فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

وتعميم الأمر مع أن سوق النظم الكريم للإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لإيجاب الإيمان به بالطريق البرهاني والإشعار بأن ذلك مستلزم للإيمان بالكل لأنه صلى الله عليه وسلم مصدق لما بين يديه من الرسل وهم شهداء بصحة نبوته، والمأمور به الإيمان بكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام فيدخل فيه تصديقه فيما أخبر به من أحوال المنافقين دخولًا أوليًا، وقد يقال: إن المراد من الإيمان بالله تعالى أن يعلموه وحده مطلعًا على الغيب.
ومن الإيمان برسله أن يعلموهم عبادًا مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم الله تعالى ولا يقولون إلا ما يوحي إليهم في أمر الشرائع، وكون المراد من الإيمان بالله تعالى الإيمان بأنه سبحانه وتعالى لا يترك المخلصين على الاختلاط حتى يميز الخبيث من الطيب بنصب العلامات وتحصيل العلم الاستدلالي بمعرفة المؤمن والمنافق. ومن الإيمان برسله الإيمان بأنهم المترشحون للاطلاع على الغيب لا غيرهم بعيد كما لا يخفى. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي الجنة.
ويذكر أن رجلًا كان عند الحجّاج بن يوسفَ الثَّقَفِيّ مِنَجِّمًا؛ فأخذ الحجاج حَصَياتٍ بِيده قد عَرف عددها فقال للمُنَجِّم: كم في يدي؟ فحسَب فأصاب المنَجِّم.
فأغفله الحجّاج وأخذ حَصَياتٍ لم يُعدّهنّ فقال للمنجم؛ كم في يدي؟ فحسَب فأخطأ، ثم حسَب أيضا فأخطأ؛ فقال: أيها الأمير، أظنك لا تعرف عدد ما في يدك؟ قال لا.
قال: فما الفرق بينهما؟ فقال: إن ذاك أحْصيتَه فخرج عن حدّ الغيب، فحسَبتُ فأصبتُ، وإنّ هذا لم تَعرف عددَها فصار غَيْبًا، ولا يعلم الغيب إلاَّ الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَإِن تُؤْمِنُواْ} أي بالله تعالى ورسله حق الإيمان {وَتَتَّقُواْ} المخالفة في الأمر والنهي أو تتقوا النفاق {فَلَكُمْ} بمقابلة ذلك فضلًا من الله تعالى: {أَجْرٌ عَظِيمٌ} لا يكتنه ولا يحد في الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)} إلى قوله تعالى: {مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}.
ولقد علم الله دخيلة الذين هزموا وفروا يوم التقى الجمعان في الغزوة. إنهم ضعفوا وتولوا بسبب معصية ارتكبوها؛ فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ واستزلهم فزلوا وسقطوا: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم}..
وقد تكون الإشارة في هذه الآية خاصة بالرماة الذين جال في نفوسهم الطمع في الغنيمة كما جال فيها أن رسول الله سيحرمهم أنصبتهم. فكان هذا هو الذي كسبوه وهو الذي استزلهم الشيطان به..
ولكنها في عمومها تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة فتفقد ثقتها في قوتها ويضعف بالله ارتباطها ويختل توازنها وتماسكها وتصبح عرضة للوساوس والهواجس بسبب تخلخل صلتها بالله وثقتها من رضاه! وعندئذ يجد الشيطان طريقه إلى هذه النفس فيقودها إلى الزلة بعد الزلة وهي بعيدة عن الحمى الآمن والركن الركين.
ومن هنا كان الاستغفار من الذنب هو أول ما توجه به الرّبيون الذين قاتلوا مع النبيين في مواجهة الأعداء. الاستغفار الذي يردهم إلى الله ويقوي صلتهم به ويعفي قلوبهم من الأرجحة ويطرد عنها الوساوس ويسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان ثغرة الانقطاع عن الله والبعد عن حماه. هذه الثغرة التي يدخل منها فيزل أقدامهم مرة ومرة حتى ينقطع بهم في التيه بعيدًا بعيدًا عن الحمى الذي لا ينالهم فيه!
ويحدثهم الله أن رحمته أدركتهم فلم يدع الشيطان ينقطع بهم فعفا عنهم.. ويعرفهم بنفسه سبحانه فهو غفور حليم. لا يطرد الخطاة ولا يعجل عليهم؛ متى علم من نفوسهم التطلع إليه والاتصال به؛ ولم يعلم منها التمرد والتفلت والإباق!
ويتم السياق بيان حقيقة قدر الله في الموت والحياة وزيف تصورات الكفار والمنافقين عن هذا الأمر مناديًا الذين آمنوا بالتحذير من أن تكون تصوراتهم كتصورات هؤلاء. ويردهم في النهاية إلى قيم أخرى وإلى اعتبارات ترجح الآلام والتضحيات: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيى ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}..
وظاهر من مناسبة هذه الآيات في سياق المعركة أن هذه كانت أقوال المنافقين الذين رجعوا قبل المعركة والمشركين من أهل المدينة الذين لم يدخلوا في الإسلام؛ ولكن ما تزال بين المسلمين وبينهم علاقات وقرابات.
وأنهم اتخذوا من مقاتل الشهداء في أحد مادة لإثارة الحسرة في قلوب أهليهم واستجاشة الأسى على فقدهم في المعركة- نتيجة لخروجهم- ومما لا شك فيه أن مثل هذه الفتنة والمواجع دامية مما يترك في الصف المسلم الخلخلة والبلبلة. ومن ثم جاء هذا البيان القرآني لتصحيح القيم والتصورات ورد هذا الكيد إلى نحور كائديه.
إن قول الكافرين: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا}.. ليكشف عن الفارق الأساسي في تصور صاحب العقيدة وتصور المحروم منها للسنن التي تسير عليها الحياة كلها وأحداثها: سراؤها وضراؤها.. إن صاحب العقيدة مدرك لسنن الله متعرف إلى مشيئة الله مطمئن إلى قدر الله. أنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. ومن ثم لا يتلقى الضراء بالجزع ولا يتلقى السراء بالزهو ولا تطير نفسه لهذه أو لتلك؛ ولا يتحسر على أنه لم يصنع كذا ليتقي كذا أو ليستجلب كذا بعد وقوع الأمر وانتهائه! فمجال التقدير والتدبير والرأي والمشورة كله قبل الإقدام والحركة؛ فأما إذا تحرك بعد التقدير والتدبير- في حدود علمه وفي حدود أمر الله ونهيه- فكل ما يقع من النتائج فهو يتلقاه بالطمأنينة والرضى والتسليم؛ موقنًا أنه وقع وفقًا لقدر الله وتدبيره وحكمته؛ وأنه لم يكن بد أن يقع كما وقع؛ ولو أنه هو قدم أسبابه بفعله!.. توازن بين العمل والتسليم وبين الإيجابية والتوكل يستقيم عليه الخطو ويستريح عليه الضمير.. فأما الذي يفرغ قلبه من العقيدة في الله على هذه الصورة المستقيمة فهو أبدًا مستطار أبدًا في قلق! أبدًا في لو ولولا ويا ليت ووا أسفاه!
والله- في تربيته للجماعة المسلمة، وفي ظلال غزوة أحد وما نال المسلمين فيها- يحذرهم أن يكونوا كالذين كفروا. أولئك الذين تصيبهم الحسرات كلما مات لهم قريب وهو يضرب في الأرض ابتغاء الرزق أو قتل في ثنايا المعركة وهو يجاهد: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا}..
يقولونها لفساد تصورهم لحقيقة ما يجري في الكون ولحقيقة القوة الفاعلة في كل ما يجري. فهم لا يرون إلا الأسباب الظاهرة والملابسات السطحية بسبب انقطاعهم عن الله وعن قدره الجاري في الحياة.
{ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم}..
فإحساسهم بأن خروج إخوانهم ليضربوا في الأرض في طلب الرزق فيموتوا أو ليغزوا ويقاتلوا فيقتلوا.
إحساسهم بأن هذا الخروج هو علة الموت أو القتل يذهب بأنفسهم حسرات أن لم يمنعوهم من الخروج! ولو كانوا يدركون العلة الحقيقية وهي استيفاء الأجل ونداء المضجع وقدر الله وسنته في الموت والحياة ما تحسروا. ولتلقوا الابتلاء صابرين ولفاءوا إلى الله راضين: {والله يحيي ويميت}..
فبيده إعطاء الحياة وبيده استرداد ما أعطى في الموعد المضروب والأجل المرسوم سواء كان الناس في بيوتهم وبين أهلهم أو في ميادين الكفاح للرزق أو للعقيدة. وعنده الجزاء وعنده العوض عن خبرة وعن علم وعن بصر: {والله بما تعملون بصير..}..
على أن الأمر لا ينتهي بالموت أو القتل؛ فهذه ليست نهاية المطاف. وعلى أن الحياة في الأرض ليست خير ما يمنحه الله للناس من عطاء. فهناك قيم أخرى واعتبارات أرقى في ميزان الله: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}..
فالموت أو القتل في سبيل الله- بهذا القيد وبهذا الاعتبار- خير من الحياة وخير مما يجمعه الناس في الحياة من أعراضها الصغار: من مال ومن جاه ومن سلطان ومن متاع. خير بما يعقبه من مغفرة الله ورحمته وهي في ميزان الحقيقة خير مما يجمعون. وإلى هذه المغفرة وهذه الرحمة يكل الله المؤمنين.. أنه لا يكلهم- في هذا المقام- إلى أمجاد شخصية ولا إلى اعتبارات بشرية. إنما يكلهم إلى ما عند الله، ويعلق قلوبهم برحمة الله. وهي خير مما يجمع الناس على الإطلاق. وخير مما تتعلق به القلوب من أعراض..
وكلهم مرجوعون إلى الله محشورون إليه على كل حال. ماتوا على فراشهم أو ماتوا وهم يضربون في الأرض. أو قتلوا وهم يجاهدون في الميدان. فما لهم مرجع سوى هذا المرجع؛ وما لهم مصير سوى هذا المصير.. والتفاوت إذن إنما يكون في العمل والنية وفي الاتجاه والاهتمام.. أما النهاية فواحدة: موت أو قتل في الموعد المحتوم والأجل المقسوم. ورجعة إلى الله وحشر في يوم الجمع والحشر.. ومغفرة من الله ورحمة أو غضب من الله وعذاب.. فأحمق الحمقى من يختار لنفسه المصير البائس. وهو ميت على كل حال!
بذلك تستقر في القلوب حقيقة الموت والحياة وحقيقة قدر الله. وبذلك تطمئن القلوب إلى ما كان من ابتلاء جرى به القدر؛ وإلى ما وراء القدر من حكمة وما وراء الابتلاء من جزاء.. وبذلك تنتهي هذه الجولة في صميم أحداث المعركة وفيما صاحبها من ملابسات..
ثم يمضي السياق القرآني في جولة جديدة.. جولة محورها شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وحقيقته النبوية الكريمة؛ وقيمة هذه الحقيقة الكبيرة في حياة الأمة المسلمة؛ ومدى ما يتجلى فيها من رحمة الله بهذه الأمة.
وحول هذا المحور خيوط أخرى من المنهج الإسلامي في تنظيم حياة الجماعة المسلمة وأسس هذا التنظيم؛ ومن التصور الإسلامي والحقائق التي يقوم عليها ومن قيمة هذا التصور وذلك المنهج في حياة البشرية بصفة عامة: {فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير هم درجات عند الله والله بصير بما يعملون لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولًا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}..
وننظر في هذه الفقرة وفي الحقائق الكثيرة الأصيلة المشدودة إلى محورها- وهي الحقيقة النبوية الكريمة- فنجد كذلك أصولًا كبيرة تحتويها عبارات قصيرة.. نجد حقيقة الرحمة الإلهية المتمثلة في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وطبيعته الخيرة الرحيمة الهينة اللينة المعدة لأن تتجمع عليها القلوب وتتألف حولها النفوس.. ونجد أصل النظام الذي تقوم عليه الحياة الجماعية الإسلامية- وهو الشورى- يؤمر به في الموضع الذي كان للشورى- في ظاهر الأمر- نتائج مريرة! ونجد مع مبدأ الشورى مبدأ الحزم والمضي- بعد الشورى- في مضاء وحسم. ونجد حقيقة التوكل على الله- إلى جانب الشورى والمضاء- حيث تتكامل الأسس التصويرية والحركية والتنظيمية. ونجد حقيقة قدر الله ورد الأمر كله إليه وفاعليته التي لا فاعلية غيرها في تصريف الأحداث والنتائج. ونجد التحذير من الخيانة والغلول والطمع في الغنيمة. ونجد التفرقة الحاسمة بين من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله. تبرز منها حقيقة القيم والاعتبارات والكسب والخسارة.. وتختم الفقرة بالإشادة بالمنة الإلهية الممثلة في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الأمة المنة التي تتضاءل إلى جانبها الغنائم كما تتضاءل إلى جانبها الآلام سواء!
هذا الحشد كله في تلك الآيات القلائل المعدودات!
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
إن السياق يتجه هنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي نفسه شيء من القوم؛ تحمسوا للخروج ثم اضطربت صفوفهم فرجع ثلث الجيش قبل المعركة؛ وخالفوا- بعد ذلك- عن أمره وضعفوا أمام إغراء الغنيمة ووهنوا أمام إشاعة مقتله وانقلبوا على أعقابهم مهزومين وأفردوه في النفر القليل وتركوه يثخن بالجراح وهو صامد يدعوهم في أخراهم وهم لا يلوون على أحد.
يتوجه إليه صلى الله عليه وسلم يطيب قلبه وإلى المسلمين يشعرهم نعمة الله عليهم به. ويذكره ويذكرهم رحمة الله الممثلة في خلقه الكريم الرحيم الذي تتجمع حوله القلوب.. ذلك ليستجيش كوامن الرحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم فتغلب على ما آثاره تصرفهم فيه؛ وليحسوا هم حقيقة النعمة الإلهية بهذا النبي الرحيم. ثم يدعوه أن يعفو عنهم ويستغفر الله لهم.. وأن يشاورهم في الأمر كما كان يشاورهم؛ غير متأثر بنتائج الموقف لإبطال هذا المبدأ الأساسي في الحياة الإسلامية.
{فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك}..
فهي رحمة الله التي نالته ونالتهم؛ فجعلته صلى الله عليه وسلم رحيمًا بهم لينًا معهم. ولو كان فظًا غليظ القلب ما تألفت حوله القلوب ولا تجمعت حوله المشاعر. فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وإلى رعاية فائقة وإلى بشاشة سمحة وإلى ود يسعهم وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء؛ ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه؛ ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس. ما غضب لنفسه قط. ولا ضاق صدره بضعفهم البشري. ولا احتجز لنفسه شيئًا من أعراض هذه الحياة بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية. ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم. وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه؛ نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة.
وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف. ليرتب عليها ما يريده سبحانه لحياة هذه الأمة من تنظيم: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر}..
وبهذا النص الجازم: {وشاورهم في الأمر}.. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم- حتى ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكًا في أن الشورى مبدأ أساسي لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه.. أما شكل الشورى والوسيلة التي تتحقق بها فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة تتم بها حقيقة الشورى- لا مظهرها- فهي من الإسلام.