فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



مَنْ تَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّدَبُّرِ عَلِمَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ لَا يَكُونُ جَبَانًا، فَالشَّجَاعَةُ وَصْفٌ ثَابِتٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، إِذَا شَارَكَهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ لَا يُدْرِكُ فِيهِ مَدَاهُمْ، وَلَا يَبْلُغُ شَأْوَهُمْ. وَمَنْ بَحَثَ عَنْ عِلَلِ الْأَشْيَاءِ يَرَى أَنَّ عِلَّةَ الْجُبْنِ هِيَ الْخَوْفُ مِنَ الْمَوْتِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَكُلٌّ مِنَ الْخَوْفِ وَالْحِرْصِ مِمَّا يَتَّسِعُ لَهُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ كَقَلْبِ غَيْرِهِ. قال تعالى فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ عَلَى الْيَهُودِ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [2: 96] وَلَا يَزَالُ الْعَالَمُ كُلُّهُ يَشْهَدُ أَنَّ الْجَيْشَ الإسلاميَّ أَشْجَعُ جُيُوشِ الْمِلَلِ كُلِّهَا، هَذَا مَعَ مَا مُنِيَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ ضَعْفِ الإيمان، وَالْجَهْلِ بِالإسلام هَذَا وَمَا، فَكَيْفَ لَوْ.
{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
لَمَّا كَانَ مِنْ فَوْزِ الْمُشْرِكِينَ فِي أُحُدٍ، وَمَا أَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَظْهَرَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ كُفْرَهُمْ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا مَا قُتِلَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ نَقْلُ بَعْضِهِ، وَمَا سَارَعَ هَؤُلَاءِ فِي إِظْهَارِ مَا يُسِرُّونَ مِنَ الْكُفْرِ، وَتَثْبِيطِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نَصْرِ الإيمان إِلَّا لِظَنِّهِمْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُحْزِنُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ تَسْلِيَةِ التَّنْزِيلِ لَهُ فِي هَذَا السِّيَاقِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} كَمَا كَانَ يُسَلِّيهِ عَمَّا يُحْزِنُهُ مِنْ إِعْرَاضِ الْكَافِرِينَ عَنِ الإيمان أَوْ طَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فِي شَخْصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقوله تعالى: {وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [10: 65] وَقوله: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [18: 6] وَقوله: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [35: 8] أَوِ الْمُرَادُ مِنَ السِّيَاقِ تَسْلِيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا سَاءَهُ وَحَزِنَهُ مِنِ اهْتِمَامِ الْمُشْرِكِينَ بِنُصْرَةِ شِرْكِهِمْ، وَمُعَاوَدَتِهِمْ لِلْقِتَالِ بَعْدَ أُحُدٍ فِي حَمْرَاءِ الْأَسَدِ أَوْ بَدْرٍ الصُّغْرَى لَوْلَا خُذْلَانُ اللهِ لَهُمْ، وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْلُ بِتَفْسِيرِ {الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}.
بِالْمُنَافِقِينَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَكَذَا قَالَ فِي {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان} فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُرْتَدُّونَ خَاصَّةً. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ هُمُ الْكُفَّارُ، قَالُوا: الْمُسَارَعَةُ فِيهِ هِيَ الْوُقُوعُ فِيهِ سَرِيعًا.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمُسَارَعَةُ فِي الْكُفْرِ هِيَ الْمُسَارَعَةُ فِي نُصْرَتِهِ، وَالِاهْتِمَامِ بِشُئُونِهِ، وَالْإِيجَافِ فِي مُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا كُلُّ كَافِرٍ يُسَارِعُ فِي الْكُفْرِ، فَإِنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ الْقَاعِدَ الَّذِي لَا يَتَحَرَّكُ لِنُصْرَةِ كُفْرِهِ، وَلَا لِمُقَاوَمَةِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِيهِ. وَالْمُسَارِعُونَ الْمَعْنِيُّونَ هُنَا: هُمْ أُولَئِكَ النَّفَرُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. كَأَبِي سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٍ فِي سَبَبِ النُّزُولِ. وَإِنَّمَا يَأْتِي هَذَا لَوْ قَالَ: {يُسَارِعُونَ إِلَى الْكُفْرِ} إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا أَيْ إِنَّهُمْ لَا يُحَارِبُونَكَ، فَيَضُرُّوكَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ تعالى، وَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِ قُوَّتِهِمْ، وَعَجْزِهَا عَنْ مُنَاوَأَةِ قُوَّتِهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُمْ لَا يَضُرُّونَ بِذَلِكَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ. أَقُولُ: وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا بِقوله: {يُرِيدُ اللهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} أَيْ إِنَّهُمْ عَلَى حَالَةٍ مِنْ فَسَادِ الْفِطْرَةِ تَقْتَضِي حِرْمَانَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، سُنَّةَ اللهِ، وَإِرَادَتَهُ، فَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِيهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَوْقَ عَذَابِ الْحِرْمَانِ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْ هَذَا الْعَذَابَ بِكَوْنِهِ فِي الْآخِرَةِ، فَهُوَ أَعَمُّ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ وُقُوعًا وَنَقْلًا بِمِثْلِ قوله تعالى فِي الْمُنَافِقِينَ: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [9: 101] فَقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ} تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْحُزْنِ، وَقوله: {يُرِيدُ اللهُ} إلخ. بَيَانٌ لِكَوْنِهِمْ يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ وَلَا يَضُرُّونَهُ تعالى، وَجَعَلَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ تَعْلِيلًا آخَرَ، إِذَا قَالَ مَا مِثَالُهُ: فَإِنْ كُنْتَ تَحْزَنُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً بِهِمْ وَشَفَقَةً عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ النُّورَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ، وَالْهِدَايَةَ قَدْ أُهْدِيَتْ إِلَيْهِمْ وَهُمْ لَا يَقْبَلُونَ، وَتَطْمَعُ فِي هِدَايَتِهِمْ وَتَرْجُوهَا، وَكُلَّمَا رَأَيْتَ مِنْهُمْ حَرَكَةً جَدِيدَةً فِي الْكُفْرِ، حَدَثَ لَكَ حُزْنٌ جَدِيدٌ- فَعَلَيْكَ أَلَّا تَحْزَنَ أيضا. هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ، وَتَرَكْتُ بَيَاضًا فِي دَفْتَرِ الْمُذَكِّرَاتِ عَنْهُ لِأُتِمَّ فِيهِ مَا قَالَهُ، ثُمَّ نَسِيتُهُ، وَلَعَلَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِمْ، وَأَبْصَارِهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ فِي نُفُوسِهِمُ اسْتِعْدَادٌ مَا لِلْإِيمَانِ، فَلَا مَسَاغَ لِلْحُزْنِ مِنْ حَالِهِمْ.
وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَنْطَبِقُ إلا على مَنْ مَاتُوا عَلَى الْكُفْرِ. فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي مَرَدَةِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِلَّا فَهِيَ فِي مَجْمُوعِ مَنْ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَأن لا جَمِيعِهِمْ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَشَدُّ اتِّفَاقًا مَعَ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالُوا: إِنَّ الْآيَةَ تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَتَعْمِيمٌ لِلْكَفَرَةِ بَعْدَ تَخْصِيصِ مَنْ نَافَقَ مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْقِتَالِ، أَوِ الْمُرْتَدِّينَ مِنَ الْأَعْرَابِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَعَادَ الْمَعْنَى، وَعَمَّمَهُ، وَأَكَّدَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ فِي بَادِي الرَّأْيِ تَكْرَارٌ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ فَائِدَةٍ، وَمَنْ فَقِهَ الْآيَتَيْنِ عَلِمَ أَنَّ تِلْكَ فِي الْمُسَارِعِينَ فِي الْكُفْرِ، وَهَذِهِ فِي الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان، أَيِ اخْتَارُوهُ، وَرَضُوا بِهِ كَمَا يَرْضَى الْمُشْتَرِي بِالسِّلْعَةِ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ، وَيَرَاهَا بَعْدَ بَذْلِهِ فِيهَا مَتَاعًا يَنْتَفِعُ بِهِ، بَلِ الشَّأْنُ فِي الْمُشْتَرِي أَنْ يَرَى مَا أَخَذَهُ أَنْفَعَ لَهُ مِمَّا بَذَلَهُ، فَهَذَا الْوَصْفُ أَعَمُّ مِنَ الْأَوَّلِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَرَاهُمْ يُسَارِعُونَ فِي نُصْرَةِ الْكُفْرِ، وَتَعْزِيزِهِ، وَالدِّفَاعِ دُونَهُ، وَمُقَاوَمَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِهِ، لَا شَأْنَ لَهُمْ، وَلَا يَسْتَحِقُّونَ أَنْ تَهْتَمَّ بِأَمْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُحَارِبُونَ اللهَ، وَيُغَالِبُونَهُ، وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى ضَرِّهِ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَحْزَنَ عَلَيْهِمْ أيضا لِأَنَّهُمْ مَحْرُمُونَ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ، فَلَمَّا بَيَّنَ هَذَا كَانَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَخْطُرَ فِي الْبَالِ أنه حُكْمٌ خَاصٌّ بِالَّذِينِ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ، فَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أنه عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ مَنْ آثَرَ الْكُفْرَ عَلَى الإيمان، فَاسْتَبْدَلَهُ بِهِ، فَفِي إِعَادَةِ الْعِبَارَةِ بِهَذَا الْأُسْلُوبِ فَائِدَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنَّ فِيهَا قِسْمًا مِنَ الْكَافِرِينَ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الأولى، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّ فِيهَا مَعَ تَأْكِيدِ عَدَمِ إِضْرَارِهِمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانًا لِحَالٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ يَدُلُّ عَلَى سَخَافَتِهِمْ، وَضَعْفِ عُقُولِهِمْ؛ إِذْ رَضُوا بِالْكُفْرِ، وَاخْتَارُوهُ، وَحَسِبُوهُ مَنْفَعَةً، وَفَائِدَةً، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا قِيمَةَ لَهُمْ، فَيُخَافُ مِنْهُمْ، أَوْ يُحْزَنُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَقَدْ يَعْرِضُ لِبَعْضِ الْأَفْكَارِ، وَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ- وَيَجُولُ فِيهَا صُورَةُ مَا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ مِنَ اللَّذَّاتِ، وَالْقُوَّةِ، وَإِمْكَانِ نَيْلِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَذْنَبُوا كَمَا نَالُوا مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ بِذَنْبِهِمْ، وَتَقْصِيرِهِمْ، فَيَقُولُ الْوَاهِمُ: آمَنَّا، وَصَدَّقْنَا أَنَّ هَؤُلَاءِ سَيُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ نَعِيمِهَا، وَلَكِنْ أَلَيْسُوا الْآنَ مُتَمَتِّعِينَ بِالدُّنْيَا؟! أَلَيْسَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا يُمَكِّنُهُمْ مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَيْنَا؟ وَقَدْ كَشَفَ هَذَا الْوَهْمَ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)}
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} قال: هم المنافقون.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} قال: هم الكفار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد {إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان} قال: هم المنافقون. والله أعلم. اهـ.

.تفسير الآية رقم (178):

قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان مما اشترى به الكفر رجوع المنافقين عن أحد الذي كان سببًا للإملاء لهم قال سبحانه وتعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا} أي بالله ورسوله {إنما نملي} أي أن إملاءنا أي إمهالنا وإطالتنا {لهم خير لأنفسهم} ولما نفى عنهم الخير بهذا النهي تشوفت النفس إلى ما لهم فقال: {إنما نملي لهم} أي استدراجًا {ليزدادوا إثمًا} وهو جميع ما سبق العلم الأزلي بأنهم يفعلونه، فإذا بلغ النهاية أوجب الأخذ.
ولما كان الرجوع المسفر عن السلامة مظنة لعزهم في هذه الدار الفانية عند من ظن حسن ذلك الرأي؛ عوضوا عنه الإهانة الدائمة فقال سبحانه وتعالى: {ولهم عذاب مهين}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال ابن عاشور:

{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ}.
عطف على قوله: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا} [آل عمران: 169] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين: إحداهما تلوح للناظر حالة ضرّ، والأخرى تلوح حالة خير، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.
ويجوز كونه معطوفا على قوله: {ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} [آل عمران: 176] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجبًا لحزنه، لأنهم لا يضرّون الله شيئًا، ثم ألقى إليه خبرًا لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين: أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثامًا، ليكون أخذُهم بعد ذلك أشدّ. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى حكى عن الذين ذهبوا إلى المدينة لتثبيط أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إنما ثبطوهم لأنهم خوفوهم بأن يقتلوا كما قتل المسلمون يوم أحد، والله تعالى بين أن أقوال هؤلاء الشياطين لا يقبلها المؤمن ولا يلتفت اليها، وإنما الواجب على المؤمن أن يعتمد على فضل الله، ثم بين في هذه الآية أن بقاء هؤلاء المتخلفين ليس خيرا من قتل أولئك الذين قتلوا بأحد، لأن هذا البقاء صار وسيلة إلى الخزي في الدنيا والعقاب الدائم في القيامة، وقتل أولئك الذين قتلوا يوم أحد صار وسيلة إلى الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في الآخرة، فترغيب أولئك المثبطين في مثل هذه الحياة وتنفيرهم عن مثل ذلك القتل لا يقبله إلا جاهل.
فهذا بيان وجه النظم. اهـ.
قال ابن عاشور:
وقرأه الجمهور {ولا يَحسبنّ الذين كفروا} بياء الغيبة وفاعلُ الفعل (الذين كفروا)، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب.
فالخطاب إما للرسول عليه السلام وهو نهي عن حسبان لم يقع، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنه حسبان تعجّب، لأنّ الرسول يعلم أنّ الإملاء ليس خيرًا لهم، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره، ممّن يظنّ ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65]، أو المراد من الخطاب كلّ مخاطب يصلح لذلك.
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغه إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم، ويُمِرَّ عيشهم بهذا الوعيد، لأنّ المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل. اهـ.
قال الفخر:
ما في قوله: {أَنَّمَا} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون بمعنى الذي فيكون التقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن الذين نمليه خير لأنفسهم، وحذف الهاء من نملي لأنه يجوز حذف الهاء من صلة الذي كقولك: الذي رأيت زيد، والآخر: أن يقال: ما مع ما بعدها في تقدير المصدر، والتقدير: لا تحسبن الذين كفروا أن إملائي لهم خير. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {أنما نملي لهم خير لأنفسهم} أَنّ أخت (إنّ) المكسورة الهمزة، وما موصولة وليست الزائدة، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنّما المركبة من (إن) أخت (أنّ) وما الزائدةِ الكافّةِ، التي هي حرف حصر بمعنى (مَا) و(إلاّ)، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطّردًا في الرسم القديم، على هذا اجتمعت كلمات المفسّرين من المتقدّمين والمتأخّرين.
وأنا أرى أنه يجوز أن يكون (أنّما) من قوله: {أنما نملي خير لأنفسهم} هي أنّما أخت إنّما المكسورة وأنّها مركّبة من (أنّ) وما الكافّة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحقّقين، وأنّ المعنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنه خير لهم لأنّهم لمّا فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أنّ بقاءهم ما هو إلاّ خير لهم لأنّهم يحسبون القتل شرًّا لهم، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث.
فهو قصر حقيقي في ظنّهم.
ولهذا يكون رسمهم كلمة {أنَّما} المفتوحة الهمزة في المصحف جاريًا على ما يقتضيه اصطلاح الرسم.
و{أنّما نملي لهم خير لأنفسهم} هو بدل اشتمال من {الذين كفروا}، فيكون سادًّا مسدّ المفعولين، لأنّ المبدل منه صار كالمتروك، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال، ثمّ التفصيل، لأنّ تعلّق الظنّ بالمفعول الأول يستدعي تشوّف السامع للجهة التي تعلَّق بها الظنّ، وهي مدلول المفعول الثاني، فإذا سمع ما يسدّ مسدّ المفعولين بعد ذلك تمكّن من نفسه فضْل تمكّن وزاد تقريرًا. اهـ.

.قال الفخر:

قال صاحب الكشاف: ما مصدرية وإذا كان كذلك فكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة ولكنها وقعت في مصحف عثمان متصلة، واتباع خط المصاحف لذلك المصحف واجب، وأما في قوله: {أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ} فهاهنا يجب أن تكون متصلة لأنها كافة بخلاف الأولى. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والإملاء: الإمهال في الحياة، والمراد به هنا تأخير حياتهم، وعدمُ استئصالهم في الحرب، حيث فرحوا بالنصر يوم أُحُد، وبأنّ قتلى المسلمين بوم أحُد كانوا أكثر من قتلاهم.
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطِّوَل في المرعى، وهو مأخوذ من الملْو بالواو وهو سيرُ البعير الشديدُ، ثم قالوا: أمليت للبعير والفرس إذا وسَّعت له في القيد لأنّه يتمكّن بذلك من الخَبَب والركض، فشُبِّه فعله بشدّة السير، وقالوا: أمليت لزيد في غيّه أي تركته: على وجه الاستعارة، وأملى الله لفلان أخّر عقابه، قال تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متين} [الأعراف: 183] واستعير التملّي لطول المدّة تشبيهًا للمعقول بالمحسوس فقالوا: ملأَّك الله حبيبَك تمليئة، أي أطال عمرك معه. اهـ.

.قال القرطبي:

المعنى: لا يحسبن هؤلاء الذين يُخَوّفون المسلمين؛ فإن الله قادر على إهلاكهم.
وإنما يُطوِّل أعمارهم ليعملوا بالمعاصي، لا لأنه خير لهم.
ويُقال: {أنما نملِي لهم} بما أصابوا من الظَّفَر يومَ أُحُد لم يكن ذلك خيرًا لأنفسهم؛ وإنما كان ذلك ليزدادوا عقوبة.
ورُوي عن ابن مسعود أنه قال: ما من أحد بَرّ ولا فاجر إلاَّ والموتُ خير له، لأنه إِنْ كان بَرًّا فقد قال الله تعالى: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ} وإن كان فاجرًا فقد قال الله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمًا}. اهـ.