فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الخطيب عن عليّ قال: قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بعدَك لم يَنزل فيه قرآن ولم يسْمع منك فيه شيء قال: «اجمعوا له العابِد من أمّتي واجعلوه بينكم شُورى ولا تقضوه برأي واحد» واستشار أبو بكر في قتال أهل الردّة، وتشاور الصّحابةُ في أمر الخليفة بعد وفاة النَّبيء صلى الله عليه وسلم وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستَّة عيّنهم، وجعل مراقبة الشورى لِخمسين من الأنصار، وكان عمر يكتب لعمّاله يأمرهم بالتَّشاور، ويتمثّل لهم في كتابه بقول الشاعر (لم أقف على اسمه):
خَلِيلَيّ ليسَ الرأيُ في صَدرِ واحد ** أشِيرا عَلَيّ بالَّذِي تَرَيَانِ

هذا والشورى ممَّا جبل لله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطره على محبّة الصلاح وتطلّب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتَّشاور في شأنه إذ قال للملائكة: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]، إذ قد غَنِي الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنَّه عرض على الملائكة مراده ليكون التَّشاور سنّة في البشر ضرورة أنه مقترن بتكوينه، فإنّ مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه، ولمَّا كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين.
ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السَّلام فيما حكى الله عنه بقوله: {فماذا تأمرون} [الأعراف: 110].
واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله: {قالت يأيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون} وإنَّما يلهي النَّاس عنها حبّ الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبدّ إلى الشورى عند المضائق.
قال ابن عبد البرّ في بهجة المجالس: الشورى محمودة عند عامّة العلماء ولا أعلم أحدًا رضِي الاستبداد إلاّ رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق.
ومثَل أوّلهما قول عمر بن أبي ربيعة:
واستَبَدّت مَرّة واحِدة ** إنَّمَا العَاجِز مَن لا يستبدّ

ومَثل ثانيهما قول سَعْد بن نَاشِب:
إذا هَمّ ألقَى بين عينيه عزمه ** ونَكَّب عن ذِكْر العواقب جانبًا

ولم يستَشِرْ في أمره غَير نفسه ** ولم يَرْضَ إلا قَائم السيف صاحبًا

ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد:
إذا بَلغ الرأيُ المَشُورة فاستَعن ** بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تحسب الشُورى عليك غضاضة ** مَكانُ الخَوافي قُوّة للقَوادِم

وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب. اهـ.

.قال الفخر:

دلت الآية على أنه ليس التوكل أن يهمل الإنسان نفسه، كما يقوله بعض الجهال، وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافيًا للأمر بالتوكل، بل التوكل هو أن يراعي الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعول بقلبه عليها، بل يعول على عصمة الحق. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} التوكّل: الاعتماد على الله مع إظهار العجز، والاسم التُّكْلان.
يقال منه: اتكلت عليه في أمري، وأصله: أوْ تَكَلْت قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ثم أبدلت منها التاء وأدغمت في تاء الافتعال.
ويقال: وكّلته بأمري توكيلًا، والاسم الوِكَالة بكسر الواو وفتحها.
واختلف العلماء في التوكل؛ فقالت طائفة من المتصوّفة: لا يستحقه إلا من لم يخالط قلبَه خوفُ غير الله من سَبُع أو غيره، وحتى يترك السعي في طلب الرزق لضمان الله تعالى.
وقال عامّة الفقهاء.
ما تقدّم ذكره عند قوله تعالى: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون}.
وهو الصحيح كما بيناه.
وقد خاف موسى وهارون بإخبار الله تعالى عنهما في قوله: {لاَ تَخَافَا}.
وقال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى قُلْنَا لاَ تَخَفْ} [طاه: 69].
وأخبر عن إبراهيم بقوله: {فَلَمَّا رأى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} [هود: 70].
فإذا كان الخليل وموسى والكليم قد خافا وحسبك بهما فغيرهما أولى. اهـ.

.قال ابن عطية:

والتوكُّل على الله سبحانه وتعالى مِنْ فروض الإيمان وفصولِهِ، ولكنَّه مقترنٌ بالجِدِّ في الطاعاتِ، والتَّشْميرِ والحَزَامَةِ بغايةِ الجُهْدِ، وليس الإلقاء باليدِ وما أشبهه بتوكُّل، وإنما هو كما قال عليه السلام: «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ». اهـ.

.قال الفخر:

حكي عن جابر بن زيد أنه قرأ {فَإِذَا عَزَمْتَ} بضم التاء، كأن الله تعالى قال للرسول إذا عزمت أنا فتوكل، وهذا ضعيف من وجهين: الأول: وصف الله بالعزم غير جائز، ويمكن أن يقال: هذا العزم بمعنى الايجاب والالزام، والمعنى وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت لك على شيء وأرشدتك إليه.
فتوكل علي، ولا تشاور بعد ذلك أحدا.
والثاني: أن القراءة التي لم يقرأ بها أحد من الصحابة لا يجوز إلحاقها بالقرآن، والله أعلم. اهـ.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين}:

.قال الفخر:

{إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} والغرض منه ترغيب المكلفين في الرجوع إلى الله تعالى والإعراض عن كل ما سوى الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فتوكل على الله} التوكُّل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكّل انفعال قلبي عقلي يتوجّه به الفاعل إلى الله راجيًا الإعانة ومستعيذًا من الخيبة والعوائق، وربَّما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك.
وبذلك يَظهر أن قوله: {فتوكل على الله} دليل على جواب إذَا، وفَرع عنه، والتقدير: فإذَا عزمت فَبَادر ولا تتأخّر وتَوكَّل على الله، لأنّ للتأخّر آفاتٍ، والتردّد يضيّع الأوقات، ولو كان التَّوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأنّ الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على أحسن وجه وأقربه، فإنّ القصد منها العمل بما يتضّح منها، ولو كان المراد حصول التوكّل من أوّل خطور الخاطر، لما كان للأمر بالشورى من فائدة.
وهذه الآية أوضح آية في الإرشاد إلى معنى التَّوكل الَّذي حرَف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه.
وقوله: {إن الله يحب المتوكلين} لأنّ التوكّل علامة صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقادُ الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدلّ على محبّة العبد ربّه فلذلك أحبَّه الله. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
في ما وجهان:
أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا برحمة من اللهِ، نظيره قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] وقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11] وقوله: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25]. والعربُ قد تريد في الكلام- للتأكيد- ما يستغنى عنه، قال تعالى: {فَلَمَّا أَن جَاءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} [يوسف: 96] فزاد أن للتأكيد.
وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين- غيرُ جائزٍ، بل تكون غير مزيدة، وإنما هي نكرة، وفيها وجهان:
الأول: أنها موصوفة بـ {رَحْمَةٍ} أي: فبشيء رحمة.
الثاني: أنها غير موصوفة، و{رَحْمَةٍ} بدل منها، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان.
ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره: أنها نكرة موصوفة، {رَحْمَةٍ} بدل منها، كأنه أبهم، ثم بين بالإبدال.
وقال ابن الخطيب: يجوز أن تكون ما استفهامًا للتعجب، تقديره: فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة- ثم أنه ما أظهر- ألبتة- تغليظًا في القول، ولا خشونة في الكلام- علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب.
ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل ما مضافة إلى رَحْمَةٍ- وهو ظاهر تقديره- فيلزم إضافة ما الاستفهامية، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا أي اتفاقًا وكم عند الزَّجَّاج- وإما أن لا يجعلها مضافة، فتكون {رَحْمَةٍ} بدلًا منها، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل، كما قرره النحويون. ثم قال: وهذا الرجلُ لاحظ المعنى، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج- في ما هذه: إنها صلة، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ.
وليس لقائل أن يقولَ: له أن يجعلها غير مضافةٍ، ولا يجعل رَحْمَةٍ بدلًا- حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام- بل يجعلها صفة، لأن ما الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ، فكأن لا يُجَوِّزُ أن يقال- في القرآن-: هذا زائد أصلًا.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائدًا لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون: زائد للتوكيدِ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن. وما كما تُزاد بين الباء ومجرورها، تزاد أيضا بين من وعَنْ والكاف ومجرورها.
قال مكيٌّ: ويجوز رفع رحمة على أن تجعل ما بمعنى الذي، وتضمر هو في الصلة وتحذفها، كما قرئ: {تَمَامًا عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154]. فقوله: ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ، وأما كونها قراءة، فلا نحفظها.
قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} الفظاظةُ: الجفوة في المعاشرة قولًا وفعلًا، قال الشَّاعرُ: [البسيط]
أخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ، أوْ جَفَاءَ أخ ** وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم

والغلظُ: كبر الإجرام، ثم تجوز به في عدم الشفقة، وكثرة القسوةِ في القلب.
قال الشاعرُ: [البسيط]
يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ** ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَادًا مِنَ الإبِلِ

وقال الراغبُ: الفَظَّ: هو الكريه الخُلُق، وقال الواحديُّ: الفَظُّ: الغليظُ الجانبِ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ، وهو ماء الكرش، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة.
وقال الراغبُ: الغَلِظ: ضد الرِّقَّةِ، ويقال: غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة.
فإن قيل: إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة، فلم قُدِّمَتْ عَلِيْهَا؟
فالجوابُ: قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة: الجفوة في العِشْرَة قولًا وفعلًا- كما تقدم- والغلظة: قساوة القلب، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى، وجمع بينهما تأكيدًا. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضَّ ختم الكتاب، ثم استُعِير منه انفضاض الناس، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ومنه يقال: لا يفضض اللهُ فاك.
قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} يقال شاورهم مشاورة وشِوَارًا وَمَشورة، والقوم شورى، وهي مصدر، سمي القوم بها، كقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] قيل: المشاورة: مأخوذة من قولهم: شُرتُ العسل، أشورُه: إذا أخذته من موضعه واستخرجته.
وقيل: مأخوذة من قولهم: شربت الدابّة، شورًا- إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشوارًا، كأنه بالعرض- يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها.
قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطابًا له صلى الله عليه وسلم وقرأ عكرمة وجعفر الصادق- ورُويت عن جابر بن زيد- بضَمِّها. على أنها لله تعالى، على معنى: فإذا أرشدتك إليه، وجعلتك تقصده.
وجاء قوله: من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل: فتوكل عليَّ.
فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: ثم عزم الله لي وذلك على سبيل المجاز. اهـ. بتصرف.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وقد تضمنت هذه الآيات فنونًا من البيان والبديع والإبهام في: {ولا تلوون على أحد}، فمن قال: هو الرسول أبهمه تعظيمًا لشأنه، ولأن التصريح فيه هضم لقدره.
والتجنيس المماثل في: {غما بغمّ}، {ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ}.
والطباق: في {يخفون} و{يبدون}، وفي {فاتكم} و{أصابكم}.
والتجنيس المغاير في: {تظنون} و{ظن}، وفي {فتوكل} و{المتوكلين}.
وذكر بعضهم ذلك في {فظًا} و{لانفضوا}، وليس منه، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون.
والاحتجاج النظري في: {لو كنتم في بيوتكم} والاعتراض في: {قل إن الأمر كله لله}.
والاختصاص في: {بذات الصدور}، وفي {بما تعملون بصير}، وفي {يحب المتوكلين}.
والإشارة في قوله: {ليجعل الله ذلك حسرة}.
والاستعارة في: {إذا ضربوا في الأرض}، وفي {لنت}، وفي {غليظ القلب}، والتكرار في: {ما ماتوا}، و{ما قتلوا}، وما بعدهما، وفي: {على الله}، {إن الله}.
وزيادة الحرف للتأكيد في: {فبما رحمة}.
والالتفات والحذف في عدة مواضع. اهـ.