فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله. اهـ.

.قال ابن عاشور:

الظاهر أنّ هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين، فإنّهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما حكى الله عنهم في سورة النساء [37] بقوله: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} وكانوا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتّى ينفضُّوا، وغير ذلك، ولا يجوز بحال أن يكون نازلًا في شأن بعض المسلمين لأنّ المسلمين يومئذ مبرّؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان، ولذلك قال معظم المفسّرين: إنّ الآية نزلت في منع الزكاة، أي فيمن منعوا الزكاة، وهل يمنعها يومئذ إلاّ منافق.
ولعلّ مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أنّ بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أُحُد.
ومعنى حسبأنه خيرًا أنّهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصّلوا عن دفعه بمعاذير قُبلت منهم.
أمّا شمولها لِمنع الزكاة، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس، فبدلالة فحوى الخطاب. اهـ.

.قال القرطبي:

وهذه الآية نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله، وأداء الزكاة المفروضة.
وهذه كقوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} الآية.
ذهب إلى هذا جماعةٌ من المتأوّلين، منهم ابن مسعود وابن عباس وأبو وائل وأبو مالك والسّدِّي والشَّعْبِيّ قالوا: ومعنى {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} هو الذي ورد في الحديث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من آتاه الله مالًا فلم يُؤَدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شُجاعًا أقْرَعَ له زَبِيبتان يُطَوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بِلهزمتيه ثم يقول أنا مالُك أنا كنزك ثم تلا هذه الآية: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} الآية» أخرجه النسائي.
وخرّجه ابن ماجه عن ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما مِن أحدٍ لا يُؤدِّي زكاةَ مالِهِ إِلاَّ مُثِّل له يومَ القيامة شُجاع أقْرَعُ حتى يُطَوَّقَ به في عنقه ثم قرأ علينا النبيّ صلى الله عليه وسلم مِصداقه من كتاب الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} الآية».
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من ذي رَحِمٍ يأتي ذَا رَحِمه فيسأله من فضل ما عنده فيبخل به عليه إلاَّ أخرج له يوم القيامة شُجاعٌ من النار يتلمظّ حتى يُطَوِّقه» وقال ابن عباس أيضا: إنما نزلت في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علموه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال ذلك مُجاهد وجماعة من أهل العلم.
ومعنى {سَيُطَوَّقُونَ} على هذا التأويل سيحملون عقاب ما بخلوا به؛ فهو من الطاقة كما قال تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} [البقرة: 184] وليس من التّطويق.
وقال إبراهيم النَّخَعِيّ: معنى {سَيُطَوَّقون} سيُجعل لهم يوم القيامة طَوْقٌ من النار.
وهذا يجري مع التأويل الأوّل (أي) قول السدي.
وقيل: يُلزَمون أعمالهم كما يلزم الطّوق العنق؛ يقال: طُوِّق فلان عملَه طَوْقَ الحمامة، أي ألزِم عمله.
وقد قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13].
ومن هذا المعنى قولُ عبد الله بن جَحْش لأبي سفيان:
أبلِغْ أبا سفيان عن ** أمْرٍ عواقبُه ندامه

دارَ ابن عمِّك بِعتَها ** تقضي بها عنك الغرامهْ

وَحَلِيفكُم باللَّه ربِّ ** الناسِ مجتهِدُ القَسَامهْ

اذهب بها اذهب بها ** طُوِّقتَها طوقَ الحمامهْ

وهذا يجري مع التأويل الثاني.
والبُخْل والبَخَل في اللغة أن يَمنع الإنسانُ الحقَّ الواجبَ عليه.
فأما من منَع ما لاَ يجب عليه فليس ببخيل؛ لأنه لا يُذَمّ بذلك.
وأهل الحجاز يقولون: يَبْخَلُون وقد بَخلُوا.
وسائر العرب يقولون: بَخِلُوا يَبْخَلُون؛ حكاه النحاس.
وبَخِل يَبْخَل بُخْلًا وَبَخَلًا؛ عن ابن فارس. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ حمزة {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} بالتاء والباقون بالياء، أما قراءة حمزة بالتاء المنقطة من فوق فقال الزجاج: معناه ولا تحسبن بخل الذين يبخلون خيرا لهم، فحذف المضاف لدلالة يبخلون عليه، وأما من قرأ بالياء المنقطة من تحت ففيه وجهان: الأول: أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} ضمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ضمير أحد، والتقدير: ولا يحسبن رسول الله أو لا يحسبن أحد بخل الذين يبخلون خيرًا لهم.
الثاني: أن يكون فاعل {يَحْسَبَنَّ} هم الذين يبخلون، وعلى هذا التقدير يكون المفعول محذوفا، وتقديره: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم هو خيرًا لهم، وإنما جاز حذفه لدلالة يبخلون عليه، كقوله: من كذب كان شرًا له، أي الكذب، ومثله:
إذا نهى السفيه جرى إليه

أي السفه، وأنشد الفراء:
هم الملوك وأبناء الملوك هم ** والآخذون به والسادة الأول

فقوله به: يريد بالملك ولكنه اكتفى عنه بذكر الملوك. اهـ.

.قال الطبري:

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بالتاء، بتأويل: ولا تحسبن، أنت يا محمد، بخل الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم ثم ترك ذكر البخل، إذ كان في قوله: {هو خيرًا لهم} دلالة على أنه مراد في الكلام، إذ كان قد تقدمه قوله: {الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله}.
وإنما قلنا: قراءة ذلك بالتاء أولى بالصواب من قراءته بالياء، لأن المحسبة من شأنها طلب اسم وخبر، فإذا قرئ قوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون} بالياء: لم يكن للمحسبة اسم يكون قوله: {هو خيرًا لهم} خبرًا عنه. وإذا قرئ ذلك بالتاء، كان قوله: {الذين يبخلون} اسمًا له قد أدّى عن معنى البخل الذي هو اسم المحسبة المتروك، وكان قوله: {هو خيرًا لهم} خبرًا لها، فكان جاريًا مجرى المعروف من كلام العرب الفصيح. فلذلك اخترنا القراءة بالتاء في ذلك على ما بيناه، وإن كانت القراءة بالياء غير خطأ، ولكنه ليس بالأفصح ولا الأشهر من كلام العرب.
قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية الذي هو تأويلها على ما اخترنا من القراءة في ذلك: ولا تحسبن، يا محمد، بخل الذين يبخلون بما أعطاهم الله في الدنيا من الأموال، فلا يخرجون منه حق الله الذي فرضه عليهم فيه من الزكوات، هو خيرًا لهم عند الله يوم القيامة، بل هو شر لهم عنده في الآخرة. اهـ.

.قال الفخر:

هو في قوله: {هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} تسميه البصريون فصلا، والكوفيون عمادًا، وذلك لأنه لما ذكر {يبخلون} فهو بمنزلة ما إذا ذكر البخل، فكأنه قيل: ولا يحسبن الذين يبخلون البخل خيرا لهم، وتحقيق القول فيه أن للمبتدأ حقيقة، وللخبر حقيقة، وكون حقيقة المبتدأ موصوفا بحقيقة الخبر أمر زائد على حقيقة المبتدأ وحقيقة الخبر، فإذا كانت هذه الموصوفية أمرا زائدا على الذاتين فلابد من صيغة ثالثة دالة على هذه الموصوفية وهي كلمة هو. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن الآية دالة على ذم البخل بشيء من الخيرات والمنافع، وذلك الخير يحتمل أن يكون مالا، وأن يكون علما.
فالقول الأول: إن هذا الوعيد ورد على البخل بالمال، والمعنى: لا يتوهمن هؤلاء البخلاء أن بخلهم هو خير لهم، بل هو شر لهم، وذلك لأنه يبقى عقاب بخلهم عليهم، وهو المراد من قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} مع أنه لا تبقى تلك الأموال عليهم وهذا هو المراد بقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض}.
والقول الثاني: أن المراد من هذا البخل: البخل بالعلم، وذلك لأن اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته، فكان ذلك الكتمان بخلا، يقال فلان يبخل بعلمه، ولا شك أن العلم فضل من الله تعالى قال الله تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113] ثم أنه تعالى علم اليهود والنصارى ما في التوراة والأنجيل، فإذا كتموا ما في هذين الكتابين من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك بخلا.
واعلم أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجهان:
الأول: أنه تعالى قال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ} ولو فسرنا الآية بالعلم احتجنا إلى تحمل المجاز في تفسير هذه الآية، ولو فسرناها بالمال لم نحتج إلى المجاز فكان هذا أولى.
الثاني: أنا لو حملنا هذه الآية على المال كان ذلك ترغيبا في بذل المال في الجهاد فحينئذ يحصل لهذه الآية مع ما قبلها نظم حسن، ولو حملناها على أن اليهود كتموا ما عرفوه من التوراة انقطع النظم، إلا على سبيل التكلف، فكان الأول أولى. اهـ.
قال الفخر:
أكثر العلماء على أن البخل عبارة عن منع الواجب، وان منع التطوع لا يكون بخلا، واحتجوا عليه بوجوه:
أحدها:
أن الآية دالة على الوعيد الشديد في البخل، والوعيد لا يليق إلا الواجب.
وثانيها:
أنه تعالى ذم البخل وعابه، ومنع التطوع لا يجوز أن يذم فاعله وأن يعاب به.
وثالثها:
وهو أنه تعالى لا ينفك عن ترك التفضل لأنه لا نهاية لمقدوراته في التفضل، وكل ما يدخل في الوجود فهو متناه، فيكون لا محالة تاركا التفضل، فلو كان ترك التفضل بخلا لزم أن يكون الله تعالى موصوفا بالبخل لا محالة، تعالى الله عز وجل عنه علوا كبيرا.
ورابعها:
قال عليه الصلاة والسلام: «وأي داء أدوأ من البخل» ومعلوم أن تارك التطوع لا يليق به هذا الوصف.
وخامسها:
أنه كان لو تارك التفضل بخيلا لوجب فيمن يملك المال كله العظيم أن لا يتخلص من البخل إلا باخراج الكل.
وسادسها:
أنه تعالى قال: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} [البقرة: 3] وكلمة من للتبعيض، فكان المراد من هذه الآية: الذين ينفقون بعض ما رزقهم الله، ثم أنه تعالى قال في صفتهم: {أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] فوصفهم بالهدى والفلاح، ولو كان تارك التطوع بخيلا مذموما لما صح ذلك.
فثبت بهذه الآية أن البخل عبارة عن ترك الواجب، إلا أن الإنفاق الواجب أقسام كثيرة، منها انفاقه على نفسه وعلى أقاربه الذين يلزمه مؤنتهم، ومنها ما يتصل بأبواب الزكاة، ومنها ما إذا احتاج المسلمون إلى دفع عدو يقصد قتلهم ومالهم، فهاهنا يجب عليهم انفاق الأموال على من يدفعه عنهم، لأن ذلك يجري مجرى دفع الضرر عن النفس، ومنها إذا صار أحد من المسلمين مضطرًا فإنه يجب عليه أن يدفع إليه مقدار ما يستبقي به رمقه، فكل هذه الاتفاقات من الواجبات وتركه من باب البخل، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؛ أَمَّا الْكِتَابُ فَقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} وَالْإِيثَارُ مُسْتَحَبٌّ، وَسُمِّيَ مَنْعُهُ شُحًّا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَثَبَتَ بِرِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ: «مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُنْفِقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ؛ فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَتَصَدَّقَ سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ حَتَّى تُجِنَّ بَنَانَهُ وَتُعَفِّيَ أَثَرَهُ، وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ تَقَلَّصَتْ وَلَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا، فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا تُوَسَّعُ».
وَهَذَا مِنْ الْأمثال الْبَدِيعَةِ، بَيَانُهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. اهـ.

.قال ابن عاشور عن البخل:

وهو ضدّ الجود، فهو الانقباض عن إعطاء المال بدون عوض، هذا حقيقته، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرّة عليه إلاَّ مجازًا، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «البخيل الذي أُذكُر عنده فلا يصلّي عليّ» ويقولون: بخِلت العين بالدموع، ويرادف البخلَ الشحّ، كما يرادف الجودَ السخاء والسماح. اهـ.
ثمرة البخل وفائدته:

.قال القرطبي:

وهو ما رُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: «من سَيدكم؟» قالوا الجَدّ ابن قيس على بُخْلٍ فيه. فقال صلى الله عليه وسلم: «وأيُّ داء أَدْوَى من البخل؟» قالوا: كيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «إن قومًا نزلوا بساحل البحر فكَرِهوا لبخلهم نزول الأضياف بهم فقالوا: ليبعد الرجال منّا عن النساء حتى يعتذر الرجال إلى الأضياف بِبُعْد النساء؛ وتعتذر النساء ببُعْد الرجال؛ ففعلوا وطال ذلك بهم فاشتغل الرجال بالرجال والنساء بالنساء» ذكره الماوردي في كتاب أدب الدنيا والدين. والله أعلم. اهـ.