فصل: من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والله سبحانه يريد أن توجد الحركة في الكون؛ لأنه إن وجدت الحركة في الكون انتفع الناس وإن لم يقصد التحرك. وبعد ذلك فأين يذهب الذي يأخذه الله منك؟. أنه يعطيه لأخ لك ولغيره. فما دام سبحانه يعطي أخًا لك وزميلًا لك من ثمرة ونتيجة حركتك، ففي هذا اطمئنان وأمان لك، لأن الغير سيعطيك لو صرت عاجزًا غير قادر على الكسب. وفي هذا طمأنينة لأغيار الله فيك. فإن جاءت لك الأغيار فستجد أناسًا يساعدونك، وبذلك يتكاتف المجتمع، وهذا هو التأمين الاجتماعي في أرقى معانيه. إذن فهذا كله من فضل الله.
{وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ} إن الذين يبخلون بفضل الله يظنون أن البخل خير لمجرد أنه يكدس عندهم الأموال، وليس ذلك صحيحًا؛ لأن الحق يقول: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أن ما بخلوا به يصنعه الله طوقًا في رقبة البخيل، وساعة يرى الناس الطوق في رقبة البخيل يقولون: هذا منع حق الله في ماله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يصور هذه المسألة تصويرًا دقيقًا حين يبين لنا أن من يُطلب منه حق الله ولم يؤده، يأتي المال الذي منعه وضن وبخل به يتمثل لصاحبه يوم القيامة شجاعًا أقرع وهو ثعبان ضخم، ويطوق رقبته. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من آتاه الله مالًا فلم يؤد زكاته مُثِّلَ له شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة يأخذ بلهزمتيه- يعني شدقيه- يقول: أنا مالُك أنا كنزك» ثم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} إلى آخر الآية.
إذن فالذي يدخر بخلًا على الله فهو يزيد من الطوق الذي يلتف حول رقبته يوم القيامة.
{وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} نعم فلله ميراث السماوات والأرض، ثم يضعها فيمن يشاء، فكل ما في الكون نسبته إلى الله، ويوزعه الله كيفما شاء. إن الإيمان يدعونا ألاّ ننتظر بالصدقة إلى حالة بلوغ الروح الحلقوم، فقد روي عن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: «أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان». لأنه عند وصول الروح إلى الحلقوم لا يكون له مال.
قول الحق: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قضية تجعل القلب يرتجف خوفًا ورعبًا، فقد يدلس الإنسان على البشر، فتجد من يتهرب من الضرائب ويصنع تزويرًا دفترين للضرائب، واحدًا للكسب الصحيح وآخر للخسارة الخاطئة ويكون هذا المتهرب من الضرائب يملك المال ثم ينكر ذلك، هذا الإنسان عليه أن يعرف أن الله خبير بكل ما يعمل. وبعد ذلك يقول الحق: {لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ...}. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
فَبَيَّنَ لَنَا سُنَّةً حَكِيمَةً مِنْ سُنَنِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَبْلُغُ الْخَيْرَ بِعَمَلِهِ الْحَسَنِ، وَيَقَعُ فِي الضَّيْرِ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَتَشْمِيرِهِ فِي عَمَلِ السَّيِّئَاتِ، وَالْعِبْرَةُ بِالْخَوَاتِيمِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هَذَا الْإِمْلَاءَ لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ عِنَايَةً مِنَ اللهِ بِهِمْ. وَإِنَّمَا هُوَ جَرْيٌ عَلَى سُنَّتِهِ فِي الْخَلْقِ، وَهِيَ أن يكون مَا يُصِيبُ الْإِنْسَانَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ هُوَ ثَمَرَةُ عَمَلِهِ. وَمِنْ مُقْتَضَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أن يكون الْإِمْلَاءُ لِلْكَافِرِ عِلَّةً لِغُرُورِهِ، وَسَبَبًا لِاسْتِرْسَالِهِ فِي فُجُورِهِ، فَيُوقِعُهُ ذَلِكَ فِي الْإِثْمِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَذَابُ الْمُهِينُ.
هَذَا مَا عِنْدِي عَنِ الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ {تَحْسَبَنَّ} بِالتَّاءِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لِكُلِّ مَنْ يَحْسَبُ، وَفَتْحَ سِينَ يَحْسَبُ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ هُوَ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَكَسَرَهَا الْبَاقُونَ. وَالْإِمْلَاءُ: الْإِمْهَالُ، وَالتَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَعَمَلِهِ لِيَبْلُغَ مَدَاهُ فِيهِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَمْلَى لِفَرَسِهِ. إِذَا أَرْخَى لَهُ الطِّوَلَ لِيَرْعَى كَيْفَ شَاءَ، أَيْ: لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِهِمْ، فَقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} بَدَلٌ مِنَ الْمَفْعُولِ. أَوْ لَا يَحْسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ إِمْلَاءَنَا لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْخَيْرَ لَيْسَ فِي الْإِمْهَالِ، وَإِرْخَاءِ الْعِنَانَ لِلْإِنْسَانِ لِيَعْمَلَ بِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ مَا يَشَاءُ؛ فَإِنَّ هَذِهِ سُنَّةُ اللهِ فِي جَمِيعِ الْبَشَرِ بِاخْتِيَارِهِمْ مَا يَشَاءُونَ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْخَيْرُ لِلْإِنْسَانِ فِي الْإِمْلَاءِ وَطُولِ الْأَجَلِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ، إِذَا كَانَ يَزْدَادُ فِيهِ عَمَلًا صَالِحًا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي نَفْسِهِ بِارْتِقَائِهَا فِي الْأَخْلَاقِ الْعَالِيَةِ، وَالصِّفَاتِ الْفَاضِلَةِ، وَيَنْفَعُ بِهِ النَّاسَ فِي تَهْذِيبِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَحْسِينِ مَعِيشَتِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ الْكَافِرُونَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ وَأمثالهِمْ لَا يَزْدَادُونَ بِجَهْلِهِمْ وَسُوءِ اخْتِيَارِهِمْ إِلَّا إِثْمًا يَضُرُّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بِالتَّمَادِي فِي مُكَابَرَةِ الْحَقِّ، وَالِاسْتِرْسَالِ فِي الْفِسْقِ، وَتَأْيِيدِ سُلْطَانِ الشَّرِّ فِي الْخَلْقِ، فَاللَّامُ فِي قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} هِيَ الَّتِي يُسَمُّونَهَا لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَالصَّيْرُورَةِ، أَيْ لِتَكُونَ عَاقِبَتُهُمْ بِحَسَبِ السُّنَّةِ الْعَامَّةِ فِي الْخَلْقِ ازْدِيَادَ الْإِثْمِ، فَإِنَّهُمْ بِمُقْتَضَى كُفْرِهِمْ وَبَاطِلِهِمْ يُقَاوِمُونَ أَهْلَ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكُلَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ عَلَى شَاكِلَتِهِ قَوِيَتْ بِالْعَمَلِ وَالْإِثْمِ دَاعِيَةُ الْإِثْمِ، كَمَا أَنَّ الْخَيْرَ يَمُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا مِنْ خَلِيقَةٍ، وَلَا شَاكِلَةٍ فِي الْإِنْسَانِ إِلَّا وَيَزِيدُهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَاهَا قُوَّةً، وَرُسُوخًا فِي نَفْسِهِ فَهَذِهِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِهِ تعالى فِي طِبَاعِ الْبَشَرِ.
وَقَدْ يَرِدُ هُنَا إِشْكَالَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّ مِنَ الْكَافِرِينَ مَنْ يَعْمَلُ الْخَيْرَ، فَإِذَا طَالَ عُمُرُهُ ازْدَادَ مِنْهُ، وَهَذَا شَيْءٌ ثَابِتٌ بِالنَّظَرِ وَالِاخْتِيَارِ، وَنُصُوصِ الْقُرْآنِ الَّتِي تَحْكُمُ بِالضَّلَالِ عَلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، وَإِذَا أَطْلَقْتَ الْحُكْمَ أَوْ عَمَّمْتَهُ أَتْبَعْتَهُ بِاسْتِثْنَاءِ الْأَقَلِّ كَمَا تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي التَّفْسِيرِ. (ثَانِيهِمَا) أَنَّ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ إِذَا أُمْلِيَ لَهُ يَظْهَرُ لَهُ فِي أَثْنَاءِ عَمَلِهِ بِكُفْرِهِ أنه مُخْطِئٌ فَيَتُوبُ، وَيُؤْمِنُ، وَيَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ. فَالْقَاعِدَةُ الَّتِي ذَكَرْتُ فِي ازْدِيَادِ الِاعْتِقَادِ وَالْخَلْقِ قُوَّةً، وَرُسُوخًا بِالْعَمَلِ غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ، وَإِطْلَاقُ الْآيَةِ غَيْرُ ظَاهِرٍ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ، وَإِنَّنَا نَحُلُّ الْإِشْكَالَيْنِ كَأَيِّهِمَا بِالْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ حَلًّا لَا مِرْيَةَ فِيهِ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا.
(الأولى) إِنَّ الْكَلَامَ فِي الَّذِينَ ثَبَتَ كُفْرُهُمْ فِي عِلْمِ اللهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَرْبِيَتَهُمْ وَسِيرَتَهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا مُذْ كَانُوا رَانَتْ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَحَاطَتْ بِهِمْ خَطِيئَاتُهُمُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا حَتَّى لَمْ يَبْقَ لِلْهِدَايَةِ طَرِيقٌ إِلَى نُفُوسِهِمْ.
(الثَّانِيَةُ) أَنَّ مَا ذَكَرَ مِنَ ازْدِيَادِهِمْ إِثْمًا بِالْإِمْلَاءِ لَهُمْ هُوَ شَأْنُهُمْ مِنْ حَيْثُ هُمْ كَافِرُونَ، فَهُمْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ لَا يَزْدَادُونَ عَلَى تَمَادِي الزَّمَانِ إِلَّا إِثْمًا بِعَدَاوَةِ النَّبِيِّ، وَالْمُؤْمِنِينَ، وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ، وَآمَنَ لَا يَصْدُقُ عَلَى الْإِمْلَاءِ لَهُ أنه مِنَ الْإِمْلَاءِ لِلَّذِينِ كَفَرُوا.
(الثَّالِثَةُ) أَنَّ فِي كُلِّ أُمَّةٍ- مَهْمَا كَانَ دِينُهَا- أُنَاسًا تَغْلِبُ عَلَيْهِمْ سَلَامَةُ الْفِطْرَةِ، وَحُبُّ الْفَضِيلَةِ، فَهُمْ يَعْمَلُونَ إِلَى الْخَيْرِ، وَإِنْ غَلَبَ الشَّرُّ، وَالْفَسَادُ عَلَى مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ إِذَا دُعُوا إِلَى الْحَقِّ دَعْوَةً صَحِيحَةً لَا يُسَارِعُونَ فِي مُجَاحَدَتِهِ، وَمُعَادَاةِ الدَّاعِي، وَإِيذَائِهِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ إِلَى الإيمان بِهِ عِنْدَمَا يَظْهَرُ لَهُ صِدْقُ دَعْوَتِهِ، وَقَدْ يَتَثَبَّتُونَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكُفْرُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ جُحُودُ الْحَقِّ بَعْدَ ظُهُورِ حُجَّتِهِ كَمَا قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} [4: 115] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [47: 32] فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمُرَادُ بِالَّذِينِ كَفَرُوا فِي الْآيَةِ.
(الرَّابِعَةُ) أَنَّ مَنْ يَسْتَثْنِيهِمُ الْقُرْآنُ مِنَ الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ الَّتِي يَصِفُهَا بِالْكُفْرِ لَا يَسْتَثْنِيهِمْ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ وَالشَّرِّ فَقَطْ، بَلْ يَسْتَثْنِيهِمْ مِنَ الْكُفْرِ نَفْسِهِ أيضا فَكَمَا قَالَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [7: 159] وَقَالَ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [3: 75] وَقَالَ: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [5: 66]- قَالَ فِيهِمْ أيضا: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [4: 155].
(الْخَامِسَةُ) قَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أُولَئِكَ الْكَافِرِينَ الْمُحَارِبِينَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مُؤْمِنِينَ بِالْقُوَّةِ وَالِاسْتِعْدَادِ، وَكَانَ إِيمَانُهُمْ يَظْهَرُ حِينًا بَعْدَ حِينٍ عِنْدَمَا تَتِمُّ أَسْبَابُهُ، كَمَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فِي الظَّاهِرِ كَافِرِينَ فِي الْبَاطِنِ، وَكَانَتْ نَوَاجِمُ الْكُفْرِ تَبْدُو مِنْهُمْ آنًا بَعْدَ آنٍ- كَمَا ظَهَرَ مِنْهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ- وَمَا الْعَهْدُ بِتَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بِبَعِيدٍ، وَكَمَا ظَهَرَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ الَّتِي فَضَحَهُمُ اللهُ تعالى فِيهَا كَمَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ، وَسُورَةِ التَّوْبَةِ- إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى- فَاللهُ تعالى يَحْكُمُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَسَبِ الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الأمر، وَلَا تَنْسَ الْمَسْأَلَةَ الأولى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
ثُمَّ إِنَّ فِي الْآيَةِ مِنْ مَوَاضِعِ الْعِبْرَةِ أَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَافِرِ أَنْ يَزْدَادَ كُفْرًا بِطُولِ الْعُمُرِ وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعَمَلِ عَلَى شَاكِلَتِهِ، وَبِحَسَبِ اسْتِعْدَادِهِ، وَيُقَابِلُهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا طَالَ عُمُرُهُ كَثُرَتْ حَسَنَاتُهُ، وَازْدَادَتْ خَيْرَاتُهُ، فَعَسَى أَنْ يَتَّخِذَ هَذَا مِيزَانًا مِنْ مَوَازِينِ الإيمان، وَمُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، فَإِنَّهُ مِمَّا يَذْهَبُ بِالْغُرُورِ، وَيُخْرِجُ الَّذِي فَقِهَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ أَنَّ قوله: {أَنَّمَا} الأولى الْمَفْتُوحَةُ الْهَمْزَةِ كُتِبَتْ فِي الْمَصَاحِفِ مُتَّصِلَةً إنَّ فِيهَا ما اتِّبَاعًا لِلْمُصْحَفِ الْإِمَامِ، وَيَجِبُ بِحَسَبِ فَنِّ الرَّسْمِ فَصْلُهَا، وما هَذِهِ مَصْدَرِيَّةٌ عَلَى مَا جَرَيْنَا عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَوْصُولَةٌ، وَهِيَ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى {الَّذِينَ} إِلَّا بِتَأْوِيلٍ كَتَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَوْ حَالٍ، وَذَهَبَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ إِلَى تَرْجِيحِ الْبَدَلِيَّةِ، وَقَالُوا فِيهِ: إِنَّ الْبَدَلَ مَا يُسْتَغْنَى بِهِ عَنِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وَهُنَا لَا يَصِحُّ الِاسْتِغْنَاءُ. وَأَجَابَ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنَّ عَدَمَ الِاسْتِغْنَاءِ مُتَعَيِّنٌ فِي الْمَعْنَى لَا فِي اللَّفْظِ. ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، وَقَالَ: الْحَقُّ أنه يُتَسَامَحُ فِي أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةِ وَمَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ مَا لَا يُتَسَامَحُ فِي الْمَصْدَرِ نَفْسِهِ، وَلَا حَاجَةَ فِي الْآيَةِ إِلَى تَقْدِيرٍ.
أَقُولُ: وَفِي الْآيَاتِ الثَّلَاثِ التَّفَنُّنُ فِي وَصْفِ الْعَذَابِ بَيْنَ عَظِيمٍ، وَأَلِيمٍ، وَمُهِينٍ، وَالْأَلِيمُ: ذُو الْأَلَمِ، وَالْمُهِينُ: ذُو الْإِهَانَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ يَتَوَارَدُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ كَمَا لَا يَخْفَى، وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مُنَاسَبَةَ كُلِّ وَصْفٍ لِآيَتِهِ، كَكَوْنِ الْجَزَاءِ بِالْعَظِيمِ عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمُسَارَعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي الْعَظَائِمِ، وَبِالْأَلِيمِ عَلَى شِرَاءِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْمَغْبُونَ يَتَأَلَّمُ، وَبِالْمُهِينِ عَلَى ازْدِيَادِ الْإِثْمِ بِالْإِمْلَاءِ، لِأَنَّ مَنِ ازْدَادُوا إِثْمًا مَا كَانُوا يَطْلُبُونَ إِلَّا الْعِزَّ وَالْكَرَامَةَ.
مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ قَرَأَ حَمْزَةُ: {يُمَيِّزَ} بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنَ التَّمْيِيزِ، وَالْبَاقُونَ بِتَخْفِيفِهَا مِنْ مَازَ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: كَانَ الْكَلَامُ مُسْتَرْسِلًا فِي بَيَانِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ، وَمَا بَعْدَهَا، وَجَاءَ فِي السِّيَاقِ بَيَانُ حَالِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُمْ، وَضَعْفُهُمْ، وَبَيَانُ حَالِ الْمُجَاهِدِينَ، وَالشُّهَدَاءِ وَمَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ، وَحَالِ الْكُفَّارِ الْمُهَدِّدِينَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَكَوْنُ الْإِمْلَاءِ لَهُمْ، وَاسْتِدْرَاجُهُمْ بِطُولِ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ خَيْرًا لَهُمْ، وَقَدْ كَانَتْ وَقْعَةُ أُحُدٍ أَشَدَّ وَقْعَةٍ أَحَسَّ الْمُسْلِمُونَ عَقِبَهَا بِأَلَمِ الْغَلَبِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَتَوَقَّعُونَهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ بَوَادِرِ النَّصْرِ فِي بَدْرٍ، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ فِيهَا حَالُ الْمُنَافِقِينَ، وَتَبَيَّنَ ضَعْفُ نُفُوسِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ عِنَايَةُ اللهِ تعالى بِبَيَانِ فَوَائِدِ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا عَظِيمَةً. وَمِنْهَا خَتْمُهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِسُنَّةٍ مِنَ السُّنَنِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي سِيَاقِ تِلْكَ الْآيَاتِ الْحَكِيمَةِ، وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ اللهِ تعالى، وَلَا مِنْ سُنَّتِهِ فِي عِبَادِهِ أَنْ يَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مِثْلِ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ حُدُوثِ غَزْوَةِ أُحُدٍ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. وَكَيْفَ كَانُوا؟
كَانُوا يُصَلُّونَ وَيَمْتَثِلُونَ كُلَّ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْهُ إِرْسَالُ السَّرَايَا الْمُعْتَادِ مِثْلُهَا، وَلَمْ تَكُنْ فِيهَا مَخَاوِفُ كَبِيرَةٌ عَلَى الإسلام وَأَهْلِهِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ فِيهَا الصَّادِقُ بِالْمُنَافِقِ بِلَا تَمْيِيزٍ؛ إِذِ التَّمَايُزُ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالشَّدَائِدِ، أَمَّا الرَّخَاءُ، وَالْيُسْرُ، وَتَكْلِيفُ مَا لَا مَشَقَّةَ فِيهِ- كَالصَّلَاةِ، وَالصَّدَقَةِ الْقَلِيلَةِ- فَكَانَ يَقْبَلُهُ الْمُنَافِقُونَ كَالصَّادِقِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ حُسْنِ الْأُحْدُوثَةِ مَعَ التَّمَتُّعِ بِمَزَايَا الإسلام، وَفَوَائِدِهِ، وَرُبَّمَا خَدَعَ الشَّيْطَانُ الْمُؤْمِنَ الْمُوقِنَ بِتَرْغِيبِهِ فِي الزِّيَادَةِ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ السَّهْلَةِ- وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ دَاخِلًا فِي دِينٍ جَدِيدٍ- لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالِاسْتِوَاءُ فِي الظَّاهِرِ مَدْعَاةُ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ.
الشَّدَائِدُ تُمَيِّزُ بَيْنَ الْقَوِيِّ فِي الإيمان وَالضَّعِيفِ فِيهِ، فَهِيَ الَّتِي تَرْفَعُ ضَعِيفَ الْعَزِيمَةِ إِلَى مَرْتَبَةِ قَوِيِّهَا، وَتُزِيلُ الِالْتِبَاسَ بَيْنَ الصَّادِقِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَفِي ذَلِكَ فَوَائِدُ كَبِيرَةٌ:
مِنْهَا أَنَّ الصَّادِقَ قَدْ يُفْضِي بِبَعْضِ أَسْرَارِ الْمِلَّةِ إِلَى الْمُنَافِقِ لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ وَالِانْخِدَاعِ بِأَدَاءِ الْمُنَافِقِ لِلْوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ، وَمُشَارَكَتِهِ لِلصَّادِقِينَ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ، فَإِذَا عَرَفَهُ اتَّقَى ذَلِكَ، وَمِنْهَا أَنْ تَعْرِفَ الْجَمَاعَةُ وَزْنَ قُوَّتِهَا الْحَقِيقِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِانْكِشَافِ حَالِ الْمُنَافِقِينَ لَهَا تَعْرِفُ أَنَّهُمْ عَلَيْهَا لَا لَهَا، وَبِانْكِشَافِ حَالِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَمْ تُرَبِّهِمُ الشِّدَّةُ تَعْرِفُ أَنَّهُمْ لَا عَلَيْهَا وَلَا لَهَا. هَذَا بَعْضُ مَا تَكْشِفُهُ الشِّدَّةُ لِلْجَمَاعَةِ مِنْ ضَرَرِ الِالْتِبَاسِ، وَأَمَّا الْأَفْرَادُ فَإِنَّهَا تَكْشِفُ لَهُمْ حُجُبَ الْغُرُورِ بِأَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الصَّادِقَ قَدْ يَغْتَرُّ بِنَفْسِهِ فَلَا يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنَ الضَّعْفِ فِي الِاعْتِقَادِ، وَالْأَخْلَاقِ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَخْفَى مَكَانُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى تُظْهِرَهُ الشَّدَائِدُ.
فَلَمَّا كَانَ هَذَا اللَّبْسُ ضَارًّا بِالْأَفْرَادِ وَالْجَمَاعَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِ اللهِ وَلَا مِنْ حِكْمَتِهِ أَنْ يَسْتَبْقِيَ فِي عِبَادِهِ مَا يَضُرُّهُمْ مَضَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، فَتَظْهَرَ الْخَفَايَا، وَتُبْلَى السَّرَائِرُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الِالْتِبَاسُ، وَيَتَّضِحَ الْمَنْهَجُ السَّوِيُّ لِلنَّاسِ.
قَدْ يَخْطُرُ فِي الْبَالِ أَنَّ أَقْرَبَ وَسِيلَةٍ لِرَفْعِ اللَّبْسِ هِيَ أَنْ يُطْلِعَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْغَيْبِ فَيَعْرِفُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَحَقَائِقَ النَّاسِ الَّذِينَ يَعِيشُونَ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّ اللهَ تعالى أَخْبَرَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ شَأْنِهِ، وَلَا مَنْ سُنَنِهِ، كَمَا أَنَّ تَرْكَ الِالْتِبَاسِ وَالِاشْتِبَاهِ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ، فَقَالَ: وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِ إِطْلَاعُ النَّاسِ عَلَى الْغَيْبِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَأَخْرَجَ بِهِ الْإِنْسَانَ عَنْ كَوْنِهِ إِنْسَانًا، فَإِنَّهُ تعالى خَلَقَ الْإِنْسَانَ نَوْعًا عَامِلًا يُحَصِّلُ جَمِيعَ رَغَائِبِهِ، وَيَدْفَعُ جَمِيعَ مَكَارِهِهِ بِالْعَمَلِ الْكَسْبِيِّ الَّذِي تُرْشِدُهُ إِلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَهَدْيُ النُّبُوَّةِ؛ وَلِذَلِكَ جَرَتْ سُنَّتُهُ بِأَنْ يُزِيلَ هَذَا اللَّبْسَ وَيَمِيزَ بَيْنَ الْخَبِيثِ وَالطَّيِّبِ بِالشَّدَائِدِ، وَمَا تَتَقَاضَاهُ مِنْ بَذْلِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَرْوَاحِ فِي سَبِيلِهِ الَّتِي هِيَ سَبِيلُ الْحَقِّ، وَالْخَيْرِ لَا سَبِيلَ الْهَوَى، كَمَا ابْتَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي وَقْعِهِ أُحُدٍ بِجَيْشٍ عَظِيمٍ، وَابْتَلَاهُمْ بِاخْتِيَارِ الْخُرُوجِ لِمُحَارَبَتِهِ، وَابْتَلَى الرُّمَاةَ مِنْهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ، وَإِخْلَاءِ ظُهُورِ قَوْمِهِمْ لِعَدُوِّهِمْ، ثُمَّ ابْتَلَاهُمُ بِظُهُورِ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ جَزَاءً عَلَى مَا ذَكَرَ حَتَّى ظَهَرَ نِفَاقُ الْمُنَافِقِينَ، وَزِلْزَالُ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ، وَثَبَاتُ كَمَلَةِ الْمُوقِنِينَ.
وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ أَيْ يَصْطَفِيهِمْ فَيُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ مِنَ الْغَيْبِ، وَهُوَ مَا فِي تَبْلِيغِهِ لِلنَّاسِ مَصْلَحَةٌ، وَمَنْفَعَةٌ لَهُمْ فِي الإيمان كَصِفَاتِ اللهِ تعالى وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَبَعْضِ شُئُونِهِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا هُوَ الْغَيْبُ الَّذِي أُمِرَ الْمُكَلَّفُونَ بالإيمان بِهِ، وَمُدِحُوا عَلَيْهِ فِي مِثْلِ قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [2: 1- 3] أَقُولُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْمُرَادِ أَنَّ مَنْ يَجْتَبِيهِمْ مِنْ رُسُلِهِ يُطْلِعُهُمْ عَلَى مَا شَاءَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ لِعِبَادِهِ مَنْ خَبَرِ الْغَيْبِ هُوَ قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} [72: 26- 28] وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قوله تعالى فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ مُتَضَمِّنًا لِلْإِيمَانِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ رُسُلُهُ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ أَيْ إِنْ أَنْتُمْ آمَنْتُمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ، وَقَرَنْتُمْ بالإيمان تَقْوَى اللهِ تعالى بِتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ بِقَدْرِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لَا يُقَدَّرُ قَدْرُهُ لَا يُعْرَفُ كُنْهُهُ.
لَزُّ التَّقْوَى هَاهُنَا مَعَ الإيمان فِي قَرَنٍ، وَتَرْتِيبُ الْأَجْرِ عَلَيْهِمَا مَعًا هُوَ الْمُوَافِقُ لِلْآيِ الْكَثِيرَةِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَهِيَ أَظْهَرُ، وَأَشْهَرُ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا بِالشَّوَاهِدِ كُلَّمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا.
وَقَدْ ذَهَبَ وَهْمُ بَعْضِ النَّاسِ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ اجْتَبَاهُمُ اللهُ مِنْ رُسُلِهِ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كُلَّهُ، وَاسْتَثْنَى بَعْضُهُمْ عِلْمَ السَّاعَةِ لِكَثْرَةِ مَا وَرَدَ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي عِلْمَهَا عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ اللهَ تعالى أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ السَّاعَةِ قَبْلَ وَفَاتِهِ. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللهِ تعالى وَالْقَوْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} [6: 50] هَذَا مَا أَمَرَ اللهُ خَاتَمَ رُسُلِهِ أَنْ يُبَلِّغَهُ خَلْقَهُ، وَهُوَ مَا أَمَرَ بِهِ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، كَمَا قَالَ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ- عَلَى نَبِيِّنَا، وَعَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [11: 31] فَهُمْ كَانُوا يَنْفُونَ أن يكونوا مُتَصَرِّفِينَ فِي خَزَائِنِ اللهِ بِالْإِعْطَاءِ، وَالْمَنْعِ، وَأن يكونوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَأن يكونوا مَلَائِكَةً، أَيْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبَشَرِ. وَأَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَدِلَّ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَتِهِ الْغَيْبَ بِقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [7: 188]، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إلا هو} [6: 59].