فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودًا. فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها.. فهم عليها مؤتمنون.
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال. فلا يفرطوا فيها بعد ذلك، مهما تكن الأحوال.
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة. فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة، وتنميها وتجمعها وتوجهها. والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى، لتتأصل جذورها وتتعمق؛ وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة..
وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم؛ وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية. ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها. وحقيقة الجماعات والمجتمعات. وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم، مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس. ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس، ومزالق الطريق، ومسارب الضلال!
ثم لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لابد فيها من خير، ولابد فيها من سر، يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون.. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها.. أفواجًا.. في نهاية المطاف!
إنها سنة الدعوات. وما يصبر على ما فيها من مشقة؛ ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى الله، فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء؛ ولا ييأس من رحمة الله ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد.. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء: {وأن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور}..
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام. وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال. من أهل الكتاب من حولها. ومن المشركين أعدائها.. ولكنها سارت في الطريق. لم تتخاذل، ولم تتراجع ولم تنكص على أعقابها.. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت. وأن توفية الأجور يوم القيامة. وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور.. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف؛ وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو.. والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان. والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان. وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها تتوالى القرون والأجيال؛ وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال.. والقرآن هو القرآن..
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان؛ وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة، ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها.. ولكن القاعدة واحدة: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا}!
ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين؛ وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك. أحيانًا في أصول الدعوة وحقيقتها، وأحيانًا في أصحابها وقيادتها. وهذه الصور تتجدد مع الزمان. وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة، وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية، وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية. فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف الله عنها للجماعة المسلمة الأولى، وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق، وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق..
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدًا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة، وأن تحاول تحقيق منهج الله في الأرض؛ فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة، ووسائل الدعاية الحديثة، لتشويه أهدافها، وتمزيق أوصالها.. يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرًا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة، وطبيعة طريقها. وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق. ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد الله ذاك؛ فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى، وحين تعوي حولها بالدعاية، وحين يصيبها الابتلاء والفتنة.. أنها سائرة في الطريق، وأنها ترى معالم الطريق!
ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي.
تستبشر بهذا كله، لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها الله لها من قبل. وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق. ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى؛ وتمضي في طريقها الموعود، إلى الأمل المنشود.. في صبر وفي تقوى.. وفي عزم أكيد..
ثم يمضي السياق القرآني يفضح موقف أهل الكتاب في مخالفتهم عن عهد الله معهم يوم آتاهم الكتاب. ونبذهم له. وكتمانهم لما ائتمنهم عليه منه، حين يسألون عنه: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينَّنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون}!
وقد تضمن سياق السورة الكثير من أفاعيل أهل الكتاب وأقاويلهم- وبخاصة اليهود- وأبرز هذه الأفاعيل والأقاويل كتمانهم للحق الذي يعلمونه، ولبسه بالباطل، لإحداث البلبلة والاضطراب في مفهوم الدين، وفي صحة الإسلام، وفي وحدة الأسس والمبادئ بينه وبين الأديان قبله، وفي تصديقه لها وتصديقها له.. وكانت التوراة بين أيديهم يعلمون منها أن ما جاء به محمد حق؛ وأنه من ذات المصدر الذي جاءتهم منه التوارة..
فالآن يبدو هذا الموقف منهم بشعًا غاية البشاعة؛ حين ينكشف أيضا أن الله سبحانه قد أخذ عليهم العهد- وهو يعطيهم الكتاب- أن يبينوه للناس، ويبلغوه، ولا يكتموه أو يخفوه. وأنهم نبذوا هذا العهد مع الله- والتعبير يجسم إهمالهم وإخلافهم للعهد؛ فيمثله في حركة: {فنبذوه وراء ظهورهم}!
وأنهم فعلوا هذه الفعلة الفاضحة، ابتغاء ثمن قليل: {واشتروا به ثمنًا قليلًا}.
هو عرض من أعراض هذه الأرض، ومصلحة شخصية للأحبار أو قومية لليهود! وكله ثمن قليل، ولو كان ملك الأرض كلها طوال الدهور! فما أقل هذا الثمن ثمنًا لعهد الله! وما أقل هذا المتاع متاعًا حين يقاس بما عند الله!
{فبئس ما يشترون}!
وقد ورد في رواية للبخاري- بإسناده- عن ابن عباس «أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل اليهود عن شيء، فكتموه إياه، وأخبروه بغيره، فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه». وأنه في هذا نزلت آية: {ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}..
وفي رواية أخرى للبخاري- بإسناده- عن أبي سعيد الخدري، أن رجالًا من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو وتخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا.
فنزلت: {ولا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا...}.
ومسألة نزول آية بعينها في مسألة بعينها ليست قطعية في هذا. فكثيرًا ما يكون الذي وقع هو الاستشهاد بالآية على حادثة بعينها. فيروى أنها نزلت فيها. أو تكون الآية منطبقة على الحادثة فيقال كذلك: إنها نزلت فيها.. ومن ثم لا نجزم في الروايتين بقول.
فأما إذا كانت الأولى، فهناك مناسبة في السياق عن أهل الكتاب، وكتمانهم لما ائتمنهم الله عليه من الكتاب ليبيننه للناس ولا يكتمونه. ثم هم يكتمونه. ويقولون غير الحق ويمضون في الكذب والخداع، حتى ليطلبوا أن يحمدوا على بيانهم الكاذب وردهم المفتري!
وأما إذا كانت الثانية، ففي سياق السورة حديث عن المنافقين يصلح أن تلحق به هذه الآية. وهي تصور نموذجًا من الناس يوجد على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ويوجد في كل جماعة. نموذج الرجال الذين يعجزون عن احتمال تبعة الرأي، وتكاليف العقيدة، فيقعدون متخلفين عن الكفاح. فإن غُلب المكافحون وهزموا رفعوا هم رؤوسهم وشمخوا بأنوفهم ونسبوا إلى أنفسهم التعقل والحصافة والأناة.. أما إذا انتصر المكافحون وغنموا، فإن أصحابنا هؤلاء يتظاهرون بأنهم كانوا من مؤيدي خطتهم؛ وينتحلون لأنفسهم يدًا في النصر، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا!

إنه نموذج من نماذج البشرية يقتات الجبن والادعاء. نموذج يرسمه التعبير القرآني في لمسة أو لمستين. فإذا ملامحه واضحة للعيان، وسماته خالدة في الزمان.. وتلك طريقة القرآن.
هؤلاء الناس يؤكد الله للرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لا نجاة لهم من العذاب. وأن الذي ينتظرهم عذاب أليم لا مفر لهم منه ولا معين: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم}.
والذي يتوعدهم به هو الله. مالك السماوات والأرض. القادر على كل شيء. فأين المفازة إذن؟ وكيف النجاة؟
{ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}.
الإشارة من هذا الآية هاهنا إلى غناه سبحانه عمَّا في الكون، وكيف يحتاج إليهم؟! ولكنهم لا يجدون عنه خَلَفًا، ولا عليه بَدَلًا. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
إنه سبحانه حكم فيما يملك ولا أحد يستطيع أن يخرج من ملكه، وما دام لله ملك السماوات والأرض، فحين يقول: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فهذا الوعيد سيتحقق؛ لأن أحدًا لا يفلت منه، ولذلك يقول أهل الكشف وأهل اللماحية وأهل الفيض: اجعل طاعتك لمن لا تستغنىعنه، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن ف {وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} تدل على أن الله حين يوعد فهو سبحانه قادر على إنفاذ ما أوعد به، ولن يفلت أحد منه أبدا. وهذه تؤكد المعنى. فإذا ما سُرّ أعداء الدين في فورة توهم الفوز، فالمؤمن يفطن إلى النهاية وماذا ستكون؟ ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى قال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
وهذه السورة قد نزلت في عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه السورة دليلًا من أدلة الإيمان بصدق الرسول في البلاغ عن الله، لأن أبا لهب كان كافرًا، وكان هناك كفرة كثيرون سواه، ألم يكن عمر بن الخطاب منهم؟ ألم يكن خالد بن الوليد منهم؟ ألم يكن عكرمة بن أبي جهل منهم؟ ألم يكن صفوان منهم؟ كل هؤلاء كانوا كفارًا وآمنوا، فمن الذي كان يدري محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن يقول: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} من كان يدري محمدًا بعد أن يقول هذا ويكون قرآنًا يُتلى ويحفظه الكثير من المؤمنين، وبعد ذلك كله من كان يدريه أن أبا لهب يأتي ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وقد يضيف: إن كان محمد يقول: إنني سأصلى نارًا ذات لهب فهأنذا قد آمنت، مَن كان يدريه أنه لن يفعل، مثلما فعل ابن الخطاب، وكما فعل عمرو بن العاص. إن الذي أخبر محمدًا يعلم أن أبا لهب لن يختار الإيمان أبدًا، فيسجلها القرآن على نفسه، وبعد ذلك يموت أبو لهب كافرا.
وكأن الله يريد أن يؤكد هذا فيوضح لك: إياك أن تظن أن ذلك الوعيد يتخلف؛ لأنى أنا أحد صمد، ولا أحد يعارضنى في هذا الحكم؛ لذلك يقول في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2].
فما دام {هو الله أحد} فيكون ما قاله أولًا لن ينقضه إله آخر، وستظل قولته دائمة أبدًا.
إذن فقول الحق سبحانه بعد قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، {وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يوضح لنا أنه قد ضم هذا الوعيد إلى تلك الحقيقة الإيمانية الجديدة: {وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وجاء بالقوسين؛ لأن السماء تُظِل، والأرض تُقِل، فكل منا محصور بين مملوكين لله، وما دام كل منا محصورًا بين مملوكين لله، فأين تذهبون؟ {وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقد يكون هناك المَلِك الذي لا قدرة له أن يحكم، فيوضح سبحانه؛ لا، إن لله المُلْكَ وله القدرة.
{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم يأتي بعد ذلك إلى تصور إيماني آخر ليحققه في النفوس بعد المقدمات التي أثبتت صدق الله فيما قال بواقع الحياة:. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}.
قَالَ الرَّازِيُّ: اعْلَمْ أنه تعالى لَمَّا سَلَّى الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} زَادَ فِي تَسْلِيَتِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْكُفَّارَ بَعْدَ أَنْ آذَوُا الرَّسُولَ، وَالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ فَسَيُؤْذُونَهُمْ أيضا فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ يُمْكِنُهُمْ مِنَ الْإِيذَاءِ بِالنَّفْسِ، وَالْإِيذَاءِ بِالْمَالِ، وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِعْلَامِ أَنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ، وَتَرْكِ الْجَزَعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ نُزُولَ الْبَلَاءِ عَلَيْهِ، فَإِذَا نَزَلَ الْبَلَاءُ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، أَمَّا إِذَا كَانَ عَالِمًا بأنه سَيَنْزِلُ، فَإِذَا نَزَلَ لَمْ يَعْظُمْ وَقْعُهُ عَلَيْهِ.
أَقُولُ: وَعِبَارَةُ الْكَشَّافِ خُوطِبَ الْمُؤْمِنُونَ بِذَلِكَ لِيُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى مَا سَيَلْقَوْنَ مِنَ الْأَذَى، وَالشَّدَائِدِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهَا حَتَّى إِذَا لَقُوهَا وَهُمْ مُسْتَعِدُّونَ لَا يُرْهِقُهُمْ مَا يُرْهِقُ مَنْ تُصِيبُهُ الشِّدَّةُ بَغْتَةً فَيُنْكِرُهَا وَتَشْمَئِزُّ مِنْهَا نَفْسُهُ.
الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ اتِّصَالُ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا مِنْ قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} الْآيَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْبُخْلِ بِالْمَالِ، وَذِكْرَ حَالِ الْيَهُودِ، وَهَذِهِ تُذَكِّرُ الْبَلَاءَ بِالْمَالِ، وَمَا سَيُلَاقِي الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أُولَئِكَ الْيَهُودِ، وَغَيْرِهِمْ، وَيَصِحُّ أن يكون عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مُتَّصِلًا بِمَا هُوَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ وَقْعَةِ أُحُدٍ إِلَى هُنَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الِابْتِلَاءِ فِي الْأَنْفُسِ، وَالْأَمْوَالِ، وَالطَّعْنِ فِي تِلْكَ الْوَقْعَةِ لَيْسَ آخِرَ الِابْتِلَاءِ، بَلْ لابد أَنْ تُبْلَوْا بَعْدَ ذَلِكَ بِكُلِّ هَذِهِ الضُّرُوبِ مِنْهُ وَتَجْرِي فِيكُمْ سُنَّتُهُ تعالى فِي خَلْقِهِ، فَلَا تَظُنُّوا أَنَّكُمْ جَلَسْتُمْ عَلَى عَرْشِ الْعِزَّةِ وَاعْتَصَمْتُمْ بِالْمَنَعَةِ، وَأَمِنْتُمْ حَوَادِثَ الْكَوْنِ؛ فَإِنَّهُ لابد أَنْ يُعَامِلَكُمُ اللهُ تعالى كَمَا يُعَامِلُ الْأُمَمَ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ الْمُبْتَلِي لَا لِيَعْلَمَ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ مِنْ أَمْرِكُمْ فَهُوَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، بَلْ لِيَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ مِنْ بَعْدُ، كَمَا مَازَ الْكَثِيرِينَ فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ.
قَالَ: وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَمْوَالِ يُفَسَّرُ بِفَرْضِ الصَّدَقَاتِ، وَبِالْبَذْلِ فِي سَبِيلِ اللهِ- وَهُوَ كُلُّ مَا يُوصِلُ إِلَى الْخَيْرِ- وَبِالْجَوَائِحِ وَالْآفَاتِ وَهَذَا الْجَمْعُ أَوْلَى مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالْأَوَّلِ، وَبَعْضُهُمْ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِالثَّانِي. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ يَكُونُ بِتَكْلِيفِ بَذْلِهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَبِمَوْتِ مَنْ يُحِبُّ الْإِنْسَانُ مِنَ الأهل وَالْأَصْدِقَاءِ (أَقُولُ: وَكَذَا الِابْتِلَاءُ بِالْمَصَائِبِ الْبَدَنِيَّةِ كَالأمراضِ وَالْجُرُوحِ)، وَالِابْتِلَاءُ بِالتَّكْلِيفِ هُوَ أَهَمُّ الِابْتِلَاءَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تعالى لَمْ يَكْفُلْ لِلْمُسْلِمِينَ الْحِفْظَ، وَالنَّصْرَ، وَالسِّيَادَةَ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا يُكَلِّفُهُمُ الْجَرْيَ عَلَى سُنَّتِهِ تعالى كَغَيْرِهِمْ، فَلابد لَهُمْ مِنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلْمُدَافَعَةِ دَائِمًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي بَذْلَ الْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَمِنْ هُنَا تَعْلَمُ غَلَطَ الَّذِينَ يُفَسِّرُونَ الِابْتِلَاءَ بِالْمَالِ، وَالأمر بِبَذْلِهِ، وَالْجِهَادَ بِهِ كُلَّ ذَلِكَ بِالزَّكَاةِ، وَمَا الزَّكَاةُ إِلَّا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُقُوقِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي الْمَالِ وَهِيَ كَثِيرَةٌ تَشْمَلُ كُلَّ مَا بِهِ صَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَرَفْعُ شَأْنِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ، وَكُلَّ مَا يَدْفَعُ عَنْهَا الْأَعْدَاءَ، وَيَرُدُّ عَنْهَا الْمَكَارِهَ وَالْأَسْوَاءَ، (يَعْنِي كَالْأَعْمَالِ الَّتِي تُعْمَلُ لِلْوِقَايَةِ مِنَ الأمراضِ وَالْأَوْبِئَةِ)، وَمِنْ ذَلِكَ الِابْتِلَاءُ فِي الْمُدَافَعَةِ عَنِ الْحَقِّ سَوَاءٌ كَانَ بِالْمَالِ، أَوْ بِالنَّفْسِ، فَهُوَ يُوَطِّنُ نُفُوسَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ، وَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهَا بِالْمَالِ، وَتَحَمُّلِ الْمَكَارِهِ، وَيُحَذِّرُهُمْ مِنَ الشَّرَهِ، وَالطَّمَعِ فِي الْمَالِ حَتَّى إِذَا طَمِعُوا، أَوْ قَصَّرُوا فِي الِاحْتِيَاطِ- كَمَا وَقَعَ لَهُمْ فِي أُحُدٍ- عَلِمُوا أَنَّهُمْ مَا أُصِيبُوا إِلَّا بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيهِمْ، أَوْ قَصَّرَتْ فِيهِ هِمَمُهُمْ فَلَا يَتَعَلَّلُونَ، وَلَا يَقُولُونَ كَيْفَ أُصِبْنَا وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ؟ وَقَدَّمَ ذِكْرَ الْمَالِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الِاسْتِعْدَادُ لِبَذْلِ النَّفْسِ، فَبَذْلُ الْمَالِ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ بَذْلِ النَّفْسِ، أَوْ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَثِيرًا مَا يَبْذُلُ نَفْسَهُ دِفَاعًا عَنْ مَالِهِ، فَالَّذِينَ قَالُوا إِنَّ الْمَالَ شَقِيقُ الرُّوحِ لَاحَظُوا الْغَالِبَ، وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ عَلَى نَفْسِهِ. عَلِمْنَا أَنَّ فَائِدَةَ الِابْتِلَاءِ هِيَ تَمْيِيزُ الْخَبِيثِ مِنَ الطَّيِّبِ، وَأَمَّا الأخبار بِهِ فَفَائِدَتُهُ التَّعْرِيفُ بِالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ، وَتَهْيِئَةُ الْمُؤْمِنِ لَهَا، وَحَمْلُهُ عَلَى الِاسْتِعْدَادِ لِمُقَاوَمَتِهَا، فَإِنَّ مَنْ تَحْدُثُ لَهُ النِّعْمَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا سَعْيٍ تُرْجَى هِيَ مِنْ وَرَائِهِ تُدْهِشُهُ وَتُبْطِرُهُ، وَرُبَّمَا تُهَيِّجُ عَصَبَهُ فَيَقَعُ فِي دَاءٍ أَوْ يَمُوتُ فَجْأَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ تَقَعُ بِهِ الْمُصِيبَةُ فَجْأَةً عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ يَعْظُمُ عَلَيْهِ الأمر، وَيُحِيطُ بِهِ الْغَمُّ حَتَّى يَقْتُلَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، أَمَّا الْمُسْتَعِدُّ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَلِيعًا قَوِيًّا.