُ أن يكون الضَّمِيرُ فِي فَأَثَابَكُمْ لِلرَّسُولِ أَيْ فَآسَاكُمْ فِي الِاغْتِمَامِ وَكَمَا غَمَّكُمْ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ كَسْرِ الرُّبَاعِيَّةِ وَالشَّجَّةِ وَغَيْرِهِمَا غَمَّهُ مَا نَزَلَ بِكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا اغْتَمَّهُ لِأَجْلِكُمْ بِسَبَبِ غَمٍّ اغْتَمَمْتُمُوهُ لِأَجْلِهِ وَلَمْ يُثَرِّبْكُمْ عَلَى عِصْيَانِكُمْ وَمُخَالَفَتِكُمْ لِأَمْرِهِ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُسَلِّيَكُمْ وَيُنَفِّسَ عَنْكُمْ لِئَلَّا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نَصْرِ اللهِ وَلَا عَلَى مَا أَصَابَكُمْ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ. اهـ.
وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ دَقَائِقِهِ وَأَسْبَابِهِ وَلَا مِنْ نِيَّتِكُمْ فِيهِ وَعَاقِبَتِهِ فِيكُمْ، وَمِنْ بَلَاغَةِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ يَتَذَكَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهَا أَوْ تِلَاوَتِهَا أَنَّ اللهَ تعالى مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِهِ، عَالِمٌ بِنَبِيِّهِ وَخَوَاطِرِهِ فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ، فَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنْ كَانَ مُشَمِّرًا ازْدَادَ نَشَاطًا خَوْفَ الْوُقُوعِ فِي التَّقْصِيرِ وَأَنْ يَرَاهُ اللهُ حَيْثُ لَا يَرْضَى. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَقُولُ فَلَا تَعْتَذِرُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَلَا تُخَادِعُوهَا، فَإِنَّ الْخَبِيرَ بِأَعْمَالِكُمُ الْمُحِيطَ بِنُفُوسِكُمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِكُمْ خَافِيَةٌ، وَإِنَّمَا الْمُعَوَّلُ عَلَى عِلْمِهِ وَخَبَرِهِ لَا عَلَى أَعْذَارِكُمْ وَتَأْوِيلِكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ الْأَمَنَةُ: الْأَمْنُ وَهُوَ ضِدُّ الْخَوْفِ، وَالنُّعَاسُ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ فُتُورٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ وَيَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْعَيْنَيْنِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تَغْشَى بِالْفَوْقِيَّةِ أَيِ الْأَمَنَةُ وَالْبَاقُونَ يَغْشَى بِالتَّحْتِيَّةِ أَيِ النُّعَاسُ. يُقَالُ غَشِيَهُ النُّعَاسُ أَوِ النَّوْمُ كَمَا يُقَالُ رَانَ عَلَيْهِ أَيْ عَرَضَ لَهُ فَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ وَغَطَّاهُ، كَمَا يُلْقَى السِّتْرُ عَلَى الشَّيْءِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي مُلَخَّصِ الْقِصَّةِ ذِكْرُ هَذَا النُّعَاسِ، وَأَنَّهُ كَانَ أَثْنَاءَ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَانِعًا مِنَ الْخَوْفِ فَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الذُّهُولِ وَالْغَفْلَةِ عَنِ الْخَطَرِ، وَلَكِنْ رُوِيَ أَنَّ السُّيُوفَ كَانَتْ تَسْقُطُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. وَاخْتَارَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ أنه كَانَ بَعْدَ الْقِتَالِ. قَالَ مَا مِثَالُهُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي وَقْتِ هَذَا النُّعَاسِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْعَةِ وَأَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَنَامُ تَحْتَ تُرْسِهِ كَأَنَّهُ آمِنٌ مِنْ كُلِّ خَوْفٍ وَفَزَعٍ إِلَّا الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ فَاشْتَدَّ جَزَعُهُمْ. وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى آيَةِ الْأَنْفَالِ {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} [8: 11] وَإِنَّمَا هَذِهِ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْخَلْقِ بِأَنَّ مَنْ يَتَوَقَّعُ فِي صَبِيحَةِ لَيْلَتِهِ هَوْلًا كَبِيرًا وَمُصَابًا عَظِيمًا فَإِنَّهُ يَتَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ مَضْجَعِهِ، وَيَبِيتُ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ فَيُصْبِحُ خَامِلًا ضَعِيفًا، وَقَدْ كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ بَدْرٍ يَتَوَقَّعُونَ مِثْلَ ذَلِكَ، إِذْ بَلَغَهُمْ أَنَّ جَيْشًا يَزِيدُ عَلَى عَدَدِهِمْ ثَلَاثَةَ أَضْعَافٍ سَيُحَارِبُهُمْ غَدًا وَهُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَعْظَمُ عُدَّةً فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنْ يَنَامُوا عَلَى بِسَاطِ الْأَرَقِ وَالسُّهَادِ يَضْرِبُونَ أَخْمَاسًا لِأَسْدَاسٍ، وَيُفَكِّرُونَ بِمَا سَيُلَاقُونَ فِي غَدِهِمْ مِنَ الشِّدَّةِ وَالْبَأْسِ، وَلَكِنَّ اللهَ رَحِمَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ النُّعَاسِ، غَشِيَهُمْ فَنَامُوا وَاثِقِينَ بِاللهِ تعالى مُطْمَئِنِّينَ لِوَعْدِهِ، وَأَصْبَحُوا عَلَى هِمَّةٍ وَنَشَاطٍ فِي لِقَاءِ عَدُوِّهِمْ وَعَدُوِّهِ، فَالنُّعَاسُ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي وَقْتِ الْحَرْبِ بَلْ قَبْلَهَا، وَمِثْلُهُ الْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ وَقَدْ قُرِنَ ذِكْرُهُ بِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي ذَكَّرَتْهُمْ بِعِنَايَةِ اللهِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَدْ قِيلَ: أنه كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَرْبِ، وَقِيلَ: أنه كَانَ بَعْدَهَا، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ السِّيَرِ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ أَصَابَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ شَيْءٌ مِنَ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ لِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْفَشَلِ وَالْعِصْيَانِ وَقَتْلِ طَائِفَةٍ مِنْ كِبَارِهِمْ وَشُجْعَانِهِمْ، فَكَانُوا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْوَقْعَةِ قِسْمَيْنِ: فَقِسْمٌ مِنْهُمْ ذَكَرُوا مَا أَصَابَهُمْ فَعَرَفُوا أنه كَانَ بِتَقْصِيرٍ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَذَكَرُوا اللهَ وَوَعْدَهُ بِنَصْرِهِمْ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَوَثِقُوا بِوَعْدِ رَبِّهِمْ- رَاجِعْ آية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ} [3: 135] وَعَلِمُوا أنه إِنْ كَانُوا قَدْ غُلِبُوا فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَإِنَّ اللهَ سَيَنْصُرُهُمْ فِي غَيْرِهَا حَيْثُ لَا يَعُودُونَ إِلَى مِثْلِ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ فِيهَا مِنَ الْفَشَلِ وَالتَّنَازُعِ وَعِصْيَانِ قَائِدِهِمْ وَرَسُولِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً أَوِ الْأَمَنَةَ نُعَاسًا، حَتَّى يَسْتَرِدُّوا مَا فَقَدُوا مِنَ الْقُوَّةِ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْقَرْحِ وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مِنَ الضَّعْفِ، وَالنَّوْمُ لِلْمُصَابِ بِمِثْلِ تِلْكَ الْمَصَائِبِ نِعْمَةٌ كَبِيرَةٌ وَعِنَايَةٌ مِنَ اللهِ عَظِيمَةٌ، وَقَدْ كَانَ مِنْ أَثَرِ هَذَا الِاطْمِئْنَانِ فِي الْقُلُوبِ وَالرَّاحَةِ لِلْأَجْسَامِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ، أَنْ سَهَّلَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ اقْتِفَاءَ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ انْصِرَافِهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَى قِتَالِهِمْ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ عِنْدَمَا دَعَاهُمُ الرَّسُولُ إِلَى ذَلِكَ، فَاسْتَجَابُوا لَهُ مُذْعِنِينَ.
قَالَ: وَاتَّفَقَ الرُّوَاةُ أيضا عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ كَانُوا مُثْقَلِينَ بِالْجِرَاحِ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى اقْتِفَاءِ أَثَرِ الْمُشْرِكِينَ فَذَلِكَ قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فَهَذِهِ الطَّائِفَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَلَا حَاجَةَ إِلَى جَعْلِهَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَمَا قِيلَ: فَإِنَّ هَؤُلَاءِ سَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهِمْ، وَمَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَفِيهَا الضُّعَفَاءُ وَالْأَقْوِيَاءُ فِي الإيمان وَغَيْرِهِ. وَقَدْ بَيَّنَ ظَنَّهُمْ بِقوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأمر مِنْ شَيْءٍ} فَنُلَامُ أَنْ وَلَّيْنَا وَغُلِبْنَا؟ يَعْنُونَ أنه لَيْسَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِ النَّصْرِ وَعَدَمِهِ شَيْءٌ، فَإِنَّهُمْ فَهِمُوا مِمَّا وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ أَنَّ النَّصْرَ وَحَقِّيَّةَ الدِّينِ مُتَلَازِمَانِ وَعَجِبُوا مِمَّا وَقَعَ فِي أُحُدٍ كَأَنَّهُ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ، وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ، أَيْ فَإِنَّ نَصْرَ اللهِ لِرُسُلِهِ لَا يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْحَرْبُ سِجَالًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. أَقُولُ وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَا جَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مُخَالِفًا لِهَذَا.
{قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ} لَا أَمْرَ النَّصْرِ وَحْدَهُ، أَيْ إِنَّ كُلَّ أَمْرٍ يَجْرِي بِحَسَبِ سُنَّتِهِ تعالى فِي خَلْقِهِ وَنِظَامِهِ الَّذِي رَبَطَ فِيهِ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبِّبَاتِ وَمِنْهُ نَصْرُ مَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يَبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا أَيْ لَوْ كَانَ أَمْرُ النَّصْرِ وَالظَّفَرِ بِأَيْدِينَا لَمَا وَقَعَ فِينَا الْقَتْلُ هَاهُنَا، يُقَرِّرُونَ رَأْيَهُمْ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهِ بِمَا وَقَعَ لَهُمْ، غَافِلِينَ عَنْ تَحْدِيدِ الْآجَالِ؛ وَلِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ بِقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} أَيْ لَوْ كُنْتُمْ وَادِعِينَ فِي بُيُوتِكُمْ فِي سِلْمٍ وَأَمَانٍ لَخَرَجَ مِنْ بَيْنِكُمْ مَنِ انْتَهَتْ آجَالُهُمْ، وَثَبَتَ فِي عِلْمِ اللهِ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كَمَا يَثْبُتُ الْمَكْتُوبُ فِي الْأَلْوَاحِ وَالْأَوْرَاقِ إِلَى حَيْثُ يُقْتَلُونَ وَيَسْقُطُونَ مِنَ الْبَرَازِ- الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ- فَتَكُونُ مَصَارِعُهُمْ وَمَضَاجِعُ الْمَوْتِ لَهُمْ، فَقَتْلُ مَنْ قُتِلَ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الأمر لَيْسَ كُلُّهُ بِيَدِ اللهِ بَلْ لِأَنَّ آجَالَهُمْ قَدْ جَاءَتْ كَمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللهِ.
وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ أَيْ يَقَعُ ذَلِكَ لِأَجْلِ أن يكون الْقَتْلُ عَاقِبَةَ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُمْ مِنْكُمْ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَمْتَحِنَ اللهُ نُفُوسَكُمْ فَيُظْهِرَ لَكُمْ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ ضَعْفٍ وَقُوَّةٍ فِي الإيمان، وَيُطَهِّرَهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْإِيقَانِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الِابْتِلَاءِ وَالتَّمْحِيصِ فِي هَذَا السِّيَاقِ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَيْ بِالسَّرَائِرِ وَالْوِجْدَانَاتِ الْمُلَازِمَةِ لِلصُّدُورِ حَيْثُ الْقُلُوبُ الْمُنْفَعِلَةُ بِهَا، وَالْمُنْبَسِطَةُ أَوِ الْمُنْقَبِضَةُ بِتَأْثِيرِهَا، وَقَدْ يَخْفَى ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهَا فَيَنْخَدِعُونَ لِلشُّعُورِ الْعَارِضِ لَهَا الَّذِي يَرْسَخُ بِالتَّجَارِبِ وَالِابْتِلَاءِ كَمَا انْخَدَعَ الَّذِينَ تَمَنَّوُا الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَلْقَوْهُ.
هَذَا وَإِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ قَدْ جَرَوْا عَلَى خِلَافِ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الطَّائِفَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَا الْمُنَافِقُونَ، فَهُمُ الَّذِينَ كَانَتْ تُهِمُّهُمْ أَنْفُسُهُمْ إِذْ كَانَ هَمُّ الْمُؤْمِنِينَ مَحْصُورًا فِيمَا أَصَابَ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَمَا وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ مِنَ التَّقْصِيرِ، وَكَانَ فِي غَشَيَانِ النُّعَاسِ وَنُزُولِ الْأَمَنَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دُونِهِمْ مُعْجِزَةً ظَاهِرَةً؛ لِأَنَّهُ جَاءَ عَلَى غَيْرِ الْعَادَةِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَظُنُّونَ فِي اللهِ ظَنَّ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ كَظَنِّهِمْ أَنَّ ظُهُورَ الْمُشْرِكِينَ دَلِيلٌ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ. وَهُمُ الَّذِينَ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْكُفْرِ بِهِ وَيَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِمَا يَعْتَذِرُونَ بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ يُعَارِضُ فَهْمَهُمْ هَذَا كَوْنُ الْخِطَابِ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْكَلَامُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ سَيَأْتِي بَعْدَهُ، وَكَذَا قوله تعالى: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فَإِنَّ الْمَصَائِبَ إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ تَمْحِيصًا لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: {وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وَيَأْسًا وَضَعْفًا لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ: {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ، إِلَّا أَنْ يَجْعَلُوا الْخِطَابَ بِقَوْلِهِ وَلِيَبْتَلِيَ لِمَنْ خُوطِبُوا بِقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ} دُونَ مَنْ خُوطِبُوا بِقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} وَإِنَّ هَذَا هُوَ الْأَقْرَبُ فِي الذِّكْرِ، وَلَكِنْ هَذَا تَفْكِيكٌ وَتَشْوِيشٌ لَا تَرْضَاهُ بَلَاغَةُ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ أنه قَدْ يُقَالُ: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ فِيمَا تَحْكِيهِ عَنِ الَّذِينَ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يُوهِمُ الْمُحَالَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخْتَارِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، مِنْ أَنَّهُمْ ضُعَفَاءُ الإيمان مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِذْ يَكُونُ مَغْزَى قَوْلِهِمْ: أنه لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأمر مِنْ شَيْءٍ عَيْنَ مَغْزَى قوله تعالى فِي جَوَابِهِمْ: إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ اعْتَذَرُوا عَنْ تَقْصِيرِهِمْ بأنه لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الأمر شَيْءٌ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ لَمَا قُتِلُوا هُنَاكَ، يَعْنِي أَنَّ الأمر كُلَّهُ بِيَدِ اللهِ وَتَصَرُّفِ مَشِيئَتِهِ وَحْدَهُ، وَهَذَا عَيْنُ الإيمان الَّذِي يُثَبِّتُهُ الْقُرْآنُ، فَكَيْفَ جَعَلَهُ مِنْ ظَنِّ الْجَاهِلِيَّةِ؟ وَنَقُولُ: أنه تعالى قَدْ بَيَّنَ لَنَا ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قوله: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [6: 148] وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكُوا} [6: 107] وَهُوَ يُشْبِهُ قَوْلَهُ لِهَذِهِ الطَّائِفَةِ الَّتِي ظَنَّتْ مِثْلَ ظَنِّهِمْ: إِنَّ الأمر كُلَّهُ لِلَّهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ هُوَ مِثْلُ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَيْهِمْ وَسَمَّاهُ ظَنًّا لَا يُوثَقُ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ فِيهِ إِلَّا الْعِلْمُ الْيَقِينُ. وَقَالَ فِي سُورَةِ يس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [36: 47] فَقَدْ جَعَلَ تَبَرُّؤَ النَّاسِ مِنَ الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ وَاعْتِذَارَهُمْ بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَفْوِيضَ الأمر إِلَيْهِ مِنْ شَأْنِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارِ الَّذِينَ يَتَخَبَّطُونَ فِي دَيَاجِي الظَّنِّ، وَيَهِيمُونَ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالِ مَعَ إِثْبَاتِهِ لِكَوْنِ الأمر كُلِّهِ لِلَّهِ وَحُصُولِ كُلِّ شَيْءٍ بِمَشِيئَتِهِ. وَقَدْ نَظَرَ فِي كُلِّ طَرَفٍ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَنْ رَآهُ يُوَافِقُ مَذْهَبَهُ حَتَّى جَعَلَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الْآيَةَ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا هِيَ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي مَسْأَلَةِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَجَعَلَ الْحُجَّةَ فِيهَا لِلْأَشَاعِرَةِ.
وَتَحْرِيرُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أنه تعالى بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ ثَلَاثَ حَقَائِقَ، وَبَيَّنَ لَنَا ضَلَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا فِيهَا وَاحْتَجُّوا بِوَاحِدَةٍ عَلَى بُطْلَانِ الْأُخْرَى:
(الْحَقِيقَةُ الأولى) أنه تعالى هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَبِمَشِيئَتِهِ يَجْرِي كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا قَاهِرَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ.
(الْحَقِيقَةُ الثَّانِيَةُ) أَنَّ خَلْقَهُ وَتَدْبِيرَهُ إِنَّمَا يَجْرِي بِحَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَحِكْمَتِهِ عَلَى سُنَنٍ مُطَّرِدَةٍ وَمَقَادِيرَ مَعْلُومَةٍ، كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [3: 137] وَفِي تَفْسِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تُذْكَرُ فِيهَا الْمَشِيئَةُ أَوِ السُّنَنُ الْإِلَهِيَّةُ.