فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فَإِذَا كَانَ الْعَالِمُ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَى الأمراءِ وَالسَّلَاطِينِ، وَيَنَالُ الْحُظْوَةَ عِنْدَهُمْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ، وَلَا بِدِينِهِ- كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ- فَأَصْحَابُ الْجَرَائِدِ أَوْلَى بِعَدَمِ الثِّقَةِ بِأَخْبَارِهِمْ، وَآرَائِهِمْ إِذَا كَانُوا كَذَلِكَ. وَأَنَّى لِلْعَوَامِّ الْمَسَاكِينِ فَهْمُ هَذَا وَإِدْرَاكُ سِرِّهِ وَالْجَهْلُ غَالِبٌ، وَالْغِشُّ رَائِجٌ، وَالنَّاصِحُ الْمُخْلِصُ نَادِرٌ؟ وَقَدْ صَارَتْ حَاجَةُ الْمُلُوكِ وَالأمراءِ الْمُسْتَبِدِّينَ إِلَى حَمْدِ الْجَرَائِدِ تُوَازِي حَاجَتَهُمْ إِلَى حَمْدِ رِجَالِ الدِّينِ فِي غِشِّ الْأُمَّةِ، أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا؛ وَلِذَلِكَ يُغْدِقُونَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ، وَيُقَرِّبُونَهُمْ، وَيُحَلُّونَهُمْ بِالرُّتَبِ، وَشَارَاتِ الشَّرَفِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالْأَوْسِمَةِ، أَوِ النَّيَاشِينِ، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى إِرْضَائِهِمْ كُلُّ مُحِبِّي الشُّهْرَةِ بِالْبَاطِلِ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ، وَالْوُجَهَاءِ.
لَوْلَا أَنَّ حُبَّ الْمَحْمَدَةِ بِالْحَقِّ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ مِنْ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ الَّتِي يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى التَّرْبِيَةِ الْعَالِيَةِ لَمَا قَيَّدَ اللهُ الْوَعِيدَ عَلَى حُبِّ الْحَمْدِ بِقوله: {بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} فَهَذَا الْقَيْدُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الثَّنَاءِ عَلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَلَا مُتَوَعَّدٍ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَلِيقُ بِدِينِ الْفِطْرَةِ، بَلْ جَاءَ فِي الْكِتَابِ الْحَكِيمِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَدْحِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ كَقوله تعالى لِنَبِيِّهِ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [94: 4] وَقَوْلِهِ فِي الْقُرْآنِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [43: 44] نَعَمْ، إِنَّ هُنَاكَ مَرْتَبَةً أَعْلَى مِنْ مَرْتَبَةِ مَنْ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ لِيُحْمَدَ عَلَيْهَا، وَهِيَ مَرْتَبَةُ مَنْ يَعْمَلُهَا حَبًّا بِالْخَيْرِ لِذَاتِهِ، وَتَقْرُّبًا بِهِ إِلَى اللهِ تعالى.
عَلَى أَنَّ الْمَدْحَ بِالْحَقِّ لَا يَخْلُو فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مِنْ ضَرَرٍ فِي الْمَمْدُوحِ كَالْغُرُورِ وَالْعُجْبِ، وَفُتُورِ الْهِمَّةِ عَنِ الثَّبَاتِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي حُمِدَ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالشَّيْخَيْنِ، وَغَيْرِهِمْ قَالَ: إِنَّ رَجُلًا ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَى عَلَيْهِ رَجُلٌ خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْحَكَ- وَفِي رِوَايَةٍ:- وَيْلَكَ- قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ- يَقُولُهُ مَرَّتَيْنِ- إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا لِأَخِيهِ، فَلْيَقُلْ: أَحْسَبُهُ كَذَا وَكَذَا، إِنْ كَانَ يَرَى أنه كَذَلِكَ، وَحَسِيبُهُ اللهُ، وَلَا يُزَكِّي عَلَى اللهِ أَحَدًا وَفِي رِوَايَةٍ عِنْدَ الطَّبَرَانِيِّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ زِيَادَةٌ: وَاللهِ لَوْ سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ نَعَمْ، يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ ذَلِكَ الْمَادِحِ مِمَّا يُسْتَنْكَرُ مِنْ قُبْحِ الْإِطْرَاءِ، وَأن يكون ذَلِكَ الْمَمْدُوحُ بِهَا مِمَّنْ يَعْلَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِعْدَادَهُ لِلْغُرُورِ بِمَا يُقَالُ فِيهِ، فَوَقَائِعُ الْأَحْوَالِ مَوْضِعٌ لِلِاحْتِمَالَاتِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِجْمَالِ كَمَا هُوَ مَشْهُورٌ، وَلَكِنْ قَلَّ مَنْ يَسْلَمُ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِالْمَدْحِ، وَلَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ إِطْرَاءً، وَقَلَّمَا يَكُونُ الْإِطْرَاءُ حَقًّا، وَقَلَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطْرُونَ الْحَقَّ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمُ التُّرَابَ رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ، وَبَعْضُهُمْ، وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ.
ثُمَّ أَعُودُ إِلَى الْمَسْأَلَةِ الأولى، فَأَقُولُ: إِنَّ الْفَرَحَ بِالْعَمَلِ مِنْ شَأْنِ الْمَغْرُورِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا ارْتِيَاحَ نَفْسِ الْعَامِلِ، وَانْبِسَاطَهَا لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي يَرَى أنه مَحْمُودٌ- كَمَا فَهِمَ مَرْوَانُ- وَإِنَّمَا هُوَ فَرَحُ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورُ الَّذِي يَتْبَعُهُ الْخُيَلَاءُ وَالْفَخْرُ- كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ- وَهُوَ مَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فِي فَائِدَةِ الْمَصَائِبِ تُصِيبُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [57: 23] وَمِنْهُ قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [28: 76] وَهَذَا الْإِفْرَاطُ فِي الْفَرَحِ بِالنِّعْمَةِ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الضُّعَفَاءِ يُقَابِلُهُ عِنْدَهُمُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْحُزْنِ فِي الْمُصِيبَةِ إِلَى أَنْ يَقَعَ الْمُصَابُ فِي الْيَأْسِ وَالْكُفْرِ، وَقَدْ بَيَّنَ تعالى حَالَ الْفَرِيقَيْنِ بِقوله: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ أنه لِيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لِيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي أنه لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [11: 9- 11] أَيْ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَبَّاهُمُ اللهُ تعالى بِحَوَادِثِ الزَّمَانِ وَغِيَرِهِ مَعَ إِرْشَادِهِمْ إِلَى وَجْهِ الِاسْتِفَادَةِ مِنْ ذَلِكَ- كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي سِيَاقِ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ- وَإِلَيْهِ أُشِيرَ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمَصَائِبِ: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَفِي مَعْنَى الْآيَتَيْنِ مَعَ زِيَادَةٍ فِي الْفَائِدَةِ آيَةُ سُورَةِ الرُّومِ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} [30: 36].
وَلَمَّا كَانَ هَذَا هُوَ شَأْنَ أَصْحَابِ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْفَرَحِ- فَرَحِ الْبَطَرِ وَالْغُرُورِ- كَانَ مِمَّا يَتْبَعُ ذَلِكَ تَبَعَ الْمَعْلُولِ لِلْعِلَّةِ، وَالْمُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ تَرْكَ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ بِاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا يَنْفَعُ النَّاسَ بَلْ يَسْتَعْمِلُونَهَا فِيمَا يَسُرُّهُمْ وَيُمَتِّعُهُمْ بِلَذَّاتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَهْلَكَةً لِلْأُمَّةِ كَمَا قال تعالى فِي أَقْوَامٍ هَذَا شَأْنُهُمْ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [6: 44] وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [10: 58] لِأَنَّ السُّرُورَ بِالنِّعْمَةِ مَعَ تَذَكُّرِ أَنَّهَا فَضْلٌ مِنَ اللهِ لَا يُحْدِثُ بَطَرًا، وَلَا غُرُورًا، وَإِنَّمَا يُحْدِثُ شُكْرًا، وَإِحْسَانًا فِي الْعَمَلِ، فَإِذَا فَقِهْتَ هَذَا كُلَّهُ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِأَعْمَالِهِمْ- فَرَحَ بَطَرٍ وَاخْتِيَالٍ وَغُرُورٍ- يَكُونُونَ مُسْتَحِقِّينَ لِلْوَعِيدِ بِالْعَذَابِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْمَالُهُمُ الَّتِي بَطَرُوا بِهَا، وَفَخَرُوا، وَاغْتَرُّوا بِهَا، وَكَفَرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْأَعْمَالِ الْحَسَنَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَوَاقِبُ رَدِيئَةٌ، وَبَعْضُ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ قَدْ تَكُونُ لَهَا عَاقِبَةٌ حَسَنَةٌ، وَفِي هَذَا قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ فِي حِكْمَةٍ: رُبَّ مَعْصِيَةٍ أَوْرَثَتْ ذُلًّا وَانْكِسَارًا خَيْرٌ مِنْ طَاعَةٍ أَوْرَثَتْ عِزًّا وَاسْتِكْبَارًا.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي حَقَّقَهُ قوله تعالى فِي صِفَاتِ الْأَخْيَارِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [23: 60] وَمَا رُوِيَ مِنَ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ فِي تَفْسِيرِهِ، فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ- وَصَحَّحَهُ- وَغَيْرِهِمْ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْلُ اللهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُوَ الرَّجُلُ يَسْرِقُ، وَيَزْنِي، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ، قَالَ: لَا، وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُ، وَيُصَلِّي، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُ اللهَ أَلَّا يَقْبَلَ مِنْهُ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ قَالَ فِيهِمْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [23: 61] بِخِلَافِ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ- بِمَا أَتَوْا مِنْ عَمَلٍ، وَمَا آتَوْا مِنْ صَدَقَةٍ- فَرَحَ عُجْبٍ وَخُيَلَاءَ، فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الرِّيَاءُ، وَحُبُّ الثَّنَاءِ، وَالسُّمْعَةِ، فَيَكْسَلُونَ عَنِ الْعَمَلِ، وَلَا يُوَاظِبُونَ عَلَيْهِ.
هَذَا شَأْنُ الْعَمَلِ فِي الدِّينِ، وَمِثْلُهُ الْعَمَلُ فِي الدُّنْيَا، وَلِلدُّنْيَا كَمَا يُفِيدُنَا الْبَحْثُ فِي أَحْوَالِ الْأُمَمِ، فَإِنَّ الَّذِينَ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْغُرُورُ يَفْرَحُونَ، وَيَبْطَرُونَ بِكُلِّ عَمَلٍ يَعْمَلُونَهُ، وَيَرَوْنَ أنه مُنْتَهَى الْكَمَالِ، فَلَا تَنْشَطُ هِمَمُهُمْ إِلَى طَلَبِ الْمَزِيدِ، وَالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَلَا يَقْبَلُونَ الِانْتِقَادَ عَلَى التَّقْصِيرِ. حَدَّثَنِي الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَالِمٌ أَلْمَانِيٌّ لَقِيتُهُ فِي السَّفِينَةِ فِي إِحْدَى سِيَاحَاتِي قَالَ: أنه لَا يُوجَدُ عِنْدَنَا عَمَلٌ مِنَ الْأَعْمَالِ نَحْنُ رَاضُونَ بِهِ، وَمُعْتَقِدُونَ أنه لَا يَقْبَلُ التَّرَقِّيَ وَالْإِتْقَانَ، بَلْ عِنْدَنَا جَمْعِيَّاتٌ تَبْحَثُ فِي تَرْقِيَةِ كُلِّ شَيْءٍ، وَتَحْسِينِهِ مِنَ الْإِبْرَةِ إِلَى أَعْظَمِ الْآلَاتِ، وَأَبْدَعِ الْمُخْتَرَعَاتِ، مِثَالُ ذَلِكَ الْبُنْدُقِيَّةُ يَبْحَثُونَ فِيهَا: هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَخَفَّ وَزْنًا، أَوْ أَبْعَدَ رَمْيًا، أَوْ أَقَلَّ نَفَقَةً؟ إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
فَإِذَا تَدَبَّرْتَ مَا قُلْنَاهُ فِي هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ: فَرَحِ الْبَطَرِ، وَالْغُرُورِ، وَالْفَخْرِ بِالْأَعْمَالِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى الْكَسَلِ، وَالْإِهْمَالِ، وَحُبِّ الْمَحْمَدَةِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَنَاعَةِ بِالثَّنَاءِ الْكَاذِبِ، إِذَا تَدَبَّرْتَ هَذَا فَقِهْتَ سِرَّ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ بِتَعْذِيبِ الْأُمَّةِ الْمُتَّصِفَةِ بِهِمَا مَرَّتَيْنِ: وَاحِدَةٌ فِي الدُّنْيَا وَوَاحِدَةٌ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} إلخ.
أَيْ لَا تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَوْ أَيُّهَا الْمُخَاطَبُ أَنَّهُمْ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ، أَيْ مُتَلَبِّسُونَ بِالْفَوْزِ وَالنَّجَاةِ مِنْهُ، وَهُوَ الْعَذَابُ الَّذِي يُصِيبُ الْأُمَمَ الَّتِي فَسَدَتْ أَخْلَاقُهَا، وَسَاءَتْ أَعْمَالُهَا، وَكَابَرَتِ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَأَلِفَتِ الْفَسَادَ وَالظُّلْمَ، وَهُوَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَذَابٌ هُوَ أَثَرٌ طَبِيعِيٌّ اجْتِمَاعِيٌّ لِلْحَالِ الَّتِي يَكُونُ عَلَيْهَا الْمُبْطِلُونَ بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، وَهُوَ خُذْلَانُ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْإِفْسَادِ، وَانْكِسَارُهُمْ، وَذَهَابُ اسْتِقْلَالِهِمْ بِنَصْرِ أَهْلِ الْحَقِّ، وَالْعَدْلِ عَلَيْهِمْ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ رِقَابِهِمْ، وَدِيَارِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، لِيَحُلَّ الْإِصْلَاحُ مَحَلَّ الْإِفْسَادِ، وَالْعَدْلُ مَكَانَ الظُّلْمِ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [11: 102] وَعَذَابٌ لَا يَكُونُ أَثَرًا طَبِيعِيًّا، بَلْ يُسَمَّى سُخْطًا سَمَاوِيًّا كَالزِّلْزَالِ، وَالْخَسْفِ، وَالطُّوفَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْجَوَائِحِ الْمُدَمِّرَةِ الَّتِي نَزَلَتْ بِبَعْضِ أَقْوَامِ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِمْ، وَكَذَّبُوهُمْ، وَآذَوْهُمْ، فَكَانَ اللهُ يُوَفِّقُ بَيْنَ أَسْبَابِ ذَلِكَ الْعَذَابِ الْمُعْتَادَةِ، وَأَقْدَارِهَا فَيُنْزِلُهَا بِالْقَوْمِ عِنْدَ اشْتِدَادِ عُتُوِّهِمْ، وَإِيذَائِهِمْ لِرَسُولِهِ فَيَكُونُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَنَحْوِهَا إِنْ أَحْيَانَا اللهُ تعالى وَأَمَدَّنَا بِتَوْفِيقِهِ.
فَإِنْ قُلْتَ: إِنَّ مَا قَرَّرْتَهُ يَشْمَلُ اسْتِعْلَاءَ بَعْضِ الْأُمَمِ الشَّمَالِيَّةِ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ مَمَالِكِ الْمُسْلِمِينَ الْجَنُوبِيَّةِ فَهَلْ كَانَ أُولَئِكَ الشَّمَالِيُّونَ عَلَى الْحَقِّ وَالصَّلَاحِ، وَهَؤُلَاءِ الْجَنُوبِيُّونَ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْفَسَادِ؟ أَقُلْ: نَعَمْ، الأمر كَذَلِكَ، فَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَفْضُلُونَهُمْ أَخْلَاقًا، وَأَعْمَالًا، وَعَدْلًا، وَإِصْلَاحًا، وَاتِّبَاعًا لِسُنَنِ اللهِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَالسِّيَاسَةِ لَمَا سُلِّطُوا عَلَيْهِمْ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [11: 117] وَلَكِنَّهُ يُهْلِكُهَا وَأَهْلُهَا مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ- كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ- وَالْإِيمَانُ قَدْ يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ النَّصْرِ- كَمَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ التَّفْسِيرِ- وَلَكِنَّ لِذَلِكَ شُرُوطًا وَسُنَنًا بَيَّنَهَا اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ بَعْضِ الْآيَاتِ فِيهَا، فَتُطْلَبُ مِنْ مَوَاضِعِهَا وَمِنْهَا تَتَذَكَّرُ، وَتَعْلَمُ أَسْبَابَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ، فَإِنَّ اللهَ مَا فَرَّطَ فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ.
ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَيْ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّ فَسَادَ أَخْلَاقِهِمْ، وَفَرَحَهُمْ، وَبَطَرَهُمْ، وَصَغَارَهُمُ الَّذِي زَيَّنَ لَهُمْ حُبَّ الْحَمْدِ الْكَاذِبِ بِالْبَاطِلِ جَعَلَ أَرْوَاحَهُمْ مُظْلِمَةً دَنِسَةً، فَهِيَ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِمْ إِلَى الْهَاوِيَةِ حَيْثُ يُلَاقُونَ ذَلِكَ الْعَذَابَ الْمُؤْلِمَ.
وَمِنْ مَبَاحِثِ اللَّفْظِ فِي الْآيَةِ: أَنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ ذَهَبُوا إِلَى أَنَّ قوله تعالى: {فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ} تَأْكِيدٌ لِقوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ} كَمَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي الْكَلَامِ الْعَرَبِيِّ مِنْ إِعَادَةِ الْفِعْلِ إِذَا طَالَ الْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْمُولِهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَطَالَتِ الْقِصَّةَ تُعِيدُ حَسِبْتَ وَمَا أَشْبَهَهَا إِعْلَامًا بِأَنَّ الَّذِي جَرَى مُتَّصِلٌ بِالْأَوَّلِ، فَتَقُولُ: لَا تَظْنَنَّ زَيْدًا إِذَا جَاءَكَ وَكَلَّمَكَ بِكَذَا وَكَذَا فَلَا تَظُنَّهُ صَادِقًا، فَيُقَيِّدُ (لَا تَظُنَّنَّ) تَوْكِيدًا وَتَوْضِيحًا. وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ كَمَا فِي قوله:
فَإِذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِي

وَنَقَلَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ هَذَا التَّوْجِيهَ فِي الدَّرْسِ عَنِ الْكَشَّافِ وَرَدَّهُ، فَقَالَ: لَوْلَا الْفَاءُ لَصَحَّ، وَلَكِنَّ الْفَاءَ تَمْنَعُ مِنْهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي عَدَمِ زِيَادَةِ حَرْفٍ مَا فِي الْقُرْآنِ بِلَا فَائِدَةٍ، عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِزِيَادَةِ بَعْضِ الْحُرُوفِ، وَبَعْضِ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا يَعْنُونَ زِيَادَتَهَا غَالِبًا بِحَسَبِ الْإِعْرَابِ لَا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ إِثْبَاتَهَا وَتَرْكَهَا سَوَاءٌ، وَوَجْهُ الْعِبَارَةِ هُنَا بِأَنَّ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ فِي قوله: {لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} مَحْذُوفٌ حَذْفَ إِيجَازٍ لِتَذْهَبَ النَّفْسُ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ، قَالَ: وَالْقُرْآنُ مَا أُنْزِلَ لِتَحْدِيدِ الْمَسَائِلِ، وَالْأَخْبَارِ، وَالْقِصَصِ تَحْدِيدًا يَسْتَوِي فِي فَهْمِهِ كُلُّ قَارِئٍ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ الْأَهَمُّ مِنْهُ إِصْلَاحُ النُّفُوسِ، وَالتَّأْثِيرُ الصَّالِحُ فِيهَا بِتَرْغِيبِهَا فِي الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَتَنْفِيرِهَا مِنْ ضِدِّهِمَا. فَإِذَا قَالَ هَاهُنَا: لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِكَذَا وَيُحِبُّونَ كَذَا تَتَوَجَّهُ نَفْسُ الْقَارِئِ، أَوِ السَّامِعِ إِلَى طَلَبِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، وَتَذْهَبُ فِيهِ مَذَاهِبَ شَتَّى كُلُّهَا مِنَ النَّوْعِ الَّذِي يَلِيقُ بِمَنْ هَذَا حَالُهُمْ، كَأَنْ تُقَدِّرَ: لَا تَحْسَبَنَّهُمْ مُطِيعِينَ لِرَبِّهِمْ، أَوْ عَامِلِينَ بِهِدَايَتِهِ، وَعِنْدَمَا يَرُدُّ عَلَيْهَا بَعْدَهُ فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ يَتَعَيَّنُ عِنْدَهَا بِهَذَا التَّفْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ لَا بِشَخْصِهِ وَعَيْنِهِ بَلْ بِنَوْعِهِ؛ لِأَنَّنَا لَوْ قُلْنَا: إِنَّ مَا حُذِفَ مِنَ الْأَوَّلِ هُوَ عَيْنُ مَا أُثْبِتَ فِي الثَّانِي لَمْ يَكُنْ لِلتَّفْرِيعِ فَائِدَةٌ. ثُمَّ قال تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: عَطَفَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مَا قَبْلَهَا لِاتِّصَالِهَا بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، فَالْوَاوُ فِيهَا عَاطِفَةٌ لِلْجُمْلَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى مِثْلِهَا، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَحْزَنُوا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ وَلَا تَضْعُفُوا وَاصْبِرُوا وَاتَّقُوا وَلَا تُخَوِّرُونَ عَزَائِمَكُمْ، بَيِّنُوا الْحَقَّ، وَلَا تَكْتُمُوا مِنْهُ شَيْئًا، وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا عَمِلْتُمْ، وَلَا تُحِبُّوا أَنْ تُحْمَدُوا بِمَا لَمْ تَفْعَلُوا، فَإِنَّ اللهَ تعالى يَكْفِيكُمْ مَا أَهَمَّكُمْ، وَيُغْنِيكُمْ عَنْ هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي نُهِيتُمْ عَنْهَا، فَإِنَّ مُلْكَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّهُ لَهُ، يُعْطِي مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَلَا يَعِزُّ عَلَيْهِ نَصْرُكُمْ عَلَى الَّذِينَ يُؤْذُونَكُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ، وَإِلَيْهِ تَرْجِعُ الْأُمُورُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُدَبِّرُهَا بِحِكْمَتِهِ وَسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ. وَفِي هَذَا التَّذْيِيلِ حُجَّةٌ عَلَى كَوْنِ الْخَيْرِ فِي اتِّبَاعِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ تعالى، وَتَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَوَعْدٌ لَهُمْ بِالنَّصْرِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِذَمِّ أُولَئِكَ الْمُخَالِفِينَ الَّذِينَ سَبَقَ وَصْفُهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ تعالى إِيمَانًا صَحِيحًا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَأَعْمَالِهِمْ وَإِلَّا لَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ بِكِتَابِهِ، وَآثَرُوا عَلَيْهِ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِوَعْدِهِ تعالى وَالْخَوْفِ مِنْ وَعِيدِهِ، وَالْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)}
أخرج البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق حميد بن عبد الرحمن بن عوف أن مروان قال لبوّابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبًا لَنُعَذَّبَنَّ أجمعين. فقال ابن عباس ما لكم ولهذه الآية؟! إنما أنزلت هذه في أهل الكتاب، ثم تلا ابن عباس {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس......} [آل عمران: 187] الآية وتلا {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا} الآية فقال ابن عباس: سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه، واستحمدوا بذلك إليه، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه.
وأخرج البخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي سعيد الخدري. أن رجالًا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا. فنزلت {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا...} الآية.
وأخرج عبد بن حميد عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند مروان وهو أمير بالمدينة فقال مروان: يا رافع في أي شيء نزلت هذه الآية: {لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا}؟ قال رافع: أنزلت في ناس من المنافقين، كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا: ما حبسنا عنكم إلا الشغل، فلوددنا أنا كنا معكم، فأنزل الله فيهم هذه الآية، فكأن مروان أنكر ذلك، فجزع رافع من ذلك فقال لزيد بن ثابت: أنشدك بالله هل تعلم ما أقول؟ قال: نعم. فلما خرجا من عند مروان قال له زيد: ألا تحمدني شهدت لك قال: أحمدك أن تشهد بالحق قال: نعم. قد حمد الله على الحق أهله.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: هؤلاء المنافقون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم لو قد خرجت لخرجنا معك، فإذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم تخلفوا وكذبوا، ويفرحون بذلك، ويرون أنها حيلة احتالوا بها.