فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل:
وقوله هذه غدرة فلان ابن فلان دليل على أن الناس يدعون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم وقد تقدم هذا في غير موضع، وفي هذا رد على من قال إنما يدعون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترًا على آبائهم، وهذا الحديث خلاف قولهم. خرجه البخاري ومسلم وحسبك.
فصل:
وقوله فيكوي بها جنبه الحديث إنما خص الجنب والجبهة والظهر بالكي لشهرته في الوجه وشناعته، وفي الجنب والظهر لأنه آلم وأوجع، وقيل خص الوجه لتقطيبه في وجه السائل أولًا والجنب لأزوراره عن السائل ثانيًا والظهر لانصرافه إذا راد في السؤال وأكثر منه، فرتب الله تعالى هذه العقوبات في هذه الأعضاء لأجل ذلك والله أعلم.
وقالت الصوفية: لما طلبوا الجاه والمال شان الله وجوههم، ولما طووا كشحًا عن الفقير إذ جالسهم كويت جنوبهم ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقة بها واعتمادًا عليها كويت ظورههم.
فصل:
وقوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قيل: معناه لو حاسب فيها غير الله تعالى وإنما هو سبحانه وتعالى يفرغ منه في مقدار نصف نهار من أيام الدنيا. وقيل: قدر مواقفهم للحساب عن الحسن وقال ابن اليمان كل موقف منها ألف سنة.
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده أنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة وقد تقدم من حديث أبي سعيد الخدري وذكر ابن المبارك قال أخبرنا معمر عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة قال: يقصر يومئذ على المؤمن حتى يكون كوقت الصلاة.
وفي الحديث لا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ذكره ابن عزير في غريب القرآن له. وبطح: ألقي على وجهه. قاله بعض المفسرين. وقال أهل اللغة: البطح: هو البسط كيفيما كان غير الوجه أو على الوجه، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها، وبقاع قرقر أي موضع مستو واسع وأصل القاع: الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء وجمعه قيعان، والعقصاء: الملتوية القرن. والجلحاء: التي لا قرن لها. والعضباء: المكسورة داخلة القرن يريد: إنها كلها ذوات قرون صحاح ويمكن بها النطح والطعن حتى يكون أشد لألمه وأبلغ في عذابه، والله أعلم. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآَخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)}.
التفسير: نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمنًا من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها، وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد، ويؤيسونهم من النصر والظفر، وربما يقولون: إن محمدًا لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه، ولو كان رسولًا ما غلبه أحد.
وقيل: إن قومًا من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفًا من قريش، فاغتنم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك. ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان المستمر على الكفر، وبأن إرادته أن لا يجعل لهم حظًا في الآخرة إنما تليق بمن آمن فاستوجب الحظ ثم أحبط، وبأن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود وذلك هو ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتفاع بإيمانهم أو انتفاعهم بالإيمان فبيّن الله تعالى أنه لا يلحق بسبب فوات ذلك ضرر بالدين، وأن وبال ذلك يعود عليهم كما دل عليه بقية الآية. فإن قيل: الحزن على كفر الكافر وعلى معصية العاصي طاعة، فكيف نهي نبي الله عن ذلك؟ فالجواب أنه نهي عن الإسراف في الحزن بحيث يأتي عليه ونظيره {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} [الشعراء: 3] أو المراد لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك {إنهم لن يضروا الله} أي دينه {شيئًا} من الضرر. {يريد الله ألا يجعل لهم حظًا في الآخرة} فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم، وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله، ومعنى قوله: {ولهم عذاب عظيم} أنه كما لاحظ لهم من منافع الآخرة فلهم حظ عظيم من مضارها. وفي الأخبار عن إرادة عدم الجعل دون الأخبار عن عدم الجعل إشعار بأن استحقاقهم للحرمان بلغ إلى حد أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم وأن الداعي إلى تعذيبهم خلص خلوصًا لم يبق معه صارف ألبتة. ثم أنزل في اليهود خاصة وهو الأشبه أو في الكفار عامة {إن الذين اشتروا} الآية. والغرض تأكيد تقوية قلب الرسول كأنه قيل: إن أكثرهم ينازعونك في الدين لا لأجل شبهة لهم بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا. ومن كان عقله هذا القدر- وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة- كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير. ولو قيل: إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير. ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال: {ولا يحسبن} من قرأ بالياء فقوله: {الذين كفروا} فاعل، وأن مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه.
ومن قرأ بتاء الخطاب ف {الذين كفروا} مفعول أول وأن مع ما في حيزه بدل منه. وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي. ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض. مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن ما مصدرية. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قال الأصمعي: يقال أملي عليه الزمان أي طال. وأملى له أي طوّل له وأمهله. قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة، والملوان الليل والنهار. ويقال: أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حينًا وبرهة. و{إثمًا} نصب على التمييز. وفي وصف العذاب أوّلًا بالعظم ثم بالألم ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى. قالت الأشاعرة هاهنا: إن إطالة المدة من فعل الله لا محالة. والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. وأيضا أنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء، أن يزدادوا إثمًا، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله. وأيضا أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم، والإتيان بخلاف خبر اله تعالى محال، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين. أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيرًا من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد، لا أنه ليس بخير مطلقًا. وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرًا من شيء آخر، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة. ومثله {وجعلو لله أندادًا ليضلوا} [إبراهيم: 30] وهم ما فعلوا ذلك إلأ ضلال. ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك. ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثمًا على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثمًا فكان تعالى فاعلًا للازدياد ومريدًا له. قالوا: في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثمًا إنما نملي لهم خير لأنفسهم. ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر إن الأولى وفتح الثانية.
وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحدي أنكرها. ثم أنه تعالى أخبر أنه لا يجوز في حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من اختلاط المخلص بالمنافق، ولكنه يعزل أحد الجنسين عن الآخر بإلقاء الحوادث وإبداء الوقائع كما في قصة أحد.
لله در النائبات فإنها ** صدأ اللئام وصيقل الأحرار

فقال: {ما كان الله ليذر} اللام لتأكيد النفي والخطاب في {أنتم} للمصدقين جميعًا من أهل الإخلاص والنفاق. خوطبوا بأنه ما كان في حكمة الله أن يترك المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض. وماز وميَّز لغتان. مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزًا، وميّزته تمييزًا. وفي الحديث: «من ماط أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة» ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفردًا إلا أنه للجنس والمراد جميع المنافقين من المؤمنين، وإنما قدم الخبيث على الطيب ليقع فعل الميز عليه ليعلم أنه المطرح من الشيئين الملقى لرداءته، فإن الميز يقع على الأدون والأهون. وبم يحصل هذا الميز؟ قيل: بالمحن والمصائب كالقتل والهزيمة وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج مع ما بهم من القروح، فبمثل ذلك يظهر الثابت من المتزلزل والساكن من المتقلقل. وقيل: بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله. وقيل: بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله: {وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكنّ الله يجتبي} أي يصطفي ويختار {من رسله من يشاء} وبناء الكلام على ثلاث مراتب: الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل منكم، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عيبده. الثانية أن الرسول أيضا لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق. الثالثة أن هذا أيضا مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته. {فآمنوا بالله ورسله} ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علامًا للغيوب، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيدًا مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. ووجه النظم على القول الأول: لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلانًا مؤمن وفلانًا منافق، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء. أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل، فآمنوا بالله ورسله كلهم، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال: {وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم} قال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤا فقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله: {ما كان الله ليذر المؤمنين}. وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت. وقال أبو العالية: نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطو علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق.
ثم أنه عز من قائل لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد، حرض على بذل المال في سبيل الله فقال: {ولا تحسبن الذين يبخلون} من قرأ بتاء الخطاب قدر مضافًا أي لا تحسنى بخل الذين يبخلون هو خيرًا لهم، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعله ضمير النبي أو أحد. ومن جعل الموصول فاعلًا فالمفعول الأول محذوف للدلالة. التقدير: ولا تحسبن هؤلاء بخلهم هو خيرًا وهو صيغة الفصل. قال الواحدي: جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مانعي الزكاة لترتب الوعيد عليه وسوق الكلام في معرض الذم، ولأن تارك التفضل لو عدّ بخيلًا لم يتخلص الإنسان من البخل إلا بإخراج جميع المال. وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم، وعلى المضطر، وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدوّ وتعين دفعهم بالمال. وروى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته. وأراد بالبخل كتمان العلم الذي آتاهم الله، وعلى هذا يكون عودًا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ويعضده أن كثيرًا من آيات بقية السورة فيهم. وعلى هذا التفسير فمعنى {سيطوّقون} أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقًا من النار كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولًا على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول: أنا مالك.
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقًا في عنقه شجاعًا أقرع يفر منه وهو يتبعه» ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل: {ولا تحبسن الذين يبخلون} الآية. وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول: أن كنزك» وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقًا أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق. وفي أمثالهم يقلدها طوق الحمامة إذا جاء بهنة بيسب بها ويذم. وقال مجاهد: معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. ونظيره ما روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ {وعلى الذين يطوّقونه فدية} [البقرة: 184] قال المفسرون: يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخًا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنًا؟ {ولله ميراث السموات والأرض} وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله؟ ونظيره قوله: {وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه} [الحديد: 7] وقال كثير من المفسرين: المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري: يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركًا له فيه. ومثله {وورث سليمان داود} [النمل: 16] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركًا له فيه أو غالبًا عليه {والله بما تعملون خبير} من قرأ على الغيبة فظاهر، أي يجازيهم على منعهم الحقوق. ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب. اهـ.

.فوائد بلاغية:

قال أبو حيان:
وتضمنت هذه الآيات فنونًا من البلاغة والبديع.
الاختصاص في: أجر المؤمنين.
والتكرار في: يستبشرون، وفي: لن يضروا الله شيئًا، وفي: اسمه في عدة مواضع، وفي: لا يحسبن الذين كفروا، وفي ذكر الإملاء.
والطباق في: اشتروا الكفر بالإيمان، وفي: ليطلعكم على الغيب.
والاستعارة في: يسارعون، وفي: اشتروا، وفي: نملي وفي: ليزدادوا إثمًا، وفي: الخبيث والطيب.
والتجنيس المماثل في: فآمنوا وإن تؤمنوا.
والالتفات في: أنتم إن كان خطابًا للمؤمنين، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه، وإن كان خطابًا لغيرهم كان من تلوين الخطاب، وفي: تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب.
والحذف في مواضع. اهـ.