فصل: قال محمد أبو زهرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [116].
{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب. من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا. ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا} [123- 124].
{ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما} [147].
{إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما} [150- 152].
{يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة. انتهوا خيرا لكم. إنما الله إله واحد. سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا. لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا} [171- 173].
ثم الأسس الأخلاقية الرفيعة، التي يقام عليها بناء المجتمع المسلم.. والسورة تعرض من هذه الأسس جمهرة صالحة. سبقت الإشارة إلى بعضها. فالعنصر الأخلاقي أصيل وعميق في كيان التصور الإسلامي، وفي كيان المجتمع المسلم؛ بحيث لا يخلو منه جانب من جوانب الحياة ونشاطها كله.. ونحن نكتفي هنا بالإشارة السريعة المجملة إلى بعض الأسس المستمدة من هذا العنصر الأصيل في حياة الجماعة المسلمة؛ بالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه من محتويات السورة..
إنه مجتمع يقوم على العبودية لله وحده؛ فهو مجتمع متحرر إذن من كل عبودية للعبيد، في أية صورة من صور العبودية، المتحققة في كل نظام على وجه الأرض، ما عدا النظام الإسلامي؛ الذي تتوحد فيه الألوهيةوتتمحض لله؛ فلا تخلع خاصية من خواصها على أحد من عباده؛ ولا يدين بها الناس لأحد من عبيده.. ومن هذه الحرية تنطلق الفضائل كلها، وتنطلق الأخلاقيات كلها، لأن مرجعها جميعا إلى ابتغاء رضوان الله، ومرتقاها ممتد إلى التحلي بأخلاق الله، وهي مبراة إذن من النفاق والرياء، والتطلع إلى غير وجه الله.. وهذا هو الأصل الكبير في أخلاقية الإسلام، وفي فضائل المجتمع المسلم..
ثم ترد بعض مفردات العنصر الأخلاقي- إلى جانب ذلك الأصل الكبير- في السورة.. فهو مجتمع يقوم على الأمانة. والعدل. وعدم أكل الأموال بالباطل. وعدم النجوى والتآمر إلا في معروف. وعدم الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم. والشفاعة الحسنة. والتحية الحسنة. ومنع الفاحشة. وتحريم السفاح والمخادنة. وعدم الاختيال والفخر، والرياء والبخل، والحسد والغل.. كما يقوم على التكافل والتعاون والتناصح والتسامح، والنخوة والنجدة، وطاعة القيادة التي لها وحدها حق الطاعة.. إلخ.
وقد سبق ذكر معظم النصوص التي تشير إلى هذه الأسس.. وسيرد تفصيلها عند استعراضها في موضعها من السياق.. فنكتفي هنا بالإشارة إلى الحادث الفذ، الذي يشير إلى القمة السامقة، التي تتطلع إليها أنظار الإنسانية، وتظل تتطلع، ولا تبلغ إليها أبدا- كما لم تبلغ إليها قط- إلا في ظل هذا المنهج الفريد العجيب:
في الوقت الذي كانت يهود تكيد ذلك الكيد الجاهد للإسلام ونبيه، وللصف المسلم وقيادته.. كان القرآن يصنع الأمة المسلمة على عين الله، فيرتفع بتصوراتها وأخلاقها، ونظامها وإجراءاتها إلى القمة السامقة.. وكان يعلج حادثا يتعلق بيهودي فرد، هذا العلاج الذي سنذكره..
كان الله يأمر الأمة المسلمة بالأمانة المطلقة، وبالعدل المطلق بين الناس.. الناس على اختلاف أجناسهم وعقائدهم، وقومياتهم وأوطانهم.. كان يقول لهم: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا} [آية 58].. وكان يقول لهم: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما. فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا}.
ثم.. كانت الآيات ذوات العدد من القرآن تتنزل لإنصاف يهودي.. فرد.. من اتهام ظالم، وجهته إليه عصبة من المسلمين من الأنصار، ممن لم ترسخ في قلوبهم هذه المبادئ السامقة بعد، ولم تخلص نفوسهم من رواسب الجاهلية كل الخلوص. فدفعتهم عصبية الدم والعشيرة إلى تبرئة أحدهم باتهام هذا اليهودي! والتواطؤ على اتهامه، والشهادة ضده- في حادث سرقة درع- أمام النبي صلى الله عليه وسلم حتى كاد أن يقضي عليه بحد السرقة، ويبرئ الفاعل الأصلي!
تنزلت هذه الآيات ذوات العدد، فيها عتاب شديد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيها إنحاء باللائمة على العصبة من أهل المدينة الذين آووا النبي صلى الله عليه وسلم وعزروه ونصروه.. إنصافا ليهودي، من تلك الفئة التي تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد الإيذاء، وتنصب لدعوته، وتكيد له وللمسلمين هذا الكيد اللئم! وفيها تهديد وإنذار لمن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرمي به بريئا. وفيها- من ثم- تلك النقلة العجيبة، إلى تلك القمة السامقة، وتلك الإشارة الوضيئة إلى ذلك المرتقى الصاعد.
لقد تنزلت هذه الآيات كلها في حادث ذلك اليهودي.. من يهود..
{إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما. ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما. يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا. ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما. ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا. ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما. لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا. إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} [105- 116].
فماذا؟ ماذا يملك الإنسان أن يقول؟ ألا أنه المنهج الفريد، الذي يملك- وحده- أن يلتقط الجماعة البشرية، من سفح الجاهلية ذاك؛ فيرتقي بها في ذلك المرتقى الصاعد؛ فيبلغ بها إلى تلك القمة السامقة، في مثل هذا الزمن القصير؟!
والأن نكتفي بهذه التقدمة للسورة، وموضوعاتها، وخط سيرها.. وقد أشرنا إلى ذلك الحشد من الحقائق والتصورات، والتوجيهات والتشريعات، التي تتضمنها.. مجرد إشارة.. عسى أن نبلغ شيئا في بيانها التفصيلي، عند استعراض النصوص في مكانها من السياق. والموفق هو الله. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

سورة النساء:
بين يدي السورة:
قبل أن نتجه إلى التفسير التحليلى لآيات هذه السورة، لابد من تمهيد موجز يعطى القارئ صورة لما اشتملت عليه.
لقد اتفق الرواة على أن هذه السورة مدنية، أي نزلت بعد الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأن ما اشتملت عليه يدل على أنها نزلت بعد أن كان للإسلام دولة تنظم علاقاتها بغيرها، وبعد أن من الله تعالى على الذين استضعفوا في الأرض وجعلهم أئمة يهدون بأمر الله تعالى فيها.
وقد روى أن ابن عباس- رضى الله عنهما- قال: «ثمانى آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. أولهن: {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم}، والثانية: {والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما}، والثالثة: {يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا}، والرابعة: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} والخامسة: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما} والسادسة: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا}، والسابعة: {وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما} والثامنة: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}». وإن صحت هذه الرواية عن ابن عباس فإنها تدل على أنه اتجه إلى عدل الله ورحمته بعباده، وفتحه باب التوبة والمغفرة. وإلا فإن القرآن كله بكل سورة وآياته خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت.
وسورة النساء هي سورة الإنسانية، ففيها عين القرآن الكريم العلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض، وما ينبغى أن تنهجه المجتمعات الفاضلة في جعل العلاقة الإنسانية الأصيلة تسير في مجراها الطبيعى الذي رسمه رب العالمين بمقتضى الفطرة، وفيها ما حده الله تعالى لعلاح الانحراف الذي ينحرف به ذوو الأهواء من الآحاد والجماعات.
ابتدئت السورة الكريمة ببيان الارتباط الإنسانى الجامع الذي تلتقى عنده البشرية جميعها، فقال سبحانه: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها}، وإذا كان الناس جميعا ينتهون إلى أصل واحد فإنه لابد من التساوى، ولابد من التراحم لهذه الرحم الواصلة، ثم إن أول مظاهر التراحم هو الأخذ بيد الضعفاء، وأوضح الضعفاء مظهرا أولئك اليتامى الذين لا عائل يعولهم، وإن اليتيم المقهور هو الذي يتولد فيه الانحراف، ومن الانحراف تكون العداوة، ويكون الشر المستطير، ولذلك ابتدئت السورة بعد إثبات الوحدة الجامعة بعلاج اليتم لتكون الجماعات في طريق المودة.
واليتيم لا يحتاح فقط إلى الغذاء والكساء بل يحتاح إلى المودة والإصلاح في نفسه وماله: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا}.
وفى سبيل بيان حقوق اليتامى يبين سبحانه نظام التوزيع المالى للأسرة عندما يموت واحد منها، فيبين الميراث وأنه حد لله تعالى للحقوق المالية لمن يخلفون المتوفى في ماله، وأن الانحراف عنه عصيان لله تعالى.
وبعد ذلك أخذ يبين الله سبحانه وتعالى تكوين الأسرة الإسلامية، وأساس التكوين هو العلاقة بين الرجل والمرأة، أو بتعبير القرآن السامى العلاقة بين النفس وزوجها، فنفى أن تكون العلاقة بينهما كالعلاقة بين أنثى الحيوان والذكر، بل العلاقة بينهما أسمى وأعلا، ولذلك أشار إلى عقوبة من ينزل إلى مرتبة الحيوان فقال: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}. وبين أن باب التوبة مفتوح لمن يقع في هذه الخطيئة الحيوانية، ثم أخذ يرسم- سبحانه وتعالى- الطريق السليم للعلاقة بين الرجل والمرأة، وهو الزواح، وحرم ما كان عليه أهل الجاهلية من وراثة النساء وسمى ذلك مقتا، ثم أخذ يبين سبحانه شرائط العقد الصحيح، والنساء اللائى يحرمن في الزواح، ثم نفى سبحانه أن يكون اتخاذ الأخدان سبيلا من سبل تكوين الأسرة ومن اتخاذ الأخدان ما يسمى بالمتعة وهو اتخاذ المرأة لأمد محدود في نظير أجر معلوم.