فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف الإمام القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}.
الصبر فيما تفرد به العبد، والمصابرة مع العدو.
والرباط نوع من الصبر ولكن على وجه مخصوص.
ويقال أول الصبر التصبر، ثم الصبر ثم المصابرة ثم الاصطبار وهو نهاية.
ويقال اصبروا على الطاعات وعن المخالفات، وتصابروا في ترك الهوى والشهوات، وقطع المنى والعلاقات، ورابطوا بالاستقامة في الصحبة في عموم الأوقات والحالات.
ويقال اصبروا بنفوسكم وصابروا بقلوبكم، ورابطوا بأسراركم.
ويقال اصبروا على ملاحظة الثواب، وصابروا على ابتغاء القربة، ورابطوا في محل الدنوِّ والزلفة- على شهود الجمال والعِزَّة.
والصبر مُرٌّ مَذَاقُه إذا كان العبد يتحسَّاه على الغيبة، وهو لذيذٌ طعمُه إذا شربه على الشهود والرؤية.
{واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}: الفَلاَحُ الظَّفَرُ بالبُغْيَة، وهِمَّتُهم اليوم الظفر بنفوسهم، فعند ذلك يتم خلاصهم، وإذا ظفروا بنفوسهم ذبحوها بسيوف المجاهدة، وصلبوها على عيدان المكابدة، وبعد فنائهم عنها يحصل بقاءهم بالله. اهـ.

.التفسير الإشاري:

.قال نظام الدين النيسابوري:

التأويل: إن في خلق سموات القلوب وأطوارها، وخلق أرض النفوس وقرارها، واختلاف ليل البشرية وصفاتها، ونهار الروحانية وأنوارها، لآيات لأولي الألباب. الذين عبروا بقدمي الذكر والفكر عن قشر الوجود الجسماني، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم وللعالم إلهًا قادرًا حيًا عليمًا سميعًا بصيرًا متكلمًا مريدًا باقيًا. وإنما نالوا هذه المراتب لأنهم يذكرون الله في جميع الأحوال بالظاهر والباطن، ويتفكرون في خلق المصنوعات من البسائط والمركبات، ويقولون ما خلقت هذا باطلًا أي خلقته إظهارًا للحق على الخلق، ووسيلة للخلق إلى الحق. سبحانك تنزيهًا للحق عن الشبه بالخلق، {فقنا} باعد عنا عذاب نار قهرك والبعد عنك، ففيها كل الخزى والندامة والغواية والضلالة. ثم أخبر عن شرط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله: {ربنا إننا سمعنا} من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي مناديا {فاغفر لنا ذنوبنا} أي كما أسمعتنا النداء بالإرادة القديمة لا بسعي منا قبل أن تخلقينا. فاغفر لنا بفضلك ورحمتك. {لا أضيع عمل عامل منكم} بالظاهر والباطن {من ذكر أو أنثى} على قدر همتكم ورجوليتكم {فالذين هاجروا} عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة {وأخرجوا من ديارهم} من معاملات الطبيعة وديارها إلى عالم الحقيقة بسطوات تجلي صفات الربوبية {وأوذا في} طلبي بأنواع البلاء {وقاتلوا} مع النفس {وقتلوا} بسيف الصدق {لأكفرن عنهم} سيئات وجودهم {ولأدخلنهم جنات} الوصول فيها أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوّة والمجاهدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والوفاء والطلب والمحبة والحياء والكرم والشجاعة والعلم والحلم والعزة والقدرة والهمة وغيرها من المقامات والأخلاق {تجري من تحتها الأنهار} أنهار العناية {ثوابًا} من مقام العندية {والله عنده حسن الثواب} لايكون عند الجنة وغيرها {وإن من أهل الكتاب} من علماء الظاهر علماء متقين يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه، و{يؤمن بما أنزل إليكم} من الواردات والألهامات والكشوف {وما أنزل إليهم} من الخواطر الرحمانية {خاشعين لله} كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلى الله لشيء خضع له» {لا يشترون} بما أوتوا من العلم والحكمة عرض الدنيا {إن الله سريع الحساب} يوصلهم إلى مقام العندية قبل وفاتهم {اصبروا} على جهاد النفس بالرياضات {وصابروا} في مراقبة القلب عند الابتلاآت {ورابطوا} الأرواح للوصل بالله {واتقوا الله} في الالتفات إلى ما سواه {لعلكم تفلحون} فتفوزوا بالبقاء بالله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. اهـ.

.قال الألوسي:

ومن باب الإشارة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} أي العالم العلوي والعالم السفلي {واختلاف اليل والنهار} الظلمة والنور {لآيات لأوْلِى الألباب} [آل عمران: 190] وهم الناظرون إلى الخلق بعين الحق {الذين يَذْكُرُونَ الله قياما} في مقام الروح بالمشاهدة و{قعودًا} في محل القلب بالمكاشفة {وَقُعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ} أي تقلباتهم في مكامن النفس بالمجاهدة، وقال بعضهم: {الذين يذكرون الله قيامًا} أي قائمين باتباع أوامره و{قعودًا} أي قاعدين عن زواجره ونواهيه {وعلى جنوبهم} أي ومجتنبين مطالعات المخالفات بحال {وَيَتَفَكَّرُونَ} بألبابهم الخالصة عن شوائب الوهم {فِى خَلْقِ السموات والأرض} وذلك التفكر على معنيين، الأول: طلب غيبة القلوب في الغيوب التي هي كنوز أنوار الصفات لإدراك أنوار القدرة التي تبلغ الشاهد إلى المشهود، والثاني: جولان القلوب بنعت التفكر في إبداع الملك طلبًا لمشاهدة الملك في الملك فإذا شاهدوا قالوا: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا باطلا} بل هو مرايا لأسمائك ومظاهر لصفاتك، ويفصح بالمقصود قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل ** وكل نعيم لا محالة زائل

{سبحانك} أي تنزيهًا لك من أن يكون في الوجود سواك {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] وهي نار الاحتجاب بالأكوان عن رؤية المكون {رَبَّنَا أنك مَن تُدْخِلِ النار} وتحجبه عن الرؤية {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وأذللته بالبعد عنك {وَمَا للظالمين} الذين أشركوا ما لا وجود له في العير ولا النفير {مِنْ أَنصَارٍ} [آل عمران: 192] لاستيلاء التجلي القهرى عليهم {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا} بأسماع قلوبنا {مُنَادِيًا} من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن {يُنَادِى للإيمان} العياني {وَإِذَا أُنزِلَتْ الرشد فَئَامَنَّا} أي شاهدوا ربكم فشاهدنا، أو {إننا سمعنا} في المقام الأول {مناديًا ينادي للإيمان} والمراد به هو الله تعالى حين خاطب الأرواح في عالم الذر بقوله سبحانه: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] فإن ذلك دعاء لهم إلى الإيمان {فآمنا} يعنون قولهم: {بلى} حين شاهدوه هناك سبحانه: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي ذنوب صفاتنا بصفاتك {وَكَفّرْ عَنَّا} سيئات أفعالنا برؤية أفعالك {وَتَوَفَّنَا} عن ذواتنا بالموت الاختياري {مَعَ الأبرار} [آل عمران: 193] وهم القائمون على حد التفريد والتوحيد {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على} ألسنة {رُسُلِكَ} بقولك: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} بأن تحجبنا بنعمتك عنك {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} لكمال رحمته {أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ} القلب وعمله مثل الإخلاص واليقين {أَوْ أنثى} النفس وعملها إذا تركت المجاهدات والطاعات القالبية {بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ} إذ يجمعكم أصل واحد وهو الروح الإنسانية {فالذين هاجروا} من غير الله تعالى إلى الله عز وجل: {وَأُخْرِجُواْ مِن ديارهم} وهي مألوفات أنفسهم {وَأُوذُواْ في سَبِيلِى} بما قاسوا من المنكرين، وعن بعض العارفين أن القوم إذا لم يذوقوا مرارة إيذاء المنكرين لم يفوزوا بحلاوة كأس القرب من الله تعالى، ولهذا قال الجنيد قدس سره: جزى الله تعالى إخواننا عنا خيرًا ردونا بجفائهم إلى الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ} أنفسهم فيّ وهي أعدى أعدائهم {وَقُتّلُواْ} بسيف الفناء {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سيئاتهم} الصغائر والكبائر من بقايا صفاتهم وذواتهم {وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جنات} ثلاث وهي جنة الأفعال، وجنة الصفات، وجنة الذات {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} أنهار العلوم والتجليات {ثَوَابًا مّن عِندِ الله} الجامع لجميع الصفات {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} [آل عمران: 195] فلا يكون بيد غيره ثواب أصلًا {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} أي حجبوا عن التوحيد {فِى البلاد} [آل عمران: 196] في المقامات الدنيوية والأحوال {متاع قَلِيلٌ} لسرعة زواله وعدم نفعه {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} الحرمان {وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 197] الذي اختاروه بحسب استعدادهم {لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ} بأن تجردوا كمال التجرد {لَهُمْ جنات} ثلاث عوض ذلك {نُزُلاٍ مّنْ عِندِ الله} معدًا لهم {وَمَا عِندَ الله} من نِعَم المشاهدة ولطائف القربة وحلاوة الوصلة {خَيْرٌ لّلابْرَارِ} [آل عمران: 198] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} ويحقق التوحيد الذاتي {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ} من علم التوحيد والاستقامة {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} من علم المبدأ والمعاد ونيل الدرجات {خاشعين للَّهِ} للتجلي الذاتي وما تجلى الله تعالى لشيء إلا خضع له {لاَ يَشْتَرُونَ بآيات الله} تعالى وهي تجليات صفاته {ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ} وهي تلك الجنات {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} [آل عمران: 199] فيوصل إليهم أجرهم بلا إبطاء {الحساب يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} عن المعاصي {وَصَابِرُواْ} على الطاعات {وَرَابِطُواْ} الأرواح بالمشاهدة {واتقوا الله} من مشاهدة الأغيار {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200] بالتجرد عن همومكم وخطراتكم، أو {اصبروا} في مقام النفس بالمجاهدة {وصابروا} في مقام القلب مع التجليات {ورابطوا} في مقام الروح ذواتكم حتى لا تعتريكم فترة أو غفلة واتقوا الله عن المخالفة والإعراض والجفاء {لعلكم} تفوزون بالفلاح الحقيقي، نسأل الله تعالى أن يجعل لنا الحظ الأوفى من امتثال هذه الأوامر وما يترتب عليها بمنه وكرمه.
وهذه الآيات العشر كان يقرؤها صلى الله عليه وسلم كل ليلة كما أخرج ذلك ابن السني، وأبو نعيم، وابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
وأخرج الدارمي عن عثمان قال: من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب الله تعالى له قيام ليلة، وأخرج الطبراني من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعًا «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلى الله تعالى عليه وملائكته حتى تجب الشمس»، وخبر من قرأ سورة آل عمران أعطي بكل آية أمانًا على جسر جهنم موضوع مختلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عابوا على من أورده من المفسرين، نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن الزلل ويحفظنا من الخطأ والخطل أنه جواد كريم رؤوف رحيم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {الذين يَذْكُرُونَ الله} فيه خمسة أوجهٍ:
أحدهما: أنه نعت لِـ {لأُوْلِي الألباب} فهو مجرور.
ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين.
ثالثها: أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم.
رابعها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: ربنا. قاله أبو البقاء.
خامسها: أنه بدل من {لأُوْلِي الألباب} ذكره مكِّيٌّ، والأول أحسنها.
و{قِيَامًا وَقُعُودًا} حالانِ من فاعلٍ {يَذْكُرُونَ} و{وعلى جُنُوبِهِمْ} حال- أيضا- فيتعلق بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قيامًا وقعودًا ومضطجعين، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة، عكس الآية الأخْرَى- وهي قوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا} [يونس: 12]- حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة.
و{قِيَامًا وَقُعُودًا} جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى: ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا.
قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان:
أظهرهما: أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها.
والثاني: أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفًا على {قِيَامًا} أي: يذكرونه متفكِّرين.
فإن قيل: هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو؟.
فالجوابُ: أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال.
وخَلْق فيه وجهان:
أحدهما: أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدرًا مضافًا لمفعوله.
الثاني: أنه بمعنى المفعول، أي: في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي: يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها.
وقال أبو البقاء: وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى.
قال شِهَابُ الدّينِ: وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل.
قوله: {رَبَّنَا} هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف، تقديره: يقولون، والجملة القولية فيها وجهان:
أظهرهما: أنها حال من فاعل {يَتَفَكَّرُونَ} أي: يتفكرون قائلين قائلين ربنا، وإذا أعربنا {يَتَفَكَّرُونَ} حالًا- كما تقدم- فيكون الحالان متداخلين.
والوجه الثاني: {هَذَا} إشارة إلى الخلق، إن أريد به المخلوق، وأجاز أبو البقاء- حال الإشارة إليه بـ {هذا}- أن يكون مصدرًا على حاله، لا بمعنى المخلوق، وفيه نظرٌ.
أو إلى السّموات والأرض- وإن كانا شيئين، كل منهما جمع- لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ.
قوله: {بَاطِلًا} في نصبه خمسةُ أوجهٍ:
أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: خَلْقًا باطلًا، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالًا من ضمير ذلك المصدر.
الثاني: أنه حالٌ من المفعولِ به، وهو {هَذَا}.
الثالث: أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ- وهو الباء- والمعنى: ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ.
الرابع: أنه مفعول من أجله، وفاعل قد يجيء مصدرًا، كالعاقبة، والعافية.
الخامس: أنه مفعولٌ ثانٍ لخلق قالوا: وخلق إذا كانت بمعنى جَعَلَ التي تتعدى لاثنين، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ، بل المعروف أن جعل إذا كانت بمعنى خلق تعدت لواحدٍ فقط.
وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالًا مِنْ {هَذَا} وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38].
قوله: {سُبْحَانَكَ} تقدم إعرابه، وهو معترض بين قوله: {رَبَّنَا} وبين قوله: {فَقِنَا}.
وقال أبو البقاء: دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ، والتقدير: إذا نَزهناك، أو وحَّدْناك فقنا.
وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} طلبهم وقاية النار.
وقيل: هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه {سُبْحَانَكَ} من معنى الفعل، أي: سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء.
قوله: {رَبَّنَا أنك مَن تُدْخِلِ النار} من شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و{تُدْخِل} مجزوم بها، و{فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} جوابٌ لها.
وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين:
الأول: أن تكون من منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}. وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط.
الثاني: أن تكون {مَنْ} مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبرًا لِـ {إنَّ}. ويقال: خزيته وأخزيته ثلاثيًا ورباعيًا- والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْيًا- إذا افتضح- وخزايةً- إذا استحيا- فالفعلُ واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ.
قال الواحديُّ: الإخزاء- في اللغو- يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض.
قال الزَّجَّاجُ: أخْزَى الله العدُوَّ: أي: أبعده.
وقال غيره: أخزاه اللهُ: أي: أهانه.
وقال شمر: أخزاه اللهُ: أي: فضحه، وفي القرآن: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78].
وقال المفضَّلُ: أخزاه الله: أي: أهلكه.
وقال ابنُ الأنباري: الخِزْي- في اللغة- الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة.
وقال الزمخشريُّ: {فَقَدْ أخْزَيْتَهُ} أي: أبلغت في إخزائه.
قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} مِنْ زائدة، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ، وفي مجرورها وجهانِ:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره في الجارّ قبله، وتقديمه- هنا- جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً.
الثاني: أنه فاعل بالجارِّ قبله، لاعتماده على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميعِ. اهـ. بتصرف يسير.