فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما حزبه من أمر عدوه ومكايد حربه، تألُّفًا منه بذلك من لم تكن بصيرته بالإسلام البصيرةَ التي يُؤْمَنُ عليه معها فتنة الشيطان وتعريفًا منه أمته مأتى الأمور التي تحزُبهم من بعده ومطلبها، ليقتدوا به في ذلك عند النوازل التي تنزل بهم، فيتشاوروا فيما بينهم، كما كانوا يرونه في حياته صلى الله عليه وسلم يفعله. فأما النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله كان يعرِّفه مطالب وجوه ما حزبه من الأمور بوحيه أو إلهامه إياه صوابَ ذلك. وأما أمته، فإنهم إذا تشاوروا مستنِّين بفعله في ذلك، على تصادُقٍ وتأخٍّ للحق، وإرادةِ جميعهم للصواب، من غير ميل إلى هوى، ولا حَيْد عن هدى، فالله مسدِّدهم وموفِّقهم. اهـ.

.قال الفخر:

اتفقوا على أن كل ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول أن يشاور فيه الأمة، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس، فأما ما لا نص فيه فهل تجوز المشاورة فيه في جميع الأشياء أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: هذا الأمر مخصوص بالمشاورة في الحروب وحجته أن الألف واللام في لفظ الأمر ليسا للاستغراق، لما بين أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام هاهنا على المعهود السابق، والمعهود السابق في هذه الآية إنما هو ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: {وَشَاوِرْهُمْ في الأمر} مختصا بذلك، ثم قال القائلون بهذا القول: قد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، فأشار عليه السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما وخرق الصحيفة، ومنهم من قال: اللفظ عام خص عنه ما نزل فيه وحي فتبقى حجته في الباقي، والتحقيق في القول أنه تعالى أمر أولي الأبصار بالاعتبار فقال: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [الحشر: 2] وكان عليه السلام سيد أولي الأبصار، ومدح المستنبطين فقال: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وكان أكثر الناس عقلا وذكاء، وهذا يدل على أنه كان مأمورا بالاجتهاد إذا لم ينزل عليه الوحي، والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة فلهذا كان مأمورا بالمشاورة.
وقد شاورهم يوم بدر في الأساري وكان من أمور الدين، والدليل على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس أن النص كان لعامة الملائكة في سجود آدم، ثم إن إبليس خص نفسه بالقياس وهو قوله: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] فصار ملعونا، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استحق اللعن بهذا السبب. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

واختلف العلماء لأي معنى أمر الله نبيه بمشاورة أصحابه مع كونه كامل الرأي، تام التدبير، على ثلاثة أقوال.
أحدها: ليستن به من بعده، وهذا قول الحسن، وسفيان بن عيينة.
والثاني: لتطيب قلوبهم، وهو قول قتادة، والربيع، وابن إسحاق.
ومقاتل.
قال الشافعي رضي الله عنه: نظير هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «البكر تُستأمر في نفسها» إنما أراد استطابة نفسها، فإنها لو كرهت، كان للأب أن يزوجها، وكذلك مشاورة إبراهيم عليه السلام لابنه حين أُمر بذبحه.
والثالث: للإعلام ببركة المشاورة، وهو قول الضحاك.
ومن فوائد المشاورة أن المشاور إذا لم ينجح أمره.
علم أن امتناع النجاح محض قدر، فلم يلم نفسه، ومنها أنه قد يعزم على أمر، فيبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح.
قال علي رضي الله عنه: الاستشارة عين الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.
وقال بعض الحكماء: ما استُنْبِطَ الصواب بمثل المشاورة، ولا حُصِّنتِ النعم بمثل المواساة، ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
واعلم أنه إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورة أصحابه فيما لم يأته فيه وحي، وعمهم بالذكر، والمقصود أرباب الفضل والتجارِب منهم.
وفي الذي أُمر بمشاورتهم فيه قولان: حكاهما القاضي أبو يعلى.
أحدهما: أنه أمر الدنيا خاصة.
والثاني: أمر الدين والدنيا، وهو أصح. اهـ.

.قال ابن عطية:

والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى: 38] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وقال عليه السلام: المستشار مؤتمن، وصفة المستشار في الأحكام أن يكون عالمًا دينًا، وقل ما يكون ذلك إلا في عاقل، فقد قال الحسن بن أبي الحسن: ما كمل دين امرئ لم يكمل عقله، وصفة المستشار في أمور الدنيا أن يكون عاقلًا مجربًا وادًا في المستشير، والشورى بركة، وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة- وهي أعظم النوازل- شورى، وقال الحسن: والله ما تشاور قوم بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما بحضرتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وقد قال في غزوة بدر: أشيروا عليّ أيها الناس، في اليوم الذي تكلم فيه المقداد، ثم سعد بن عبادة، ومشاورته عليه السلام إنما هي في أمور الحرب والبعوث ونحوه من أشخاص النوازل، وأما في حلال أو حرام أو حد فتلك قوانين شرع.
{ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] وكأن الآية نزلت مؤنسة للمؤمنين، إذ كان تغلبهم على الرأي في قصة- أحد- يقتضي أن يعاقبوا بأن لا يشاوروا في المستأنف، وقرأ ابن عباس: وشاورهم في بعض الأمر وقراءة الجمهور إنما هي باسم الجنس الذي يقع للبعض وللكل، ولا محالة أن اللفظ خاص بما ليس من تحليل وتحريم، والشورى مبينة على اختلاف الآراء، والمستشير ينظر في ذلك الخلاف ويتخير، فإذا أرشده الله تعالى إلى ما شاء منه، عزم عليه وأنفذه متوكلًا على الله، إذ هي غاية الاجتهاد المطلوب منه، وبهذا أمر تعالى نبيه في هذه الآية. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال ابن عطية: أمر بتدريج بليغ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما لله، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلًا للاستشارة في الأمور انتهى.
وفيه بعض تلخيص، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض.
أمر أولًا بالعفو عنهم، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه، ودليل على رضاه صلى الله عليه وسلم عليهم، وعدم مؤاخذته.
ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم، ويحصل لهم رضاه صلى الله عليه وسلم ورضا الله تعالى.
ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانًا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقدًا فيه المودة والعقل والتجربة.
والظاهر أن قوله: {فاعف عنهم} أمرٌ له بالعفو.
وقيل: معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله.
قيل: فرارهم يوم أحد، وترك إجابته، وزوال الرّماة عن مراكزهم.
وقيل: ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها، كمناداتهم من وراء الحجرات.
وقول بعضهم: إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة.
ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم: أن قوله تعالى: {وشاورهم في الأمر}، أنه من المقلوب، والمعنى: وليشاوروك في الأمر. اهـ.

.قال الفخر:

ظاهر الأمر للوجوب فقوله: {وَشَاوِرْهُمْ} يقتضي الوجوب، وحمل الشافعي رحمه الله ذلك على الندب فقال هذا كقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأمر في نفسها» ولو أكرهها الأب على النكاح جاز، لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا. اهـ.
فصل:
قال الفخر:
روى الواحدي في الوسيط عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وعندي فيه إشكال، لأن الذين أمر الله رسوله بمشاورتهم في هذه الآية هم الذين أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم وهم المنهزمون، فهب أن عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآية، إلا أن أبا بكر ما كان منهم فكيف يدخل تحت هذه الآية، والله أعلم. اهـ.

.كلام نفيس للجصاص:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر}.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى أَمْرِ الله تعالى إيَّاهُ بِالْمُشَاوَرَةِ مَعَ اسْتِغْنَائِهِ بِالْوَحْيِ عَنْ تَعَرُّفِ صَوَابِ الرَّأْيِ، مِنْ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِهَا تَطْيِيبًا لِنُفُوسِهِمْ وَرَفْعًا مِنْ أَقْدَارِهِمْ إذْ كَانُوا مِمَّنْ يُوثَقُ بِقَوْلِهِ وَيُرْجَعُ إلَى رَأْيِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ لِتَقْتَدِي بِهِ أُمَّتُهُ فِيهَا وَلَا تَرَاهَا مُنْقِصَةً كَمَا مَدَحَهُمْ الله تعالى بِأَنَّ أَمْرَهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ.
وقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: جَمَعَ لَهُمْ بِذَلِكَ الأمريْنِ جَمِيعًا، فِي الْمُشَاوَرَةِ لِيَكُونَ لِإِجْلَالِ الصَّحَابَةِ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي الْمُشَاوَرَةِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّمَا أَمَرَهُ بِالْمُشَاوَرَةِ فِيمَا لَمْ يَنُصَّ لَهُ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَمِنْ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مَنْ يَقُولُ: إنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً وَهُمْ الَّذِينَ يَأْبَوْنَ أن يكون النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا خَاصَّةً، فَجَائِزٌ أن يكون النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعِينُ بِآرَائِهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَتَنَبَّهَ بِهَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ مَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهَا لَوْلَا الْمُشَاوَرَةُ وَاسْتِشَارَةُ آرَاءِ الصَّحَابَةِ؛ وَقَدْ أَشَارَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ يَوْمَ بَدْرٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّزُولِ عَلَى الْمَاءِ فَقَبِلَ مِنْهُ، وَأَشَارَ عَلَيْهِ السَّعْدَانُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَسَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بِتَرْكِ مُصَالَحَةِ غَطَفَانَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ لِيَنْصَرِفُوا فَقَبِلَ مِنْهُمْ، وَخَرَقَ الصَّحِيفَةَ، فِي أَشْيَاءَ مِنْ نَحْوِ هَذَا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ مَأْمُورًا بِمُشَاوَرَتِهِمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا عَنْ الله تعالى، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا أيضا مِمَّا طَرِيقُهُ الرَّأْيُ وَغَالِبُ الظَّنِّ؛ وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَكَانَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَاوَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ ارْتَأَى مَعَهُمْ وَعَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ: أَحَدُهَا: إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ فَسَبِيلُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ.
وَالثَّانِي: إشْعَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَجَائِزٌ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ؛ إذْ رَفَعَهُمْ الله إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُشَاوِرُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْضَى اجْتِهَادَهُمْ وَتَحَرِّيَهُمْ لِمُوَافَقَةِ النُّصُوصِ مِنْ أَحْكَامِ الله تعالى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ بَاطِنَ ضَمَائِرِهِمْ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الله تعالى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِمْ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهِ.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أن يكون الأمر بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُووِرُوا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ فِي إعْلَامِهِمْ بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ، فَكَيْفَ يَسُوغُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَهُ لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ مَعَ عِلْمِ الْأُمَّةِ عِنْدَ هَذَا الْقَائِلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَشُورَةَ لَمْ تُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُعْمَلْ فِيهَا بِشَيْءٍ أَشَارُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِيهَا فَوَاجِبٌ عَلَى الْأُمَّةِ أيضا أن يكون تَشَاوُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ وَأن لا تُنْتِجَ الْمَشُورَةُ رَأْيًا صَحِيحًا وَلَا قَوْلًا مَعْمُولًا؛ لِأَنَّ مُشَاوَرَتَهُمْ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ كَانَتْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَشُورَةُ الْأُمَّةِ فِيمَا بَيْنَهَا تُنْتِجُ رَأْيًا صَرِيحًا وَقَوْلًا مَعْمُولًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ فِي ذَلِكَ اقْتِدَاءٌ بِالصَّحَابَةِ عِنْدَ مُشَاوَرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ، وَإِذْ قَدْ بَطَلَ هَذَا فَلابد مِنْ أَنْ تَكُونَ لِمُشَاوَرَتِهِ إيَّاهُمْ فَائِدَةٌ تُسْتَفَادُ بِهَا وَأن يكون لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ طَرِيقٌ مِنْ الِارْتِئَاءِ وَالِاجْتِهَادِ، فَجَائِزٌ حِينَئِذٍ أَنْ تُوَافِقَ آرَاؤُهُمْ رَأْيَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَائِزٌ أَنْ يُوَافِقَ رَأْيُ بَعْضِهِمْ رَأْيَهُ وَجَائِزٌ أَنْ يُخَالِفَ رَأْيَ جَمِيعِهِمْ فَيَعْمَلَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ بِرَأْيِهِ، وَيَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُعَنِّفِينَ فِي اجْتِهَادِهِمْ بَلْ كَانُوا مَأْجُورِينَ فِيهِ لِفِعْلِهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ، وَيَكُونُ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ تَرْكُ آرَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ رَأْيِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلابد مِنْ أَنْ تَكُونَ مُشَاوَرَةُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الْمَنْصُوصَاتِ، وَلَا يَقُولُ لَهُمْ مَا رَأْيُكُمْ فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالزَّكَاةِ وَصِيَامِ رَمَضَانَ؟ وَلَمَّا لَمْ يَخُصَّ الله تعالى أَمْرَ الدِّينِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا فِي أَمْرِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُشَاوَرَةِ وَجَبَ أن يكون ذَلِكَ فِيهِمَا جَمِيعًا.
وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُشَاوَرَةَ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا إنَّمَا كَانَتْ تَكُونُ فِي مُحَارَبَةِ الْكُفَّارِ وَمُكَابَدَةِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدْبِيرٌ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مُشَاوَرَةِ غَيْرِهِ لِاقْتِصَارِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى الْقُوتِ وَالْكَفَافِ الَّذِي لَا فَضْلَ فِيهِ، وَإِذَا كَانَتْ مُشَاوَرَتُهُ لَهُمْ فِي مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ وَمُكَابَدَةِ الْحُرُوبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهِ وَبَيْنَهُ فِي أَحْكَامِ سَائِرِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا؛ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِاجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ وَعَلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٍ وَعَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى أنه قَدْ كَانَ يَجْتَهِدُ رَأْيَهُ مَعَهُمْ وَيَعْمَلُ بِمَا يَغْلِبُ فِي رَأْيِهِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ قوله تعالى فِي نَسَقِ ذِكْرِ الْمُشَاوَرَةِ: {فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} وَلَوْ كَانَ فِيمَا شَاوَرَ فِيهِ شَيْءٌ مَنْصُوصٌ قَدْ وَرَدَ التَّوْقِيفُ بِهِ مِنْ الله لَكَانَتْ الْعَزِيمَةُ فِيهِ مُتَقَدِّمَةً لِلْمُشَاوَرَةِ؛ إذْ كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مُوجِبًا لِصِحَّةِ الْعَزِيمَةِ قَبْلَ الْمُشَاوَرَةِ، وَفِي ذِكْرِ الْعَزِيمَةِ عَقِيبَ الْمُشَاوَرَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهَا صَدَرَتْ عَنْ الْمَشُورَةِ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهَا نَصٌّ قَبْلَهَا. اهـ.