فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الْوَصِيَّةِ بِالتَّقْوَى: يُكْثِرُ اللهُ تعالى مِنْ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ، وَمَعَ ذَلِكَ نَرَى النَّاسَ قَدِ انْصَرَفُوا عَنْهَا بَتَّةً، صَارَ التَّقِيُّ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ الْأَهْبَلُ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَصْلَحَتَهُ، وَلَا مَصْلَحَةَ النَّاسِ. وَلَا شَيْءَ أَشْأَمَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ فَهْمِهَا بِهَذَا الْمَعْنَى.
التَّقْوَى: أَنْ تَقِيَ نَفْسَكَ مِنَ اللهِ، أَيْ مِنْ غَضَبِهِ، وَسُخْطِهِ، وَعُقُوبَتِهِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ، وَمَعْرِفَةِ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ، وَلَا يَعْرِفُ هَذَا إِلَّا مَنْ فَهِمَ كِتَابَ اللهِ تعالى وَعَرَفَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِيرَةَ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ مُطَالِبًا نَفْسَهُ بِالِاهْتِدَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ، فَمَنْ صَبَرَ، وَصَابَرَ، وَرَابَطَ لِأَجْلِ حِمَايَةِ الْحَقِّ، وَأَهْلِهِ، وَنَشْرِ دَعْوَتِهِ، وَاتَّقَى رَبَّهُ فِي سَائِرِ شُئُونِهِ فَقَدْ أَعَدَّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ لِلْفَلَاحِ وَالْفَوْزِ بِالسَّعَادَةِ عِنْدَ اللهِ تعالى.
وَأَقُولُ: إِنَّ الْفَلَاحَ هُوَ الْفَوْزُ، وَالظَّفَرُ بِالْبُغْيَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنَ الْعَمَلِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ خَاصًّا بِالدُّنْيَا كَمَا فِي قوله تعالى حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} [20: 64] وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا بِالْآخِرَةِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ أَهْلِ الْكَهْفِ: {وَلَنْ تُفْلِحُوا إذًا أَبَدًا} [18: 20] وَيَكُونُ مُشْتَرِكًا بَيْنَ الدَّارَيْنِ، وَعِنْدِي أَنَّ أَكْثَرَ وَعْدِ الْقُرْآنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَإِرَادَةُ الْفَلَاحِ الدُّنْيَوِيِّ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا ظَاهِرَةٌ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ، وَمُصَابَرَةَ الْأَعْدَاءِ، وَالْمُرَابَطَةَ، وَالتَّقْوَى كُلُّهَا مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ عَلَى الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّهَا مَعَ حُسْنِ النِّيَّةِ، وَقَصْدِ إِقَامَةِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ- الَّذِي هُوَ شَأْنُ الْمُؤْمِنِ- مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْآخِرَةِ. وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ كُلُّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ دَاخِلَةٌ فِي مَقْدُورِ الْإِنْسَانِ، وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِهَا، فَعِلْمُهُ إذًا هُوَ سَبَبُ فَلَاحِهِ.
فَنَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُنِيلَنَا مَا أَرْشَدَنَا إِلَيْهِ، وَأَقْدَرَنَا عَلَى أَسْبَابِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
هذه الآية هي ختام سورة آل عمران. وسورة آل عمران جاءت بعد سورة البقرة. والسورتان تشتركان معًا في قضية عقدية أولى، وهي الإيمان بالله والتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند الله خاتما للرسالات ومهيمنًا عليها. ولذلك تكلم الحق عن قضية الإيمان وقضية الهدى وقضية الكتاب، ثم تعرض الحق لرواسب ديانات سابقة تحولت عن منهج الله إلى أهواء البشر، فجادل في سورة البقرة اليهود، وجادل في سورة آل عمران النصارى.
وبعد ذلك عرض قضية إيمانية تتعلق بموقف المسلمين المؤمنين بالله وبتصديق رسوله في معترك الحياة، وعرض معركة من المعارك ابتلى فيها المؤمنون ابتلاءً شديدًا، ثم عرض للقضية الإيمانية حين يثوب المؤمن المتخاذل إلى منهج ربه. وبعد أن ينتهي من هذه، يقول الحق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} أي ما من آمنتم بما تقدم إيمانًا بالله، وتصديقًا بكتابه، وتصديقًا برسالته صلى الله عليه وسلم، وتمحيصًا للحق مع اليهود، وتمحيصًا للحق مع أهل الكتاب جميعًا، تمحيصًا لا جدليًا نظريًا، ولكن واقعيا في معركة من أهم معارك الإسلام وهي معركة أحد، فيا من آمنتم بالله إيمانا صادقا صافيا، استمعوا إليّ يا من آمنتم بي {اصْبِرُواْ} وهذا أمر، و{وَصَابِرُواْ} أمر ثان، و{رَابِطُواْ} أمر ثالث، و{وَاتَّقُواْ اللَّهَ} أمر رابع.
إنها رابعة أوامر، والغاية من هذه الأوامر هي {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إذن فمن عشق الفلاح فعليه أن ينفذ هذه الأربعة: اصبر، صابر، رابط، اتق الله، لعلك تفلح.
والحق سبحانه وتعالى حين يعبر عن الفلاح إنما يعبر بأمر مشهود مُحس للناس جميعًا، لم يقل لك: افعل ذلك لتنجح أو لتفوز. إنما جاء بكلمة الفلاح. والفلاح كما قلنا: مأخوذ من فلح الأرض. وفلح الأرض هو شقها لتتعرض للهواء، ولتكون سهلة هينة تحت الجذير البسيط الخارج من البذرة، فإذا فلحت الأرض بهذه المشقة حرثًا وبذرًا وتعهدًا بالري ماذا يحدث لك من الأرض؟ إنها تؤتيك خيرًا ماديًا مشهودًا ملحوظا.
إذن فقد ضرب الله المثل في المعنويات بالأمر المحُس الذي يباشره الناس جميعا، وأي فَلاَح هذا الذي يقصده الحق سبحانه وتعالى؟ أنه فلاح الدنيا وفلاح الآخرة؛ فلاح الدنيا بأن تنتصروا على خصومكم، وأن تعيشوا معيشة آمنة مستقرة رغدة، وفلاح الآخرة أن تأخذوا حظكم من الخلود في النعيم المقيم، ومادام سبحانه يقول: اصبروا فلابد أن يكون هذا إيذانا بأن فيه مشقة، فالإيمان يؤدي إلى الجنة، والجنة محفوفة بالمكاره؛ لذلك لابد أن تكون فيه مشقات.
وإذا نظرت إلى تلك المشقات تجدها في ذات النفس منفصلة عن المجتمع تارة، وتجدها في ذات النفس مع المجتمع تارة أخرى، أما في ذات النفس مفصولة عن المجتمع، فإن الصبر يقتضي أن تصبر على تنفيذ أمر الله في فعل الطاعات وعلى تحمل الألم منه في ترك المعاصي وإن كان ذلك يمنعك عن لذة شهوة تحبها فإنك تصبر عن تلك الشهوة التي تلح عليك، فمجاهدة المؤمن أن يصبر عن الشهوات التي نهى الله عنها، والأشياء التي تصيب الإنسان يصبر عليها، فالمصيبة في النفس يصبر عليها، والأشياء التي يصبر عنها من النواهي هي الشهوات والمتع التي يحرمها الله.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: إنني خلقتك وأعلم منازعة نفسك إلى الشهوة، لأنك تحبها فاصبر عنها، والأمور التي في الطاعة إن فعلتها ستورثك مشقة في ذاتك، اصبر عليها، إذن ففي الأوامر صبر على تنفيذها، وفي المناهي صبر عن إيقاعها، هذه كلها في الذات، وبعد ذلك إذا تعدت المسألة من الذاتية إلى المحيط الخارجي فالحق يقول: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].
يقول: صابرين في، فعندنا صابر على، وصابر عن وصابر في، {والصابرين في البأساء} التي تقع عليهم من المجتمع الخارج عنهم، وكيف تصيبهم البأساء من المجتمع الخارج عنهم؟ نعم، لأن منهج الحق إنما يجيء ليصوب الخطأ في حركة المجتمع. والخطأ في حركة المجتمع إنما يستفيد منه أناس وهم يحرصون جاهدين أن يصدوا من يريدون تثبيت منهج الله، إذن فهم لا يقصرون في إيذائهم، وفي السخرية منهم، وفي إتعابهم وفي حربهم، وهذا صبر في البأساء والضراء وحين البأس، وإذا كان عدوك الذي جئت لتدحض منهجه الباطل بمنهجك الحق صابرك وصابر أيضا على إيذائك، فعليك أن تصابره.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن اصبر غير صابر فاصبر هو أمر في نفسك ستصبر عليه، ولكن هب أن خصمك صبر أيضا على إيذائك، وصار عنده جلد ليقف أمامك هنا، الحق يأمرك هنا بأن تصابره، أي إذا كان عدوك يصبر قليلا فعليك أنت أن تقوى على الصبر عليه، أي أن تجيء بصبر فوق الصبر الذي يعارضك، وكل مادة فاعل هكذا.
مثال ذلك: عندما تقول: فلان نافس فلانا. والمنافسة تكون بين اثنين يحتاجان ويقصدان غاية، وكل واحد يريد أن يصل إليها، والذي يريد أن يصل إليها يريد أن يصل بحرص، فإن كان معاندك يحرص عليها بخطوة فاحرص عليها أنت بخطوتين، هذه هي المنافسة؛ فالمنافسة مغالبة على الفوز، والحق يقول: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] والأصل فيها هو: إطالة النفس حين يغطس الإنسان في الماء، وسيدنا عمر- رضي الله عنه- قال للعباس- رضي الله عنه-: أتنافسني؟ أي عرض عليه أن ينزلا معا تحت الماء، ويرى مَن منهما أطول نفسا.
إذن فالفطن الكيّس هو من يتمرس على هذا العمل ولا ينزل إلى الماء في نفس متردد، بل يأخذ كمية من الهواء بشهيق يتسع له تجويف صدره كله ليكون عنده حصيلة يستطيع بها أن يمكث في الماء أطول مدة من الثاني، أما الذي يغطس وليس عنده هذه الحصيلة، فسيأخذ مقدار شهيق وزفير فقط فنافسني تعني أن نغطس في الماء معا لنرى من منا أطول نفسا. أي أنه قادر على أن يحتفظ بكمية من الهواء تستطيع أن تؤدي وظيفة حياته مدة طويلة، ولا يمكن أن يتأتى هذا إلا إذا أخذت شهيقًا يملأ الصدر حتى أنك لا تقدر أن تزيد، ولذلك فالطبيب عندما يريد أن يفحص حالة الرئة يقول للمريض: خذ نفسًا طويلًا، لأنه يريد أن يرى المريض وقدرته.
إذن فالمصابرة تعني إن كان خصمك يصابرك فأنت تصبر وهو يصبر، فتصبر أنت أكثر، ولهذا تحتاج المسألة إلى أن يتكاتف المجتمع كله على المصابرة، ولذلك جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ} [العصر: 1-3].
أي أنك إذا رأيت أخا من إخوانك المؤمنين يخور ويضعف في مصابرته فتحثه على المصابرة وقل له: إياك أن تخور، لماذا؟ لأن النفس البشرية من الأغيار، وقد يأتي لها حدث يقوى عليها، فالمؤمن الذي ليس عنده هذه الأغيار ينفخ بالعزيمة فيمن يخور فقال الحق: تواصوا، ولم يقل: جماعة يوصون جماعة، لا. فالتواصي أن تكون أنت مرة موصِيًا، ومرة مُوصىً، فساعة لا يكون عندك ضعف الأغيار فَوصِّ، وساعة يكون عندك ضعف الأغيار تُوَصىَّ، فكل واحد موصٍ في وقت، ومُوصىً في وقت آخر، ولا نتواصى هذه التوصية على الصبر إلا إذا كنا تواصينا أولا على الحق الذي من أجله نشأت المعركة بين صابر وصابر.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وعرفنا الصبر، وعرفنا المصابرة، فما هو الرباط؟ هو أن تشعر عدوك بأنك مستعد دائما للقائه، هذا هو معنى الرباط. والحق يقول: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُمْ مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
إنها خيل مربوطة للجهاد في سبيل الله مستعدة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خيركم ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها».
أي أن نكون مستعدين قبل وقوع الهجوم، وساعة تأتي الأمور الداهمة ننطلق لمواجهتها. ولكن يكون استعدادنا من قبل الأمر الداهم، ولذلك حين يكون عدوك عالما بأنك مرابط له ومستعد للحركة في أي وقت يرهبك ويخافك، أما إذا كنت في استرخاء وغفلة؛ فإنه يدهمك، فإلى أن تستعد يكون قد أخذ منك الجولة الأولى، إذن فما فائدة الرباط؟
فائدة الرباط أن يُعلم أنك لم تغفل عن عدوك وأنك لن تترك العدة والاستعداد له إلى أن يأتي بالمداهمة، ولكن تكون أنت مستعدًّا لها في كل وقت، والرباط لا يكون فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوما ماديا، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تفد، لماذا؟
لأن المسألة ليست كلها غزوًا بخيل وسلاح وعُدَد، فقد يكون الغزو بالفكر الذي يتسرب إلى النفوس من حيث لا تشعر، فإذن لابد أن تكون أيضا في الرباط الذي يمد المؤمن بقدرة وطاقة المواجهة بحيث إذا جاءت قضية من قضايا الإلحاد التي قد تفد على المؤمنين، يكون عند كل واحد منهم الحصانة ضدها والقدرة على مواجهتها.
لقد قلنا: إن آفة المناهج العلمية أنهم أخذوا مناهجهم عن الغرب، فدرسوا التاريخ كما يدرسه الغرب، ودرسوا الطبيعة كما يدرسها الغرب ونسوا أن لنا دينا يحمينا من كل هذه الأشياء، فعندما يأتيني رجل التاريخ بمنهجه من الغرب، ويقول: إن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، هنا يجب أن تكون عندنا مناعة وترابط، ونقول له: في أي سنة نشأت الثورة الفرنسية؟
لقد نشأت منذ سنوات قليلة، قد تزيد أو تنقص علىالمائتي سنة، وأنتم تجهلون أن الدين الإسلامي جاء منذ أربعة عشر قرنا بحقوق الإنسان، واقرأوا القرآن. فلو أن كل تلميذ حين يسمع أن الثورة الفرنسية هي التي أعلنت حقوق الإنسان، يقول لهم: لا، أنت تعلم أن ذلك حدث في القرن السابع عشر لكن لماذا لا تلتفت إلى أنه منذ أربعة عشر قرنا جاء الإسلام بهذا المبدأ والتفت إلى الإساءة في استعمال الحق، فإذا كنت تجهل تشريع الله فلا يصح أن يؤدي بك هذا الجهل إلى طمس معالم الحق في منهج الله.
وإذا قال دارس للطبيعة: إن الطبيعة أمدت الحيوان الفلاني باللون الذي يناسب البيئة التي يعيش فيها حتى لا يفتك به عدوه وهو بذلك يضلله، نقول له: إن الطبيعة لا تمد، الطبيعة ممدة من الله، لا تقل: إن الطبيعة أمدت. إذن فالرباط لا يكون بقوة عسكرية فحسب بل بالقوة العلمية أيضا، فخصوم الإسلام قد يئسوا من أن ينتصروا على الإسلام بقوة عسكرية بعد أن كتلوا كل قواهم في الحروب الصليبية، ولم يبق لهم إلا أن يَدخلوا علينا من خلال مناهجهم ومن خلال المستشرقين هناك، والمستغربين منا فينقلوا لنا ثقافات أجنبية بعيدة عن منهجنا، وهم معذورون لأنهم لا يعلمون منهج الله في دين الله، إذن فالرباط لابد أن يكون أيضا في رباط الأفكار، ورباط العلم المادي.
إن خصوم الإسلام يدخلون على الناس من مداخل متعددة فيجب أن ننبه النشء إليها، يقولون: أوروبا ارتقت حضاريا وأنتم يا مسلمون تخلفتم.
نقول لهم: هل كان التخلف مقارنا للإسلام؟ لقد كانت الدولة الإسلامية هي الدولة الحضارية الأولى في العالم لمدة ألف سنة، وأوروبا التي تتشدقون بحضارتها كانت تعيش في العصور المظلمة. إن هؤلاء لم يعرفوا تاريخنا أو هم يتكلمون لأناس لا يعرفون تاريخهم.
إذن فالمرابطة أن توضح أمور دينك توضيحا يقف أمام أي وافدة قبل أن تفد بالعدوان المسلح، ويجب أن تقف لغزو الأفكار ولهدم المبادئ، ولذلك قال الحق: {اصبروا وصابروا ورابطوا}، وجماع كل ذلك الصبر على والصبر عن والصبر في، والمصابرة للعدو والتواصي بالصبر، والرباط بمعنييه المادي والمعنوي، أي بالأمور المادية والأمور المعنوية القيمية، ويختم الحق الآية بقوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ونعرف أنه حين قال لك: اتق الله تساوي أن يقول لك: اتق النار فمعنى اتقو الله: أي اجعلوا بينكم وبين غضب ربكم وقاية. ما هي الوقاية؟ أن تطيع، وما هي الطاعة؟ أن تنفذ ما أمر، وأن تنتهي عما نهى. فالذي يفسر التقوى بأنها الطاعة نقول له: نعم لأنها الوسيلة إلى وقايتك من غضب الله وعذابه، فالذي يفسرها بهذا يفسرها بالوسيلة، والذي يفسرها بالأخرى يفسرها بالغاية، فعندما يقال لك: اتق الله، أي اجعل بينك وبين النار التي هي من جنود الله وقاية، أي اجعل بينك وبين غضب الله وقاية، وإذا قال لك: اتَّقِ الله يعني أطعه في أمره وفي نهيه، فما هي الوسيلة لاتقاء النار واتقاء غضب الله؟ إنها الطاعة، فمرة تفسر التقوى بالوسيلة ومرة تفسر بالغاية.
وقلنا في قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إن الفلاح إما أن يكون في الدنيا وإما أن يكون في الآخرة في الدنيا: بأن ترتفع كلمة الحق وكلمة الإيمان وتنتصروا ولا أحد يذلكم ولا يجعلكم أحد تابعين له. هذا لون من الفلاح، ولكن على فرض أنهم فلحوا وضعفتم أنتم، في فترة من الزمن فثقوا أنكم تعملون لفلاح آخر هو فلاح الآخرة، وإلا فالذين يخاطبون بهذه الآية قبل أن يدركوا نصرا للإسلام على أعدائه، يفسرون الفلاح بماذا؟ الذين جاهدوا وتعبوا وعاشوا مضطهدين لا استقرار في حياتهم، وبعد ذلك ماتوا قبل أن يمكن للإسلام، كيف يكون فلاحهم؟ إن فلاحهم في الآخرة، ولذلك تجد الاحتياط في قصة أهل الكهف: {وَكَذلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف: 19-20].
ونلحظ في هذه القصة قوله الحق: {يَرْجُمُوكُمْ} هذه واحدة، {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا}.
إن كانوا يرجمونكم فسينتصرون عليكم في الدنيا، إنما ستأخذون الآخرة، وإن ردوكم إلى دينهم، فلن تفلحوا في الدنيا ولا في الآخرة، إذن فعناصر الفلاح المرادة للإنسان، إما في الدنيا وإما في الآخرة وإما فيهما معا إنّ عناصر الفلاح أن ننفذ أوامر الله في قوله: {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. اهـ.