فصل: من فوائد الزمخشري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات السابقة:

.[سورة آل عمران: الآيات 169- 171]

{وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)}.
{وَلا تَحْسَبَنَّ} الخطاب لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أو لكل أحد. وقرئ بالياء على:
ولا يحسبنّ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، أو ولا يحسبنّ حاسب. ويجوز أن يكون {الَّذِينَ قُتِلُوا} فاعلا، ويكون التقدير: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أي ولا يحسبنّ الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأوّل؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: {أَحْياءٌ} والمعنى: هم أحياء لدلالة الكلام عليهما. وقرئ: ولا تحسبنّ بفتح السين، وقتلوا بالتشديد. وأحياء بالنصب على معنى: بل احسبهم أحياء {عِنْدَ رَبِّهِمْ} مقرّبون عنده ذوو زلفى، كقوله: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}. {يُرْزَقُونَ} مثل ما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون. وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق اللَّه {فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضيل على غيرهم، من كونهم أحياء مقرّبين معجلا لهم رزق الجنة ونعيمها. وعن النبي صلى اللَّه عليه.
وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللَّه أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش» {وَيَسْتَبْشِرُونَ} بإخوانهم المجاهدين {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} أي لم يقتلوا فيلحقوا بهم {مِنْ خَلْفِهِمْ} يريد الذين من خلفهم قد بقوا بعدهم وهم قد تقدموهم. وقيل: لم يلحقوا بهم، لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بدل من الذين. والمعنى: ويستبشرون بما تبين لهم من حال من تركوا خلفهم من المؤمنين، وهو أنهم يبعثون آمنين يوم القيامة. بشرهم اللَّه بذلك فهم مستبشرون به. وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة، والجد في الجهاد، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيتمنى مثله لإخوانه في اللَّه، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب. وكرّر {يَسْتَبْشِرُونَ} ليعلق به ما هو بيان لقوله: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} من ذكر النعمة والفضل، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل اللَّه وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع. وقرئ {وَأَنَّ اللَّهَ} بالفتح عطفًا على النعمة والفضل. وبالكسر على الابتداء وعلى أنّ الجملة اعتراض، وهي قراءة الكسائي. وتعضدها قراءة عبد اللَّه. واللَّه لا يضيع.

.[سورة آل عمران: الآيات 172- 174]

{الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيمانًا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}
الَّذِينَ اسْتَجابُوا مبتدأ خبره {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} أو صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح.
روى أنّ أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وهموا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلب أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس فخرج رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مع جماعة حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثمانية أميال، وكان بأصحابه القرح فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى اللَّه الرعب في قلوب المشركين فذهبوا، فنزلت. و«من» في لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين مثلها في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} لأنّ الذين استجابوا للَّه والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا، لا بعضهم. وعن عروة بن الزبير: قالت لي عائشة رضى اللَّه عنها «إن أبويك لمن الذين استجابوا للَّه والرسول» تعنى أبا بكر والزبير الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ روى أنّ أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد. يا محمد موعدنا موسم بدر لقابل إن شئت، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: إن شاء اللَّه فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران. فألقى اللَّه الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعى وقد قدم معتمرًا فقال: يا نعيم، إني واعدت محمدًا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جراءة، فالحق بالمدينة فثبطهم ولك عندي عشر من الإبل، فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأى. أتوكم في دياركم وقراركم فلم يفلت منكم أحد إلا شريدًا، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم، فو اللَّه لا يفلت منكم أحد. وقيل: مرّ بأبى سفيان ركب من عبد القبس يريدون المدينة للميرة فجعل لهم حمل بعير من زبيب إن ثبطوهم، فكره المسلمون الخروج.
فقال صلى اللَّه عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجن ولو لم يخرج معى أحد، فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل- وقيل: هي الكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار- حتى وافوا بدرًا وأقاموا بها ثماني ليال، وكانت معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرًا، ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق. قالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق. فالناس الأوّلون: المثبطون.
والآخرون: أبو سفيان وأصحابه. فإن قلت: كيف قيل (النَّاسُ) إن كان نعيم هو المثبط وحده؟
قلت: قيل ذلك لأنه من جنس الناس، كما يقال: فلان يركب الخيل ويلبس البرود، وماله إلا فرس واحد وبرد فرد. أو لأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامونه، ويصلون جناح كلامه، ويثبطون مثل تثبيطه. فإن قلت: إلام يرجع المستكن في فَزادَهُمْ؟ قلت: إلى المقول الذي هو {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيمانا، أو إلى مصدر قالوا، كقولك: من صدق كان خيرًا له. أو إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده.
فإن قلت: كيف زادهم نعيم أو مقوله إيمانا؟ قلت: لما لم يسمعوا قوله وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد وأظهروا حمية الإسلام، كان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم، كما يزداد الإيقان بتناصر الحجج ولأنّ خروجهم على أثر تثبيطه إلى وجهة العدو طاعة عظيمة، والطاعات من جملة الإيمان لانّ الإيمان اعتقاد وإقرار وعمل. وعن ابن عمر: قلنا يا رسول اللَّه إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال: «نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة. وينقص حتى يدخل صاحبه النار» وعن عمر رضى اللَّه عنه: أنه كان يأخذ بيد الرجل فيقول: قم بنا نزدد إيمانا. وعنه: لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان هذه الأمّة لرجح به حَسْبُنَا اللَّهُ محسبنا، أي كافينا. يقال: أحسبه الشيء إذا كفاه. والدليل على أنه بمعنى المحسب أنك تقول: هذا رجل حسبك، فتصف به النكرة لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقة وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ونعم الموكول إليه هو فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي السلامة وحذر العدوّ منهم وَفَضْلٍ وهو الربح في التجارة، كقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يلقوا ما يسوءهم من كيد عدوّ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ بجرأتهم وخروجهم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. وفي ذلك تحسير لمن تخلف عنهم، وإظهار لخطأ رأيهم حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء. وروى أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا، فأعطاهم اللَّه ثواب الغزو ورضى عنهم.

.[سورة آل عمران: آية 175]

{إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)}
الشَّيْطانُ خبر ذلكم، بمعنى: إنما ذلك المثبط هو الشيطان. ويخوّف أولياءه: جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو الشيطان صفة لاسم الإشارة. ويخوّف الخبر. والمراد بالشيطان نعيم، أو أبو سفيان. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، بمعنى إنما ذلكم قول الشيطان، أي قول إبليس لعنه اللَّه يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يخوّفكم أولياءه الذين هم أبو سفيان وأصحابه. وتدل عليه قراءة ابن عباس وابن مسعود: يخوفكم أولياءه. وقوله: {فلا تخافوهم}. وقيل: يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فإن قلت: فإلام رجع الضمير في فَلا تَخافُوهُمْ على هذا التفسير؟ قلت: إلى الناس في قوله: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} {فلا تخافوهم} فتقعدوا عن القتال وتجبنوا {وَخافُونِ} فجاهدوا مع رسولي وسارعوا إلى ما يأمركم به {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعنى أنّ الإيمان يقتضى أن تؤثروا خوف اللَّه على خوف الناس {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}.

.[سورة آل عمران: الآيات 176- 178]

{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)}
يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون فيه سريعًا ويرغبون فيه أشدّ رغبة، وهم الذين نافقوا من المتخلفين. وقيل: هم قوم ارتدّوا عن الإسلام. فإن قلت: فما معنى قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ}؟ ومن حق الرسول أن يحزن لنفاق من نافق وارتداد من ارتدّ؟ قلت: معناه: لا يحزنوك لخوف أن أن يضرّوك ويعينوا عليك. ألا ترى إلى قوله إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يعنى أنهم لا يضرون بمسارعتهم في الكفر غير أنفسهم، وما وبال ذلك عائدًا على غيرهم. ثم بين كيف يعود وباله عليهم بقوله يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ أي نصيبًا من الثواب وَلَهُمْ بدل الثواب عَذابٌ عَظِيمٌ وذلك أبلغ ما ضرّ به الإنسان نفسه. فإن قلت: هلا قيل: لا يجعل اللَّه لهم حظًا في الآخرة، وأىّ فائدة في ذكر الإرادة؟ قلت: فائدته الإشعار بأنّ الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصًا لم يبق معه صارف قط حين سارعوا في الكفر، تنبيهًا على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه، حتى أنّ أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بالإيمان.
إمّا أن يكون تكريرًا لذكرهم للتأكيد والتسجيل عليهم بما أضاف إليهم. وإمّا أن يكون عاما للكفار، والأوّل خاصًا فيمن نافق من المتخلفين، أو ارتدّ عن الإسلام أو على العكس. وشَيْئًا نصب على المصدر لأن المعنى: شيئا من الضرر وبعض الضرر الَّذِينَ كَفَرُوا فيمن قرأ بالتاء نصب وأَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ بدل منه: أي ولا تحسبنّ أنّ ما نملي للكافرين خير لهم، و«أن» مع ما في حيزه ينوب عن المفعولين، كقوله: {أم تحسب أنّ أكثرهم يسمعون}، وما مصدرية، بمعنى: ولا تحسبنّ أنّ إملاءنا خير، وكان حقها في قياس علم الخط أن تكتب مفصولة. ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا يخالف، وتتبع سنة الإمام في خط المصاحف. فإن قلت: كيف صحّ مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟
قلت: صحّ ذلك من حيث أنّ التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى: ألا تراك تقول:
جعلت متاعك بعضه فوق بعض، مع امتناع سكوتك على متاعك. ويجوز أن يقدّر مضاف محذوف على: ولا تحسبنّ الذين كفروا أصحاب أن الإملاء خير لأنفسهم. أو ولا تحسبنّ حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. وهو فيمن قرأ بالياء رفع، والفعل متعلق بأن وما في حيزه.
والإملاء لهم: تخليتهم وشأنهم، مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء.
وقيل: هو إمهالهم وإطالة عمرهم. والمعنى: ولا تحسبنّ أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ «ما» هذه حقها أن تكتب متصلة، لأنها كافة دون الأولى، وهذه جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالهم لا يحسبون الإملاء خيرًا لهم، فقيل: إنما نملي لهم ليزدادوا إثما. فإن قلت: كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضًا للَّه تعالى في إملائه لهم؟ قلت: هو علة للإملاء، وما كل علة بغرض. ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك. وإنما هي علل وأسباب، فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإمهال وسببًا فيه. فإن قلت: كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء كما كان العجز علة للقعود عن الحرب؟ قلت: لما كان في علم اللَّه المحيط بكل شيء أنهم مزدادون إثما، فكان الإملاء وقع من أجله وبسببه على طريق المجاز. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الأولى وفتح الثانية. ولا يحسبنّ بالياء، على معنى: ولا يحسبنّ الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم كما يفعلون، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان. وقوله: {أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} اعتراض بين الفعل ومعموله. ومعناه: أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام اللَّه عليهم بتفسيح المدّة وترك المعاجلة بالعقوبة. فإن قلت: فما معنى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على هذه القراءة؟ قلت: معناه: ولا تحسبوا إن إملاءنا لزيادة الإثم وللتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثما معدًا لهم عذاب مهين.

.[سورة آل عمران: آية 179]

{ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)}
اللام لتأكيد النفي عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من اختلاط المؤمنين الخلص والمنافقين حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ حتى يعزل المنافق عن المخلص. وقرئ: يميز. من ميز. وفي رواية عن ابن كثير: يميز، من أماز بمعنى ميز. فإن قلت: لمن الخطاب في: (أَنْتُمْ)؟ قلت: للمصدّقين جميعًا من أهل الإخلاص والنفاق، كأنه قيل: ما كان اللَّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها- من اختلاط بعضكم ببعض، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم لاتفاقكم على التصديق جميعًا- حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه وإخباره بأحوالكم، ثم قال وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ أي وما كان اللَّه ليؤتى أحدًا منكم علم الغيوب، فلا تتوهموا عند إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع اللَّه فيخبر عن كفرها وإيمانها وَلكِنَّ اللَّهَ يرسل الرسول فيوحى إليه ويخبره بأنّ في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا في قلبه الإخلاص، فيعلم ذلك من جهة إخبار اللَّه لا من جهة اطلاعه على المغيبات. ويجوز أن يراد:
لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللَّه قلوبهم. كبذل الأرواح في الجهاد، وإنفاق الأموال في سبيل اللَّه، فيجعل ذلك عيارًا على عقائدكم وشاهدًا بضمائركم، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها، فإن ذلك مما استأثر اللَّه به.
وما كان اللَّه ليطلع أحدًا منكم على الغيب ومضمرات القلوب حتى يعرف صحيحها من فاسدها مطلعا عليها وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيخبره ببعض المغيبات فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ بأن تقدروه حق قدره، وتعلموه وحده مطلعا على الغيوب، وأن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبادًا مجتبين، لا يعلمون إلا ما علمهم اللَّه، ولا يخبرون إلا بما أخبرهم اللَّه به من الغيوب، وليسوا من علم الغيب في شيء. وعن السدى قال الكافرون: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر. فنزلت.