فصل: التفسير الإشاري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.التفسير الإشاري:

قال الألوسي:
ومن باب الإشارة: في الآيات {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ في سَبِيلِ الله} بسيف المحبة {أَوْ مُتُّمْ} بالموت الاختباري {لَمَغْفِرَةٌ} أي ستر لوجودكم {مّنَ الله وَرَحْمَةٌ} منه تعالى بتحليكم بصفاته عز وجل: {خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: 157] أي أهل الكثرة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله} أي باتصافك برحمة رحيمية أي رحمة تابعة لوجودك الموهوب الإلهي لا الوجود البشري {لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} موصوفًا بصفات النفس كالفظاظة والفلط {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولم يتحملوا مؤنة ذلك، أو يقال: لو لم تغلب صفات الجمال فيك على نعوت الجلال لتفرقوا عنك ولماصبروا معك، أو يقال: لو سقيتهم صرف شراب التوحيد غير ممزوج بما فيه لهم حظ لتفرقوا هائمين على وجوههم غير مطيقين الوقوف معك لحظة؛ أو يقال: لو كنت مدققًا عليهم أحكام الحقائق لضاقت صدورهم ولم يتحملوا أثقال حقيقة الآداب في الطريق ولكن سامحتهم بالشريعة والرخص {فاعف عَنْهُمْ} فيما يتعلق بك من تقصيرهم معك لعلو شأنك وكونك لا ترى في الوجود غير الله {واستغفر لَهُمُ} فيما يتعلق بحق الله تعالى لاعتذارهم أو استغفر لهم ما يجري في صدورهم من الخطرات التي لا تليق بالمعرفة {وَشَاوِرْهُمْ في الأمر} إذا كنت في مقام الفعل اختبارًا لهم وامتحانًا لمقامهم {فَإِذَا عَزَمْتَ} وذلك إذا كنت في مقام مشاهدة الربوبية والخروج من التفرقة إلى الجمع {فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] فإنه حسبك فيما يريد منك وتريد منه، وذكر بعض المتصوفة أنه يمكن أن يفهم من الآية كون الخطاب مع الروح الإنساني وأنه لان لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية لتستوفي حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ولولا ذلك لاضمحلت تلك القوى وتلاشت واختلت الحكمة وفقدت الكمالات التي خلق الإنسأن لاجلها {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] تحقيق لمعنى التوكل والتوحيد في الأفعال.
وقد ذكر بعض السادة قدس الله تعالى أسرارهم إن نصر الله تعالى لعباده متفاوت المراتب، فنصره المريدين بتوفيقهم لقمع الشهوات، ونصره المحبين بنعت المدانات، ونصره العارفين بكشف المشاهدات، وقد قيل: إنما يدرك نصر الله تعالى من تبرأ من حوله وقوته واعتصم بربه في جميع أسبابه و{مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَغُلَّ} [آل عمران: 161] لكمال قدسه وغاية أمانته فلم يخف حق الله تعالى عن عباده وأعطى علم الحق لأهل الحق ولم يضع أسراره إلا عند الأمناء من أمته {أَفَمَنِ اتبع رضوان الله} أي النبي في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات لاتصافه بصفات الله تعالى: {كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ الله} وهو الغال المحتجب بصفات نفسه.
{وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [آل عمران: 162] وهي أسفل حضيض النفس المظلمة {هُمْ درجات عِندَ الله} [آل عمران: 163] أي كل من أهل الرضا والسخط متفاوتون في المراتب حسب الاستعدادات {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران: 164] إذ هو صلى الله عليه وسلم مرآة الحق يتجلى منه على المؤمنين ولو تجلى لهم صرفًا لاحترقوا بأول سطوات عظمته، ومعنى كونه عليه الصلاة والسلام {مّنْ أَنفُسِهِمْ} كونه في لباس البشر ظاهرًا بالصورة التي هم عليها وحمل المؤمنين على العارفين والرسول على الروح الإنساني المنور بنور الأسماء والصفات المبعوث لإصلاح القوى غير بعيد في مقام الإشارة {أَوَ لَمَّا أصابتكم مُّصِيبَةٌ} في أثناء السير في الله تعالى وهي مصيبة الفترة بالنسبة إليكم {قَدْ أَصَبْتُمْ} قوى النفس {مّثْلَيْهَا} مرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الأفعال ومرة عند وصولكم إلى مقام توحيد الصفات {قُلْتُمْ إِنّى} أصابنا {هذا} ونحن في بيداء السير في الله تعالى عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] لأنه بقي فيها بقية مّا من صفاتها ولا ينافي قوله سبحانه: {قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ الله} [النساء: 78] لأن السبب الفاعلي في الجميع هو الحق جل شأنه والسبب القابلي أنفسهم، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه، فباعتبار الفاعل يكون من عند الله، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم، وربما يقال ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله تعالى نظرًا إلى التوحيد إذ لا غير ثمة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ في سَبِيلِ الله} سواء قتلوا بالجهاد الأصغر وبذل الأنفس طلبًا لرضا الله تعالى أو بالجهاد الأكبر وكسر النفس وقمع الهوى بالرياضة {أمواتا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} بالحياة الحقيقية مقربين في حضرة القدس {يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] من الأرزاق المعنوية وهي المعارف والحقائق، وقد ورد في بعض الأخبار أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، ونقل ذلك بهذا اللفظ بعض الصوفية، وجعل الطير الخضر إشارة إلى الأجرام السماوية، والقناديل من ذهب إشارة إلى الكواكب، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها، وثمارها الأحوال والمعارف.
والمعنى أن أرواح الشهداء تتعلق بالنيرات من الأجرام السماوية بنزاهتها وترد مشارع العلوم وتكتسب هناك المعارف والأحوال، ولا يخفى أن هذا مما لا ينبغي اعتقاده كما أشرنا إليه فيما سبق فإن كان ولابد من التأويل فليجعل الطير إشارة إلى الصور التي تظهر بها الأرواح بناءًا على أنها جواهر مجردة، وأطلق اسم الطير عليها إشارة إلى خفتها ووصولها بسرعة حيث أذن لها.
ونظير ذلك في الجملة قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: «الأطفال هم دعاميص الجنة» والدعاميص جمع دعموص وهي دويبة تكون في مستنقع الماء كثيرة الحركة لا تكاد تستقر، ومن المعلوم أن الأطفال ليسوا تلك الدويبة في الجنة لكنه أراد صلى الله عليه وسلم الأخبار بأنهم سياحون في الجنة فعبر بذلك على سبيل التشبيه البليغ، ووصف الطير بالخضرة إشارة إلى حسنها وطراوتها، ومنه خبر «إن الدنيا حلوة خضرة». وقول عمر رضي الله تعالى عنه: إن الغزو حلو خضر، ومن أمثالهم النفْس خضراء، وقد يريدون بذلك أنها تميل لكل شيء وتشتهيه، وأمر الظرفية في الخبر سهل، وباقي ما فيه إما على ظاهره، وأما مؤل، وعلى الثاني: يراد من الجنة الجنة المنوية وهي جنة الذات والصفات، ومن أنهارها ما يحصل من التجليات، ومن ثمارها ما يعقب تلك التجليات من الآثار، ومن القناديل المعلقة في ظل العرش مقامات لا تكتنه معلقة في ظل عرش الوجود المطلق المحيط، وكونها من ذهب إشارة إلى عظمتها وأنها لا تنال إلا بشق الأنفس.
وحاصل المعنى على هذا أن أرواح الشهداء الذين جادوا بأنفسهم في مرضاة الله تعالى، أو قتلهم الشوق إليه عز شأنه تتمثل صورًا حسنة ناعمة طرية يستحسنها من رآها تطير بجناحي القبول والرضا في أنواع التجليات الإلهية وتكتسب بذلك أنواعًا من اللذائذ المعنوية التي لا يقدر قدرها ويتجدد لها في مقدار كل ليلة مقام جليل لا ينال إلا بمثل أعمالهم، وذلك هو النعيم المقيم والفوز العظيم، وكأن من أول هذا الخبر وأمثاله قصد سدّ باب التناسخ ولعله بالمعنى الذي يقول به أهل الضلال غير لازم كما أشرنا إليه في آية البقرة.
{فَرِحِينَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ} من الكرامة والنعمة والزلفى عنده {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ} وهم الغزاة الذين لم يقتلوا بعد، أو السالكون المجاهدون أنفسهم الذين لم يبلغوا درجتهم إلى ذلك الوقت {أن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران: 170] لفوزهم بالمأمن الأعظم، والحبيب الأكرم {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ الله} عظيمة وهي جنة الصفات {وَفَضَّلَ} أي زيادة عليها وهي جنة الذات، {و} مع ذلك إن {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ} إيمان {المؤمنين} [آل عمران: 171] الذي هو جنة الأفعال وثواب الأعمال {الذين استجابوا لِلَّهِ والرسول} بالفناء بالوحدة الذاتية والقيام بحق الاستقامة {مِن بَعْدِ مَا أصابهم القرح} أي كسر النفس {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ} وهم الثابتون في مقام المشاهدة {واتقوا} النظر إلى نفوسهم لهم {أَجْرٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 172] وراء أجر الإيمان {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} المنكرون قبل الوصول إلى المشاهدة {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} وتحشدوا للإنكار عليكم {فاخشوهم} وانزكوا ما أنتم عليه {فَزَادَهُمُ} ذلك القول: {إيمانا} أي يقينًا وتوحيدًا بنفي الغير وعدم المبالاة به وتوصلوا بنفي ما سوى الله تعالى إلى إثباته {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة {و} قالوا: {نِعْمَ الوكيل} [آل عمران: 173] {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مّنَ الله وَفَضْلٍ} أي رجعوا بالوجود الحقاني في جنة الصفات والذات {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء} لم يؤذهم أحد إذ لا أحد إلا الأحد {واتبعوا رضوان الله} في حال سلوكهم حتى فازوا بجنة الذات المشار إليها بقوله تعالى: {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174] كما أشرنا إليه {إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ} المحجوبين بأنفسهم فلا تخافوا المنكرين {وَخَافُونِ} إذ ليس في الوجود سواى {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175] أي موحدين توحيدًا حقيقيًا والله تعالى الموفق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل. اهـ.

.سؤال وجواب:

فإن قال قائل: وكيف قيل: يخوف أولياءه؟ وهل يخوف الشيطان أولياءه؟ وكيف؟
قيل: إن كان معناه يخوّفكم بأوليائه يخوف أولياءه؟ قيل: ذلك نظير قوله: {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا} [سورة الكهف: 2] بمعنى: لينذركم بأسه الشديد، وذلك أن البأس لا يُنذر، وإنما ينذر به.
وقد كان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول: معنى ذلك: يخوف الناسَ أولياءه، كقول القائل: هو يُعطي الدراهم، ويكسو الثياب، بمعنى: هو يعطي الناس الدراهم ويكسوهم الثياب، فحذف ذلك للاستغناء عنه.اهـ.

.تفسير الآية رقم (176):

قوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما مدح سبحانه وتعالى المسارعين في طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وختم ذلك بالنهي عن الخوف من أولياء الشيطان، أعقبه بذم المسارعين في الكفر والنهي عن الحزن من أجلهم.
ولما كان أكثر الناس- كالمنافقين الراجعين عن أحد، ثم المقاتلين القائلين: هل لنا من الأمر من شيء- أرجفوا إلى أبي عامر وعبد الله بن أبيّ لأخذ الأمان من أبي سفيان، ثم ركب عبد القيس أو نعيم بن مسعود، ثم من استجاب من أهل المدينة وأرجف بما قالوا في ثبط المؤمنين، وكان ذلك مما يخطر بالبال تمادي أيام الكفر وأهله غالبِين، ويقدح في رجاء قصر مدته، ويوجب الحزن على ذلك، قال تعالى قاصرًا الخطاب على أعظم الخلق وأشفقهم وأحبهم في صلاحهم {ولا يحزنك الذين يسارعون} أي يسرعون إسراع من يسابق خصمًا {في الكفر} ثم علل ذلك بقوله: {إنهم لن يضروا الله} أي الذي له جميع العظمة {شيئًا} أي دينه بإذلال أنصاره والقائمين به، وحذف المضاف تفخيمًا له وترغيبًا فيه حيث جعله هو المضاف إليه.
ولما نفى ما خيف من أمرهم كان مظنة السؤال عن الحاكم لهم على المسارعة فقيل جوابًا: {يريد الله} أي الذي له الأمر كله {ألاّ يجعل لهم حظًا} أي نصيبًا {في الآخرة} ولما كانت المسارعة في ذلك عظيمة ختمت الآية بقوله: {ولهم عذاب عظيم} قد عم جميع ذواتهم، لأن المسارعة دلت على أن الكفر قد ملأ أبدانهم ونفوسهم وأرواحهم. اهـ.

.القراءات:

قال النيسابوري:
{ولا يحزنك} من الأفعال حيث كان إلا قوله: {لا يحزنهم الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] نافع ومثله {ليحزنني} [يوسف: 13] و{ليحزن الذين آمنوا} [المجادلة: 10] وقرأ يزيد على ضده. الباقون: بفتح الياء وضم الراء. ولا خلاف في مثل {يحزنون} [البقرة: 38] و{لا تحزن} [الحجر: 88] مما هو لازم {ولا يحسبن} وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في {تحسبنهم} أبو عمرو وابن كثير، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله: {فلاد تحسبنهم} فإنها بالتاء وفتح الباء. الباقون: الأولياء على الغيبة والأخريان بالخطاب. {يميز} بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب عياش مخير. الباقون: خفيف بفتح الياء وكسر الميم. {يعملون خبير} بياء الغيبة: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو {لقد سمع} وبابه مدغمًا: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام. {سيكتب} بضم الياء وفتح التاء {وقتلهم} برفع اللام و{ويقول} على الغيبة: حمزة الباقون: بالنون فيهما على التكلم. ونصب اللام في {وقتلهم} {وبالزبر} ابن عامر {وبالكتاب} الحلواني عن هشام. الباقون: بغير إعادة الخافض فيهما {زحزع عن} مدغمًا: شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران {ليبيننه} {ولا يكتمونه} بالياء فيهما لأنهم غيب: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اختلفوا في سبب نزول الآية على وجوه:
الأول: أنها نزلت في كفار قريش، والله تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم، والمعنى: لا يحزنك من يسارع في الكفر بأن يقصد جمع العساكر لمحاربتك، فإنهم بهذا الصنيع إنما يضرون أنفسهم ولا يضرون الله، ولابد من حمل ذلك على أنهم لن يضروا النبي وأصحابه من المؤمنين شيئا، وإذا حمل على ذلك فلابد من حمله على ضرر مخصوص، لأن من المشهور أنهم بعد ذلك ألحقوا أنواعا من الضرر بالنبي عليه الصلاة والسلام، والأولى أن يكون ذلك محمولا على أن مقصودهم من جمع العساكر إبطال هذا الدين وإزالة هذه الشريعة، وهذا المقصود لا يحصل لهم، بل يضمحل أمرهم وتزول شوكتهم، ويعظم أمرك ويعلو شأنك.
الثاني: أنها نزلت في المنافقين، ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوفون المؤمنين بسبب وقعة أحد ويؤيسونهم من النصرة والظفر، أو بسبب أنهم كانوا يقولون إن محمدًا طالب ملك، فتارة يكون الأمر له، وتارة عليه، ولو كان رسولا من عند الله ما غلب، وهذا كان ينفر المسلمين عن الإسلام، فكان الرسول يحزن بسببه.
قال بعضهم: إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش فوقع الغم في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك السبب، فإنه عليه السلام ظن أنهم بسبب تلك الردة يلحقون به مضرة.
فبين الله أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك قال القاضي: ويمكن أن يقوي هذا الوجه بأمور: الأول: أن المستمر على الكفر لا يوصف بأنه يسارع في الكفر، وإنما يوصف بذلك من يكفر بعد الإيمان.
الثاني: أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظًا في الآخرة لا يليق إلا بمن قد آمن، فاستوجب ذلك، ثم أحبط.
الثالث: أن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود، فلما قدر النبي صلى الله عليه وسلم الانتفاع بايمانهم، ثم كفروا حزن صلى الله عليه وسلم عند ذلك لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك وعرفه أن وجود إيمانهم كعدمه في أن أحواله لا تتغير.
القول الرابع: أن المراد رؤساء اليهود: كعب بن الأشرف وأصحابه الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم لمتاع الدنيا.
قال القفال رحمه الله: ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار بدليل قوله تعالى: {يأَيُّهَا الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ في الكفر} [المائدة: 41] إلى قوله: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} [المائدة: 41] فدلت هذه الآية على أن حزنه كان حاصلا من كل هؤلاء الكفار. اهـ.