فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وعطف قوله: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} على مجرور الباء، ليكون لهذا العذاب سببان: ما قدّمتْه أيديهم، وعَدْل الله تعالى، فما قدّمت أيديهم أوجب حصول العذاب، وعدْل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدّة حتّى لا يظنّوا أن في شدّته إفراطًا عليهم في التعذيب. اهـ.

.قال الألوسي:

{ذلك} إشارة إلى العذاب المحقق المنزل منزلة المحسوس المشاهد، وللإشارة إلى عظم شأنه وبعد منزلته في الهول والفظاعة أتى باسم الإشارة مقرونًا باللام والكاف وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} أي بسبب أعمالكم التي قدمتموها كقتل الأنبياء وهذا القول الذي تكاد السموات يتفطرن منه، والمراد من الأيدي الأنفس والتعبير بها عنها من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جل العمل عليه، يجوز أن لا يتجوز في الأيدي بل يجعل تقديمها الذي هو عملها عبارة عن جميع الأعمال التي أكثرها أو الكثير منها يزاول باليد على طريق التغليب.
{وَأَنَّ الله لَيْسَ بظلام لّلْعَبِيدِ} عطف على ما {قَدَّمْتُ} فهو داخل تحت حكم باء السببية وسببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء وإليه ذهب الفحول من المفسرين وتعقبه مولانا شيخ الإسلام بقوله: وفساده ظاهر فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعًا ولا عقلًا حتى ينتهض نفي الظلم سببًا للتعذيب.
وخلاصته المعارضة بطريق القياس الاستثنائي بأنه لو كان ترك التعذيب ظلمًا لكان نفي الظلم سببًا للتعذيب لكن ترك التعذيب ليس بظلم فنفي الظلم لا يكون سببًا له، وأجيب بأن منشأ هذا الاعتراض عدم الفرق بين السبب والعلم الموجبة، والفرق مثل الصبح ظاهر فإن السبب وسيلة محضة لا يوجب حصول المسبب كما أن القلم سبب الكتابة غير موجب إياها، والعدل اللازم من نفي الظلم سبب لعذاب المستحق وإن لم يوجبه.
فالاستدلال بعدم الإيجاب على عدم السببية فاسد جدًا، وأما قولهم في العدل المقتضي الخ فهو بيان لمقتضاه إذا خلى وطبعه، وتقرير لكونه وسيلة ولا يلزم منه إيجاب الاثابة والمعاقبة على ما ينبئ عنه قوله سبحانه في الحديث القدسي: «سبقت رحمتي غضبي»، وخلاصة هذا أن الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي ممنوعة بأنه لم لا يجوز أن لا يكون ترك التعذيب ظلمًا ويكون نفي الظلم سببًا بأن يكون السبب سببًا غير موجب ولا محذور حينئذ.
لا يقال يحتمل أن يكون مبنى ذلك الاعتراض على المفهوم المعتبر عند الشافعي لا على كون السبب موجبًا لأنا نقول: إن أريد بالمفهوم مفهوم قوله سبحانه: {وَأَنَّ الله} الخ فنقول: حاصله أن العدل سبب لعذاب المستحقين، والمفهوم منه أن العدل لا يكون سببًا لعذاب غير المستحقين وهو معنى متفق عليه لا نزاع فيه، وإن أريد أن المفهوم من قولنا سبب تعذيبهم كونه تعالى غير ظالم أنه تعالى لو لم يعذبهم لكان ظالمًا فنقول هو مع بعده عن سياق كلام المعترض من قبيل الاستدلال بانتفاء السبب على انتفاء المسبب فيكون مبنيًا على كون المراد بالسبب السبب الموجب كما قلنا ويرد عليه ما أوردناه ولا يكون من باب المفهوم في شيء وإن أريد غير هذا وذاك فليبين حتى نتكلم عليه، ومن الناس من دفع الاعتراض بأن حاصل معنى الآية وقع العذاب عليكم ولم يترك بسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد وهو بمنطوقه يدل على أن نفي الظلم لا يكون سببًا لترك التعذيب من مستحقه ولا يدل على كون الظلم سببًا لترك التعذيب بل له سبب آخر وهو لطفه تعالى فلا يرد الاعتراض، وأنت تعلم بأن هذا ذهول عن مقصود المعترض أيضا فإنّ دلالة الكلام على كون الظلم سببًا لترك التعذيب وعدمها خارج عن مطمح نظره على ما عرفت من تقرير كلامه على أنه إذا كان المراد بالسبب السبب الموجب على ما هو مبنى كلام ذلك المولى فدلالته عليه ظاهرة فإن وجود السبب الموجب كما يكون سببًا لوجود المسبب يكون عدمه سببًا لعدمه كما في طلوع الشمس ووجود النهار فالعدل أعني نفي الظلم إذا كان سببًا لتعذيب المستحق يكون عدمه أعني الظلم سببًا لعدم التعذيب، وقيل: أنه عطف على ما قدمت للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيِّدة بانتفاء ظلمه تعالى إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم.
وتعقبه أيضا مولانا شيخ الإسلام بقوله: وأنت خبير بأن إمكان تعذيبه تعالى لعبيده بغير ذنب بل وقوعه لا ينافي كون تعذيب هؤلاء الكفرة بسبب ذنوبهم حتى يحتاج إلى اعتبار عدمه معه، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي أن جميع تعذيباته تعالى بسبب ذنوب المعذبين انتهى، ولا يخفى عليك أن أن لا يعذبهم بذنوبهم في كلام القيل معطوف على قوله: أن يعذبهم، والمعنى أن ذكر هذا القيد رفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لاحتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن شرعًا وعقلًا.
وقوله: للدلالة على أن سببية ذنوبهم لعذابهم مقيدة الخ أراد به أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبه بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب فيكون حاصل معنى الآية إن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر، فإذا علمت هذا ظهر لك أن تزييف المولى كلام صاحب القيل بأن إمكان تعذيبه تعالى الخ ناشئ عن الغفلة عن مراده، فإن كلامه ليس في منافاة هذين الأمرين بحسب ذاتهما بل في منافاة احتمال التعذيب بلا ذنب لتعين سببية الذنوب له وكذا قوله عقيب ذلك، وإنما يحتاج إلى ذلك إن كان المدعي الخ ناشئ عن الغفلة أيضا لأن الاحتياج إلى ذلك القيد في كل من الصورتين إنما هو لتقريع المخاطبين وتبكيتهم في الاعتراف بتقصيراتهم بأنه لا سبب للعذاب إلا من قبلهم.
فالقول بالاحتياج في صورة وعدمه في صورة ركيك جدًا، ثم أنه لا تدافع بين هذا القيل وبين ما نقل أولًا عن فحول المفسرين حيث جعل المعطوف هناك سببًا وهاهنا قيدًا للسبب لأن المراد بالسبب الوسيلة المحضة كما أشرنا إليه فيما سبق فهو وسيلة سواء اعتبر سببًا مستقلًا أو قيدًا للسبب، نعم بينهما على ما سيأتي إن شاء الله تعالى تدافع يتراءى من وجه آخر لكنه أيضا غير وارد كما سنحققه بحوله تعالى.
والحاصل أن العطف هنا مما لا بأس به وهو الظاهر وإليه ذهب من ذهب ويجوز أن يجعل وإليه ذهب شيخ الإسلام أن وما بعدها في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلًا عن كونه ظالمًا بالغًا لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها مع أن الأعمال غير موجبة للثواب حتى يلزم من تخلفه عنها إضاعتها، وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم، ومن هنا يعلم الجواب عما قيل: إن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته ونفي الكثرة لا ينفي أصله بل ربما يشعر بوجوده، وأجيب عن ذلك أيضا بأنه نفي لأصل الظلم وكثرته باعتبار آحاد من ظلم فالمبالغة في ظلام باعتبار الكمية لا الكيفية، وبأنه إذا انتفى الظلم الكثير انتفى القليل لأن من يظلم يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره مع زيادته نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركًا، وبأن ظلام للنسب كعطار أي لا ينسب إليه الظلم أصلًا وبأن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب فلو كان تعالى ظالمًا سبحانه لكان ظلامًا فنفى اللازم لنفي الملزوم، واعترض بأنه لا يلزم من كون صفاته تعالى في أقصى مراتب الكمال كون المفروض ثبوته كذلك بل الأصل في صفات النقص على تقدير ثبوتها أن تكون ناقصة، وأجيب بأنه إذا فرض ثبوت صفة له تعالى تفرض بما يلزمها من الكمال، والقول بأن هذا في صفات الكمال دون صفات النقص إنما يوجب عدم ثبوتها لا ثبوتها ناقصة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام في هذا المقام. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن ذكر الأيدي على سبيل المجاز، لأن الفاعل هو الإنسأن لا اليد، إلا أن اليد لما كانت آلة الفعل حسن إسناد الفعل اليها على سبيل المجاز، ثم في هذه الآية ذكر اليد بلفظ الجمع فقال: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وفي آية أخرى ذكر بلفظ التثنية فقال: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] والكل حسن متعارف في اللغة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {ذلك بما قدمت أيديكم} توبيخ وتوقيف داخل فيما يقال لهم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون خطابًا لمعاصري النبي عليه السلام يوم نزول الآية، ونسب هذا التقديم إلى اليد إذ هي الكاسبة للأعمال في غالب أمر الإنسان، فأضيف كل كسب إليها، ثم بين تعالى: أنه يفعل هذا بعدل منه فيهم ووضع الشيء موضعه، والتقدير: وبأن الله {ليس بظلام للعبيد} وجمع عبدًا في هذه الآية على عبيد، لأنه مكان تشفيق وتنجية من ظلم. اهـ.

.سؤال وجواب:

فإن قيل: كيف قال: {وأن الله ليس بظلام للعبيد} و{ظلام} صيغة مبالغة من الظلم. ولا يلزم من نفى الظلام نفى الظالم؛ وعلى العكس يلزم. فهلا قيل: ليس بظالم ليكون أبلغ في نفى الظلم عن ذاته المقدسة؟
قلنا: صيغة المبالغة جئ بها لكثرة العبيد لا لكثرة الظلم، كما في قوله تعالى: {ولا يظلم ربك أحدا} وقال: {علام الغيب} و{علام الغيوب} لما أفرد المفعول لم يأت بصيغة المبالغة، ولما جمعه أتى بصيغة المبالغة.
ونظيره قولهم: زيد ظالم لعبده، وعمرو ظلام لعبيده؛ فهما في الظلم سيان. وكذا قوله تعالى: {محلقين رؤوسكم}، فشدد لكثرة الفاعلين لا لتكرر الفعل.
الثانى: أن العذاب من العظيم القدر وكثير العدل لولا سبق الجناية يكون أفحش وأقبح من الظلم ممن ليس عظيم القدر كثير العدل. فيطلق عليه اسم الظلام باعتبار زيادة قبح الفعل منه لا باعتبار تكرره.
فحاصله زيادة صيغته. فأصل الظلم- لو وجد من الله تعالى وتقدس- لكان أعظم من ألف ظلم يوجد من عبيده باعتبار زيادة وصف القبح. اهـ.
نظيره قوله تعالى: {وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا}.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {قالوا إِنَّ} العامل في إنَّ هو قاَلُوا ف إنَّ وما في حيِّزها منصوب المحل بـ {قَالُوا} لا بالقول، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني بين المصدر، وهو قَوْلَ وبين الفعلِ وهو قَالُوا تَنَازعَا في إنَّ لأنه مصدر، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول، وهو قولٌ ضعيفٌ، ويزداد هنا ضَعفًا بأنَّ الثاني فِعْل، والأول مصدرٌ، وإعمال الفعل أَقْوَى.
وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع، و'نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده، لكنه منع من ذلك مانع آخر، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه، ولا يجوز حذفه، وهو- هنا- غير مذكور، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين، وهو ضعيفٌ كما ذكر.
وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه تعالى وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف.
قوله: {سَنَكْتُبُ} قرأ حمزة بالياء، مبنيًا لما لم يُسَمَّ فاعله، وما وصلتها قائم مقام الفاعل، و{قَتْلُهم}- بالرفع- عَطْفًا على الموصول، و{يَقُولُ}- بياء الغيبة- والمعنى: سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف ما منصوبة المحل، و{قَتْلَهُمْ} بالنصب عَطْفًا عليها، و{نَقُولُ} بالنون- والمعنى: سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ.
وقرأ طلحة بن مُصَرِّف {سَتُكْتَبُ}- بتاء التأنيث- على تأويل {مَا قَالُوا} بمَقَالَتُهُمْ. وقرأ ابن مسعود- وكذلك هي في مصحفه- {سنكتب ما يقولون} ويقال. والحسنُ والعرج {سَيَكْتُب}- بالغيبة- مبنيًا للفاعل، أي: الله تعالى: أو الملك.
وما- في جميع ذلك- يجوز أن تكون موصولة اسمية- وهو الظاهر- وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ، تقديره: سنكتب الذي يقولونه- ويجوز أن تكون مصدرية، أي: قولهم- ويراد به- إذ ذاك- المفعول به، أي: مقولتهم، كقولهم: ضَرْب الأمير.
قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} مبتدأ وخبر، تقديره: ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. وما يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و{ذلك} إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ:
أحدهما: أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفًا على {ذُوقُوا} كأنه قيل: ونقول لهم- أيضا- ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب.
الثاني: أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطابًا لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ: وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} [القصص: 4] وأصل أيْدِيكُمْ أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها.
قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} عطف على ما المجرورة بالباء، أي: ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم.
فإن قيل: إن ظلامًا صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من ظالم، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت: زيد ليس بظلامٍ، أي: ليس كثير الظُّلم- مع جواز أن يكون ظالمًا وإذا قُلْتَ: ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ}؟ فالجوابُ من وجوهٍ:
الأول: أن فَعَّالًا قد لا يُراد به التكثير، كقول طرَفة: [الطويل]
وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ** وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ

لا يريد- هنا- أنه قد يحل التلاع قليلًا؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ، وأيضا تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلًا بالعباد- وهم كثيرون- ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ.
الثالث: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر- كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الرابع: أن يكون على النسب، أي: لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل: ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء.
وقال القاضي أبو بكرٍ: العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْمًا لكان عظيمًا، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتًا.
وقال الراغبُ: العبيد- إذا أُضيف إلى الله تعالى- أعم من العباد، ولهذا قال: {وَمَا أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك.
وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين عبيد وعباد فقال: وجمع العَبْد- الذي هو مسترق- عبيد وقيل: عِبِدَّى وجمع العبَدْ- الذي هو العابد- عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة ق. اهـ. بتصرف.