فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك، على أنه قد قيل: إن آخر آية منها، آية الكلالة، هي آخر آية نزلت من القرآن، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة، التي في آخرها مدة طويلة، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى.
ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف.
ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75] يعني مكة.
وفيها آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي، صاحب مفتاح الكعبة، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم، نحو قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} إلخ، وسوى التهديد بالقتال، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة.
وتوهين بأسهم عن المسلمين، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن، وصار المسلمون في قوة عليهم، وأن معظمها، بعد التشريع، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين، وجدال مع النصارى ليس بكثير، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلت: 1].
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارة إلى النكاح والصداق، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين، ومعاشرتهن والمصالحة معهن، وبيان ما يحل للتزوج منهن، والمحرمات بالقرابة أو الصهر، وأحكام الجواري بملك اليمين.
وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة، وتقسيم ذلك، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة، والتحذير من اتباع الهوى، والأمر بالبر، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة، والطهارة، وصلاة الخوف.
ثم أحوال اليهود، لكثرتهم بالمدينة، وأحوال المنافقين وفضائحهم، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين.
وأحكام معاملة المشركين ومساويهم، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب، ونهي عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة.
والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح.
وبث المحبة بين المسلمين. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة النساء مدنية وآياتها ست وسبعون ومائة.
التعريف بسورة النساء:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هذه السورة مدنية، وهي أطول سور القرآن- بعد سورة البقرة- وترتيبها في النزول بعد سورة الممتحنة، التي تقول الروايات: إن بعضها نزل في غزوة الفتح في السنة الثامنة للهجرة، وبعضها نزل في غزوة الحديبية قبلها في السنة السادسة.
ولكن الأمر في ترتيب السور حسب النزول- كما بينا في مطالع الكلام على سورة البقرة في الجزء الأول- ليس قطعيا. كما أن السورة لم تكن تنزل كلها دفعة واحدة في زمن واحد. فقد كانت الآيات تتنزل من سور متعددة؛ ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بوضع كل منها في موضعه من سورة بذاتها. والسورة الواحدة- على هذا- كانت تظل مفتوحة فترة من الزمان تطول أو تقصر. وقد تمتد عدة سنوات. وفي سورة البقرة كانت هناك آيات من أوائل ما نزل في المدينة، وآيات من أواخر ما نزل من القرآن.
وكذلك الشأن في هذه السورة. فمنها ما نزل بعد سورة الممتحنة في السنة السادسة وفي السنة الثامنة كذلك. ولكن منها الكثير نزل في أوائل العهد بالهجرة. والمنتظر- على كل حال- أن يكون نزول آيات هذه السورة قد امتد من بعد غزوة أحد في السنة الثالثة الهجرية، إلى ما بعد السنة الثامنة، حين نزلت مقدمة سورة الممتحنة.
ونذكر على سبيل المثال الآية الواردة في هذه السورة عن حكم الزانيات: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}.. فمن المقطوع به أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النور التي بينت حد الزنا: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}.. وهذه الآية الأخيرة نزلت بعد حديث الإفك في السنة الخامسة أو في السنة الرابعة على رواية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: «خذوا عني. خذوا عني. قد جعل الله لهن سبيلا...» إلخ. وكان السبيل هو هذا الحكم الذي تضمنته آية النور.
وفي السورة نماذج كثيرة كهذا النموذج، تدل على تواريخ نزولها على وجه التقريب. على النحو الذي بيناه في مطالع الكلام عن سورة البقرة.
هذه السورة تمثل جانبا من الجهد الذي أنفقه الإسلام في بناء الجماعة المسلمة، وإنشاء المجتمع الإسلامي؛ وفي حماية تلك الجماعة، وصيانة هذه المجتمع. وتعرض نموذجا من فعل القرآن في المجتمع الجديد، الذي انبثق أصلا من خلال نصوصه، والذي نشأ ابتداء من خلال المنهج الرباني. وتصور بهذا وذلك طبيعة هذا المنهج في تعامله مع الكائن الإنساني؛ كما تصور طبيعة هذا الكائن وتفاعله مع المنهج الرباني.. تفاعله معه وهو يقود خطاه في المرتقى الصاعد، من السفح الهابط، إلى القمة السامقة.. خطوة خطوة، ومرحلة مرحلة.. بين تيارات المطامع والشهوات والمخاوف والرغائب؛ وبين أشواك الطريق التي لا تخلو منها خطوة واحدة؛ وبين الأعداء المتربصين على طول الطريق الشائك!
وكما رأينا من قبل- في سورة البقرة وسورة آل عمران- مواجهة القرآن لكل الملابسات المحيطة بنشأة الجماعة المسلمة في المدينة؛ وبيان طبيعة المنهج الرباني الذي تنشأ الجماعة على أساسه؛ وتقرير الحقائق الأساسية التي يقوم عليها التصور الإسلامي، والقيم والموازين التي تنبثق من هذا التصور؛ وإبراز التكاليف التي يقتضيها النهوض بهذه الأمانة في الأرض؛ وتصوير طبيعة أعداء هذا المنهج وأعداء هذه الجماعة التي تقوم عليه في الأرض، وتحذيرها من وسائل أولئك الأعداء ودسائسهم؛ وبيان ما في عقائدهم من زيف وانحراف، وما في وسائلهم من خسة والتواء... إلخ... فكذلك نرى القرآن- في هذه السورة- يواجه جملة هذه الملابسات والحقائق..
إلا أن لكل سورة من سور القرآن شخصيتها الخاصة، وملامحها المميزة، ومحورها الذي تشد إليه موضوعاتها جميعا.. ومن مقتضيات الشخصية الخاصة أن تتجمع الموضوعات في كل سورة وتتناسق حول محورها في نظام خاص بها، تبرز فيه ملامحها، وتتميز به شخصيتها. كالكائن الحي المميز السمات والملامح، وهو- مع هذا- واحد من جنسه على العموم!
ونحن نرى في هذه السورة- ونكاد نحس- أنها كائن حي، يستهدف غرضا معينا، ويجهد له، ويتوخى تحقيقه بشتى الوسائل.. والفقرات والآيات والكلمات في السورة، هي الوسائل التي تبلغ بها ما تريد! ومن ثم نستشعر تجاهها- كما نستشعر تجاه كل سورة من سور هذا القرآن- إحساس التعاطف والتجاوب مع الكائن الحي، المعروف السمات، المميز الملامح، صاحب القصد والوجهة، وصاحب الحياة والحركة، وصاحب الحس والشعور!
إن السورة تعمل بجد وجهد في محو ملامح المجتمع الجاهلي- الذي منه التقطت المجموعة المسلمة- ونبذ رواسبه؛ وفي تكييف ملامح المجتمع المسلم، وتطهيره من رواسب الجاهلية فيه، وجلاء شخصيته الخاصة. كما تعمل بجد وجهد في استجاشته للدفاع عن كينونته المميزة، وذلك ببيان طبيعة المنهج الذي منه انبثقت هذه الكينونة المميزة، والتعريف بأعدائه الراصدين له من حوله- من المشركين وأهل الكتاب وبخاصة اليهود- وأعدائه المتميعين فيه- من ضعاف الإيمان والمنافقين- وكشف وسائلهم وحيلهم ومكايدهم، وبيان فساد تصوراتهم ومناهجهم وطرائقهم. مع وضع الأنظمة والتشريعات التي تنظم هذا كله وتحدده، وتصبه في القالب التنفيذي المضبوط.
وفي الوقت ذاته نلمح رواسب الجاهلية، وهي تتصارع مع المنهج الجديد، والقيم الجديدة، والاعتبارات الجديدة. ونرى ملامح الجاهلية وهي تحاول طمس الملامح الجديدة الوضيئة الجميلة. ونشهد المعركة التي يخوضها المنهج الرباني بهذا القرآن في هذا الميدان. وهي معركة لا تقل شدة ولا عمقا ولا سعة، عن المعركة التي يخوضها في الميدان الآخر، مع الأعداء الراصدين له والأعداء المتميعين فيه!
وحين ندقق النظر في الرواسب التي حملها المجتمع المسلم من المجتمع الجاهلي الذي منه جاء، والتي تعالج هذه السورة جوانب منها- كما تعالج سور كثيرة جوانب أخرى- قد ينالنا الدهش لعمق هذه الرواسب، حتى لتظل تغالب طوال هذه الفترة التي رجحنا أن آيات السورة كانت تتنزل فيها.. ومن العجب أن تظل لهذه الرواسب صلابتها حتى ذلك الوقت المتأخر.. ثم ينالنا الدهش كذلك للنقلة البعيدة السامقة الرفيعة التي انتهى إليها هذا المنهج العجيب الفريد، بالجماعة المسلمة. وقد التقطها من ذلك السفح الهابط، الذي تمثله تلك الرواسب، فارتقى بها في ذلك المرتقى الصاعد إلى تلك القمة السامقة.. القمة التي لم ترتق إليها البشرية قط، إلا على حداء ذلك المنهج العجيب الفريد. المنهج الذي يملك وحده أن يلتقط الكينونة البشرية من ذلك السفح، فيرتقي بها إلى تلك القمة، رويدا رويدا، في يسر ورفق، وفي ثبات وصبر، وفي خطو متناسق موزون!
والذي يدقق النظر في هذه الظاهرة الفريدة في تاريخ البشرية، يتجلى له جانب من حكمة الله في اختيار الأميين في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، لهذه الرسالة العظيمة.. حيث يمثلون سفح الجاهلية الكاملة، بكل مقوماتها. الاعتقادية والتصورية، والعقلية والفكرية، والأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، ليعرف فيهم أثر هذا المنهج، وليتبين فيهم كيف تتم المعجزة الخارقة، التي لا يملك أن يأتي بها منهج آخر، في كل ما عرفت الأرض من مناهج، وليرتسم فيهم خط هذا المنهج، بكل مراحله- من السفح إلى القمة- وبكل ظواهره، وبكل تجاربه؛ ولترى البشرية- في عمرها كله- أين تجد المنهج الذي يأخذ بيدها إلى القمة السامقة، أيا كان موقفها في المرتقى الصاعد. سواء كانت في درجة من درجاته، أم كانت في سفحة الذي التقط منه الأميين!