فصل: قال الفراء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفراء:

ومن سورة البقرة: قوله تعالى: {الم} [1]: {ذلِكَ الْكِتابُ} [2] الهجاء موقوف في كل القرآن، وليس بجزم يسمّى جزما، إنما هو كلام جزمه نيّة الوقوف على كل حرف منه فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القرّاء: {الم اللَّهُ} في آل عمران ففتحوا الميم لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة عليها، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف، فكانت القراءة: {الم اللّه} فتركت العرب همزة الألف من: {اللّه} فصارت فتحتها في الميم لسكونها، ولو كانت الميم جزما مستحقّا للجزم لكسرت، كما في: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ}. وقد قرأها رجل من النحويين،- وهو أبو جعفر الرؤاسىّ وكان رجلا صالحا-: {الم اللّه} بقطع الألف، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء: وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف.
وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفا واحدا مثل قوله: {ص} و: {ن} و: {ق} كان فيه وجهان في العربية إن نويت به الهجاء تركته جزما وكتبته حرفا واحدا، وإن جعلته اسما للسورة أو في مذهب قسم كتبته على هجائه: (نون) و: (صاد) و: (قاف) وكسرت الدال من صاد، والفاء من قاف، ونصبت النون الآخرة من: نون فقلت: (نون والقلم) و(صاد والقرآن) و(قاف) لأنه قد صار كأنه أداة كما قالوا رجلان، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفا، ونصبوا النون في: {المسلمون} و: {المسلمين} لأن قبلها ياء وواوا.
وكذلك فافعل ب: {يس وَالْقُرْآنِ} فتنصب النون من: {يس} وتجزمها.
وكذلك: {حم} و: {طس} ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل طا سين ميم لأنها لا تشبه الأسماء، و: {طس} تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك في شيء من القرآن مثل: {الم} و: {المر} ونحوهما.
وقوله تعالى: {ذلِكَ الْكِتابُ (2)} يصلح فيه ذلِكَ من جهتين، وتصلح فيه هذا من جهة فأما أحد الوجهين من: {ذلِكَ} فعلى معنى: هذه الحروف يا أحمد، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. والآخر أن يكون: {ذلِكَ} على معنى يصلح فيه هذا لأن قوله هذا و: {ذلِكَ} يصلحان في كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول: قد قدم فلان فيقول السامع: قد بلغنا ذلك، وقد بلغنا هذا الخبر، فصلحت فيه هذا لأنه قد قرب من جوابه، فصار كالحاضر الذي تشير إليه، وصلحت فيه: {ذلِكَ} لانقضائه، والمنقضى كالغائب. ولو كان شيئا قائما يرى لم يجز مكان: {ذلِكَ} هذا، ولا مكان هذا: {ذلِكَ} وقد قال اللّه جل وعز: {وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ} إلى قوله: {وَكُلّ مِنَ الْأَخْيارِ} ثم قال: {هذا ذِكْرُ}.
وقال جل وعز في موضع آخر: {وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْراب} ثم قال: {هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ}. وقال جلّ ذكره: {وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} ثم قال: {ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ}. ولو قيل في مثله من الكلام في موضع: {ذلِكَ} هذا أو في موضع هذا: {ذلِكَ} لكان صوابا.
وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود: {هذا فذوقوه} وفى قراءتنا: {ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ}.
فأما ما لا يجوز فيه: {هذا} في موضع: {ذلِكَ} ولا: {ذلِكَ} في موضع: {هذا} فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذى تعرف: من هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا: من ذلك؟ لأنك تراه بعينه.
وأما قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)} فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين إذا أردت ب: {الْكِتابُ} أن يكون نعتا ل: {ذلِكَ} كان الهدى في موضع رفع لأنه خبر ل: {ذلِكَ} كأنك قلت: ذلك هدى لا شكّ فيه. وإن جعلت لا رَيْبَ فِيهِ خبره رفعت أيضا: {هُدىً} تجعله تابعا لموضع: {لا رَيْبَ فِيهِ} كما قال اللّه عزّ وجلّ: {وَهذا كِتاب أَنْزَلْناهُ مُبارَك} كأنه قال: وهذا كتاب، وهذا مبارك، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع: إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله، كما قرأت القرّاء: {الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} بالرفع والنصب. وكقوله في حرف عبد اللّه: {أأَلِدُ وَأَنَا عَجُوز وَهذا بَعْلِي شيخ} وهى في قراءتنا: {شَيْخًا}.
فأما النصب في أحد الوجهين فأن تجعل: {الْكِتابُ} خبرا ل: {ذلِكَ} فتنصب: {هُدىً} على القطع لأن: {هُدىً} نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت: {هُدىً} على القطع من الهاء التي في: {فِيهِ} كأنك قلت: لا شك فيه هاديا.
واعلم أن هذا إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان:
أحدها- أن ترى الاسم الذي بعد هذا كما ترى هذا ففعله حينئذ مرفوع كقولك: هذا الحمار فاره. جعلت الحمار نعتا لهذا إذا كانا حاضرين، ولا يجوز هاهنا النصب. والوجه الآخر- أن يكون ما بعد هذا واحدا يؤدّى عن جميع جنسه، فالفعل حينئذ منصوب كقولك: ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا ألا ترى أنك تخبر عن الأسد كلّها بالخوف. والمعنى الثالث- أن يكون ما بعد هذا واحدا لا نظير له فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن هذا ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا، وكان الخبر بطرح هذا أجود ألا ترى أنك لو قلت: ما لا يضرّ من السباع فالأسد ضار، كان أبين. وأما معنى التقريب: فهذا أوّل ما أخبركم عنه، فلم يجدوا بدّا من أن يرفعوا هذا بالأسد، وخبره منتظر، فلما شغل الأسد بمرافعة هذا نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته. ومثله: {وَاللَّهُ غَفُور رَحِيم} فإذا أدخلت عليه كان ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.
وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك: هذه الشمس ضياء للعباد، وهذا القمر نورا فإن القمر واحد لا نظير له، فكان أيضا عن قولك هذا مستغنيا ألا ترى أنك إذا قلت: طلع القمر، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول هذا لحضوره، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا، ونصبت خبره للحاجة إليه.
وقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة (7)} انقطع معنى الختم عند قوله: {وَعَلى سَمْعِهِمْ}. ورفعت: الغشاوة ب: {عَلى} ولو نصبتها بإضمار: {وجعل} لكان صوابا. وزعم المفضّل أن عاصم بن أبى النّجود كان ينصبها، على مثل قوله في الجاثية: {أفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً} ومعناهما واحد، واللّه أعلم. وإنما يحسن الإضمار في الكلام الذي يجتمع ويدلّ أوّله على آخره كقولك: قد أصاب فلان المال، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب، ولكنه من صفات اليسار فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله في سورة الواقعة: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدان مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} ثم قال: {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُور عِين} فخفض بعض القراء، ورفع بعضهم الحور العين.
قال الذين رفعوا: الحور العين لا يطاف بهنّ فرفعوا على معنى قولهم: وعندهم حور عين، أو مع ذلك حور عين فقيل: الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها- واللّه أعلم- ثم أتبع آخر الكلام أوّله. وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم، وأنشدنى بعض بنى أسد يصف فرسه:
علفتها تبنا وماء باردا ** حتى شتت همّالة عيناها

والكتاب أعرب وأقوى في الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير لقلّة اجتماعه، فقولك: قد أعتقت مباركا أمس وآخر اليوم يا هذا وأنت تريد: واشتريت آخر اليوم لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول:
ضربت فلانا وفلانا وأنت تريد بالآخر: وقتلت فلانا لأنه ليس هاهنا دليل.
ففى هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء اللّه.
وقوله: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ (16)}.
ربما قال القائل: كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب: ربح بيعك وخسر بيعك، فحسن القول بذلك لأن الربح والخسران إنما يكونان في التجارة، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب: هذا ليل نائم. ومثله من كتاب اللّه: {فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ} وإنما العزيمة للرجال، ولا يجوز الضمير إلا في مثل هذا. فلو قال قائل: قد خسر عبدك لم يجز ذلك، إن كنت تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجورا فيه. فلو قال قائل: قد ربحت دراهمك ودنانيرك، وخسر بزّك ورقيقك كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.
وقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا (17)}.
فإنما ضرب المثل- واللّه أعلم- للفعل لا لأعيان الرجال، وإنما هو مثل للنفاق فقال: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ولم يقل: الذين استوقدوا. وهو كما قال الله: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ}. وقوله: {ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ} فالمعنى- واللّه أعلم-: إلا كبعث نفس واحدة ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا كما قال: {كَأَنَّهُمْ خُشُب مُسَنَّدَة} أراد القيم والأجسام، وقال: {كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ} فكان مجموعا إذ أراد تشبيه أعيان الرجال فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا في شعر فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا في شعر فأجزه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا في شعر فهو أيضا يراد به الفعل فأجزه كقولك: ما فعلك إلا كفعل الحمير، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب فابن على هذا، ثم تلقى الفعل فتقول: ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.
وإنما قال اللّه عزّ وجلّ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وحّد لكان صوابا كقوله: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ تغلى فِي الْبُطُونِ} و: {يَغْلِي} فمن أنّث ذهب إلى الشجرة، ومن ذكّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عز وجل: {أَمَنَةً نُعاسًا تغشى طائِفَةً مِنْكُمْ} للأمنة، و: {يَغْشى} للنعاس.
وقوله: {صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)} رفعن وأسماؤهن في أوّل الكلام منصوبة لأن الكلام تمّ وانقضت به آية، ثمّ استؤنفت: {صُمّ بُكْم عُمْي} في آية أخرى، فكان أقوى للأستئناف، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف قال اللّه تبارك وتعالى: {جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ} {الرَّحْمنِ} يرفع ويخفض في الإعراب، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء في رءوس الآيات مستأنفا فكثير من ذلك قول اللّه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} إلى قوله: {وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. ثم قال جل وجهه: {التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ} بالرفع في قراءتنا، وفى حرف ابن مسعود: {التائبين العابدين الحامدين}. وقال: {أتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللَّهَ رَبَّكُمْ}. يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك. وفى قراءة عبد اللّه: {صمّا بكما عميا} بالنصب.
ونصبه على جهتين إن شئت على معنى: تركهم صمّا بكما عميا، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترك عليهم في الظلمات، ثم تستأنف: {صما} بالذمّ لهم.
والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم: ويلا له، وثوابا له، وبعدا وسقيا ورعيا.
وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ (19)} مردود على قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا}. {أَوْ كَصَيِّبٍ} أو كمثل صيّب، فاستغنى بذكر: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا} فطرح ما كان ينبغى أن يكون مع الصيّب من الأسماء، ودلّ عليه المعنى لأن المثل ضرب للنفاق، فقال: {فِيهِ ظُلُمات وَرَعْد وَبَرْق} فشبّه الظلمات بكفرهم، والبرق إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم، والرعد ما أتى في القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر قيل: إن الرعد إنما ذكر مثلا لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه. ألا ترى أنه قد قال في موضع آخر: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أي يظنّون أنهم أبدا مغلوبون.
ثم قال: {يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} فنصب: {حَذَرَ} على غير وقوع من الفعل عليه لم ترد يجعلونها حذرا، إنما هو كقولك: أعطيتك خوفا وفرقا. فأنت لا تعطيه الخوف، وإنما تعطيه من أجل الخوف فنصبه على التفسير ليس بالفعل، كقوله جل وعز: {يَدْعُونَنا رَغَبًا وَرَهَبًا}. وكقوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} والمعرفة والنكرة تفسّران في هذا الموضع، وليس نصبه على طرح: {مِنَ}. وهو مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.
وقوله: {يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ (20)} والقرّاء تقرأ: {يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ} بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول: {يَخْطَفُ}. وبعضهم يكسر الياء والخاء ويشدّد فيقول: {يِخِطِّفُ}. وبعض من قرَّاء أهل المدينة يسكِّن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول: {يَخْطِّف}. فأما من قال: {يَخَطِّفُ} فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التي في اختطف والاختطاف؛ وقد قال فيه بعض النحويين: إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأُسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضتَ الأوّل؛ كما قال: اضربِ الرجل؛ فخفضتَ الباء لاستقبالها اللام. وليس الذي قالوا بشئ؛ لأن ذلك لو كان كما قالوا لقالت العرب في يَمُدّ: يَمِدّ؛ لأن الميم كانت ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا في يَعَضّ: يَعِضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا مِن طَلَبِه كسرة الألف؛ لأنها كانت في ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بنى على التبيان؛ إلا أنه إدغام خفىّ. وفى قوله: {أَم مَّنْ لاَ يَهِدِّى إلاَّ أَنْ يُهْدَى} وفى قوله: {تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} مثل ذلك التفسير إلا أَن حمزة الزيات قد قرأ: {تَأخُذُهُمْ وَهُمْ يَخْصِمُونَ} بتسكين الخاء، فهذا معنى سوى ذلك.
وقوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} فيه لغتان: يقال: أضاءَ القمرُ، وضاءَ القمرُ؛ فمن قال ضاء القمرُ قال: يضوء ضَوءا. والضّوء فيه لغتان: ضم الضاد وفتحها.
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ} فيه لغتان: أظلم الليل وظَلِم.
وقوله: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ (20)}.
المعنى- واللّه أعلم-: ولو شاء اللّه لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول: أذهبت بصره بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من: {أذهبت}. وقد قرأ بعض القرّاء: {يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ} بضمّ الياء والباء في الكلام. وقرأ بعضهم: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}. فترى- واللّه أعلم- أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم: خذ بالخطام، وخذ الخطام، وتعلّقت بزيد، وتعلّقت زيدا. فهو كثير في الكلام والشعر، ولست أستحبّ ذلك لقلّته، ومنه قوله: {آتِنا غَداءَنا} المعنى- واللّه أعلم- ايتنا بغدائنا فلما أسقطت الباء زادوا ألفا في فعلت، ومنه قوله عز وجل: {قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} المعنى- فيما جاء- ايتوني بقطر أفرغ عليه، ومنه قوله: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} المعنى- واللّه أعلم- فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.
وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ (23)}.
الهاء كناية عن القرآن فأتوا بسورة من مثل القرآن. وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يريد آلهتكم. يقول: استغيثوا بهم وهو كقولك للرجل: إذا لقيت العدوّ خاليا فادع المسلمين. ومعناه: فاستغث واستعن بالمسلمين.
وقوله: {النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ (24)}.
الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبريت يحمى، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ يعنى النار.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهًا} اشتبه عليهم، فيما ذكر في لونه، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها (26)}.
فإن قال قائل: أين الكلام الذي هذا جوابه، فإنا لا نراه في سورة البقرة؟
فذكر لنا أن اليهود لما قال الله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} قال أعداء اللّه: وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَل فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا}- إلى قوله-: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} لذكر الذباب والعنكبوت فأنزل اللّه: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها. فالذى: {فَوْقَها} يريد أكبر منها، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت في مثله من الكلام: {فَما فَوْقَها} تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه لأن البعوضة كأنها غاية في الصغر، فأحبّ إلىّ أن أجعل: {فَما فَوْقَها} أكبر منها. ألا ترى أنك تقول: يعطى من الزكاة الخمسون فما دونها. والدرهم فما فوقه فيضيق الكلام أن تقول: فوقه فيهما. أو دونه فيهما. وأما موضع حسنها في الكلام فأن يقول القائل: إن فلانا لشريف، فيقول السامع: وفوق ذاك يريد المدح. أو يقول: إنه لبخيل، فيقول الآخر: وفوق ذاك، يريد بكليهما معنى أكبر. فإذا عرفت أنت الرجل فقلت: دون ذلك فكأنّك تحطّه عن غاية الشّرف أو غاية البخل. ألا ترى أنك إذا قلت: إنه لبخيل وفوق ذاك، تريد فوق البخل، وفوق ذاك، وفوق الشّرف. وإذا قلت: دون ذاك، فأنت رجل عرفته فأنزلته قليلا عن درجته. فلا تقولنّ: وفوق ذاك، إلا في مدح أو ذمّ.
قال الفرّاء: وأما نصبهم: {بَعُوضَةً} فيكون من ثلاثة أوجه:
أوّلها: أن توقع الضّرب على البعوضة، وتجعل: {ما} صلة كقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} يريد عن قليل المعنى- واللّه أعلم- إن اللّه لا يستحيى أن يضرب بعوضة فما فوقها مثلا.
والوجه الآخر: أن تجعل: {ما} اسما، والبعوضة صلة فتعرّبها بتعريب: {ما}. وذلك جائز في: {مِنْ} و: {ما} لأنهما يكونان معرفة في حال ونكرة في حال كما قال حسّان بن ثابت:
فكفى بنا فضلا على من غيرنا ** حبّ النّبيء محمّد إيّانا

قال الفرّاء: ويروى: على من غيرنا والرفع في: {بَعُوضَةً} هاهنا جائز، لأن الصلة ترفع، واسمها منصوب ومخفوض.
وأما الوجه الثالث- وهو أحبها إلىّ- فأن تجعل المعنى على: إن اللّه لا يستحيى أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها. والعرب إذا ألقت بين من كلام تصلح إلى في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض أحدهما ببين والآخر بإلى. فيقولون: مطرنا ما زبالة فالثّعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملا، وهى أحسن الناس ما قرنا فقدما. يراد به ما بين قرنها إلى قدمها.
ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة، فتقول: هي حسنة ما قرنها فقدمها.
فإذا لم تصلح إلى في آخر الكلام لم يجز سقوط بين من ذلك أن تقول:
دارى ما بين الكوفة والمدينة. فلا يجوز أن تقول: دارى ما الكوفة فالمدينة لأن إلى إنما تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كلّه من دارك، كما كان المطر آخذا ما بين زبالة إلى الثّعلبية. ولا تصلح الفاء مكان الواو فيما لا تصلح فيه إلى كقولك: دار فلان بين الحيرة فالكوفة محال. وجلست بين عبد اللّه فزيد محال، إلا أن يكون مقعدك آخذا للفضاء الذي بينهما. وإنما امتنعت الفاء من الذي لا تصلح فيه إلى لأن الفعل فيه لا يأتى فيتّصل، وإلى محتاج إلى اسمين يكون الفعل بينهما كطرفة عين، وإن قصر قدر الذي بينهما مما يوجد، فصلحت الفاء في إلى لأنك تقول: أخذ المطر أوّله فكذا وكذا إلى آخره. فلمّا كان الفعل كثيرا شيئا بعد شيء في المعنى كان فيه تأويل من الجزاء. ومثله أنهم قالوا: إن تأتنى فأنت محسن. ومحال أن تقول: إن تأتنى وأنت محسن فرضوا بالفاء جوابا في الجزاء ولم تصلح الواو.
قال الكسائىّ: سمعت أعرابيّا ورأى الهلال فقال: الحمد للّه ما إهلالك إلى سرارك. يريد ما بين إهلالك إلى سرارك فجعلوا النصب الذي كأن يكون في بين فيما بعده إذا سقطت ليعلم أنّ معنى بين مراد. وحكى الكسائىّ عن بعض العرب: الشّنق ما خمسا إلى خمس وعشرين. يريد ما بين خمس إلى خمس وعشرين. والشّنق: ما لم تجب فيه الفريضة من الإبل. والأوقاص في البقر.
وقوله: {ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا (26)}.
كأنه قال- واللّه أعلم- ماذا أراد اللّه بمثل لا يعرفه كل أحد يضل به هذا ويهدى به هذا. قال اللّه: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ.
وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا (28)} على وجه التعجّب والتوبيخ لا على الاستفهام المحض أي ويحكم كيف تكفرون! وهو كقوله: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}. وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتًا}. المعنى- واللّه أعلم- وقد كنتم، ولو لا إضمار: {قد} لم يجز مثله في الكلام. ألا ترى أنه قد قال في سورة يوسف: {إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ}. المعنى- واللّه أعلم- فقد كذبت. وقولك للرجل: أصبحت كثر مالك، لا يجوز إلّا وأنت تريد: قد كثر مالك لأنهما جميعا قد كانا، فالثاني حال للأوّل، والحال لا تكون إلا بإضمار: {قد} أو بإظهارها ومثله في كتاب اللّه:
{أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} يريد- واللّه أعلم- {جاءوكم قد حصرت صدورهم}. وقد قرأ بعض القرّاء- وهو الحسن البصرىّ-: {خصرة صدورهم}.
كأنه لم يعرف الوجه في أصبح عبد اللّه قام أو أقبل أخذ شاة، كأنّه يريد فقد أخذ شاة. وإذا كان الأوّل لم يمض لم يجز الثاني بقد ولا بغير قد، مثل قولك: كاد قام، ولا أراد قام لأنّ الإرادة شيء يكون ولا يكون الفعل، ولذلك كان محالا قولك: عسى قام لأن عسى وإن كان لفظها على فعل فإنها لمستقبل، فلا يجوز عسى قد قام، ولا عسى قام، ولا كاد قد قام، ولا كاد قام لأن ما بعدهما لا يكون ماضيا فإن جئت بيكون مع عسى وكاد صلح ذلك فقلت: عسى أن يكون قد ذهب كما قال الله: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ}.
وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْواتًا فَأَحْياكُمْ} يعنى نطفا، وكل ما فارق الجسد من شعر أو نطفة فهو ميتة واللّه أعلم. يقول: فأحياكم من النّطف، ثم يميتكم بعد الحياة، ثم يحييكم للبعث.
وقوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ (29)}.
الاستواء في كلام العرب على جهتين: إحداهما أن يستوى الرجل وينتهى شبابه، أو يستوى عن اعوجاج، فهذان وجهان. ووجه ثالث أن تقول: كان مقبلا على فلان ثم استوى علىّ يشاتمنى وإلىّ سواء، على معنى أقبل إلى وعلىّ فهذا معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} واللّه أعلم. وقال ابن عباس: ثم استوى إلى السماء: صعد، وهذا كقولك للرجل: كان قائما فاستوى قاعدا، وكان قاعدا فاستوى قائما. وكلّ في كلام العرب جائز.
فأما قوله: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ} فإن السماء في معنى جمع، فقال: {فَسَوَّاهُنَّ} للمعنى المعروف أنهنّ سبع سموات. وكذلك الأرض يقع عليها- وهى واحدة- الجمع. ويقع عليهما التوحيد وهما مجموعتان، قال اللّه عزّ وجلّ: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}. ثم قال: {وَما بَيْنَهُما} ولم يقل بينهن، فهذا دليل على ما قلت لك.
وقوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ (31)}.
فكان {عَرَضَهُمْ} على مذهب شخوص العالمين وسائر العالم، ولو قصد قصد الأسماء بلا شخوص جاز فيه عرضهنّ وعرضها. وهى في حرف عبد اللّه: {ثم عرضهنّ} وفى حرف أبىّ: {ثم عرضها} فإذا قلت: {عرضها} جاز أن تكون للأسماء دون الشخوص وللشخوص دون الأسماء.
وقوله: {يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ (33)}.
إن همزت قلت {أَنْبِئْهُمْ} ولم يجز كسر الهاء والميم لأنها همزة وليست بياء فتصير مثل: {عليهم}. وإن ألقيت الهمزة فأثبت الياء أو لم تثبتها جاز رفع: {هم} وكسرها على ما وصفت لك في: {عليهم} و: {عليهم}.
وقوله: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا (35)}.
إن شئت جعلت فَتَكُونا جوابا نصبا، وإن شئت عطفته على أوّل الكلام فكان جزما مثل قول امرئ القيس:
فقلت له صوّب ولا تجهدنّه ** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق

ألا أنعم صباحا أيها الربع وانطق ** وحدّث حديث الركب إن شئت وأصدق

والضمير في له يعود للغلام المذكور في بيت قبله. وانظر ديوان امرئ القيس برواية الطوسي المخطوط بالدار. ووقع في سيبويه نسبته إلى عمرو بن عمار الطائي. ويقال: صوب الفرس أرسله في الجري. وجهد دابته كمنع وأجهدها: بلغ جهدها وحمل عليها في السير فوق طاقتها.
وأذرت الدابة راكبها: صرعته، وطعنه فأذراه عن فرسه أي صرعه. والقطاة: العجز أو ما بين الوركين، أو مقعد الرديف من الدابة خلف الفارس. وزلق كفرح ونصر: زل وسقط. ويروى الشطر الثاني:
فيذرك من أعلى القطاة فتزلق

فجزم.
ومعنى الجزم كأنّه تكرير النهى، كقول القائل: لا تذهب ولا تعرض لأحد. ومعنى الجواب والنّصب لا تفعل هذا فيفعل بك مجازاة، فلمّا عطف حرف على غير ما يشاكله وكان في أوّله حادث لا يصلح في الثاني نصب. ومثله قوله: {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} و: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ} و: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ}. وما كان من نفى ففيه ما في هذا، ولا يجوز الرفع في واحد من الوجهين إلا أن تريد الاستئناف بخلاف المعنيين كقولك للرجل: لا تركب إلى فلان فيركب إليك تريد لا تركب إليه فإنه سيركب إليك، فهذا مخالف للمعنيين لأنه استئناف، وقد قال الشاعر:
ألم تسأل الرّبع القديم فينطق ** وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق

أراد: ألم تسأل الربع فإنه يخبرك عن أهله، ثم رجع إلى نفسه فأكذبها، كما قال زهير بن أبى سلمى المزنىّ:
قف بالدّيار التي لم يعفها القدم ** بلى وغيّرها الأرواح والدّيم

فأكذب نفسه. وأمّا قوله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ} فإنّ جوابه قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} والفاء التي في قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} جواب لقوله: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ} ففى قوله: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} الجزم والنصب على ما فسّرت لك، وليس في قوله: {فَتَطْرُدَهُمْ} إلا النصب، لأنّ الفاء فيها مردودة على محلّ وهوقوله: {ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ} و: {عَلَيْكَ} لا تشاكل الفعل، فإذا كان ما قبل الفاء اسما لا فعل فيه، أو محلّا مثل قوله: عندك وعليك وخلفك، أو كان فعلا ماضيا مثل: قام وقعد لم يكن في الجواب بالفاء إلا النصب. وجاز في قوله: فيذرك من أخرى القطاة فتزلق لأن الذي قبل الفاء يفعل والذي بعدها يفعل، وهذا مشاكل بعضه لبعض لأنه فعل مستقبل فيصلح أن يقع على آخره ما يقع على أوّله، وعلى أوّله ما يقع على آخره لأنه فعل مستقبل.