فصل: مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهي عامة محكمة شاملة لكل من هذه صفته إلى يوم القيامة، وهؤلاء داخلون في قوله تعالى: {الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} الآية 269 من البقرة المارة {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ} فخرا وسمعة لنشر الصيت وعلو الجاه ورفع القدر {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} فهؤلاء هم المنافقون الذين هم قرناء الشياطين.
وقد أنزلت فيهم {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِينًا فَساءَ قَرِينًا (38)} قرينه وبئس الخليل خليله {وَما ذا عَلَيْهِمْ} أي مشقة تصيبهم وأي تبعة تلحق بهم {لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} لعيال اللّه وعباده {وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)} بأنهم لا ينفقون ولكن ليظهر ذلك لخلقه وهم لو عقلوا أن لا وبال عليهم بالإيمان ولا نقص عليهم بالإنفاق ولكن أبت نفوسهم الخبيثة ذلك لأنها منطوية على البخل وسوء الظن باللّه {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ} النملة الصغيرة، وما يرى في الهباء هو الذر، وهذا بالنسبة لما تستحضره العرب وتضرب به المثل في القلة وإلا فإنه تعالى لا ينقص أحدا شيئا، والذرة مركبة من أشياء كثيرة وقابلة للقسمة {وَإِنْ تَكُ} تلك الذرة {حَسَنَةً يُضاعِفْها} لصاحبها {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} وما يصفه اللّه بالعظم، فلا يعرف مقداره إلا هو، وفي هذه الآية ابطال قول المعتزلة في تخليد مرتكب الكبيرة، مع أن له حسنات كثيرة.
روى مسلم عن أنس بن مالك في هذه الآية قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إن اللّه لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة.
وأما الكافر فيعطى بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها.
قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يشهد عليهم بما وقع منهم وعليهم {وَجِئْنا بِكَ} يا سيد الرسل {عَلى هؤُلاءِ} الذين بلّغتهم وأرشدتهم ونصحتهم وتليت عليهم آياتي {شَهِيدًا (41)} على من أجاب دعوتك وصدق ما جئت به ومن جحدها ولم يلتفت لتذكيرك بها روى البخاري، ومسلم عن ابن مسعود قال قال صلّى اللّه عليه وسلم اقرأ علي القرآن فقلت يا رسول اللّه أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال إني أحب أن أسمعه من غيري، فقال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية، قال حسبك الآن فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
قال تعالى: {يَوْمَئِذٍ} يوم يجاء بالرسل لتشهد على أممهم في ذلك المشهد العظيم، ويفرح المؤمنون المصدقون بما شهدوا به عليهم من الانقياد لأوامر اللّه والانتهاء عن نواهيه {يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ} في الدنيا ولم يمتثلوا أوامره التي بلغهم إياها فيتمنوا المرة بعد المرة {لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ} فيغوصون فيها كالموتى أو تخسف فتنطبق عليهم خوفا وخجلا من سوء أعمالهم التي يظهرها اللّه لهم ويسألهم عنها فيعترفون بها كلها {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} فلا يقدرون أن يخفوا شيئا فعلوه في الدنيا لأنهم إن سكتوا أو جحدوا نطقت بها جوارحهم، فتعترف كل جارحة بما وقع منها وزمانه ومكانه وسببه.

.مطلب أن الخمر الثالثة ونزول آية التحويم والأصول المتممة في النطق، وعدم اعتبار ردة السكران وطلاقه:

قالوا لما صنع عبد الرحمن بن عوف طعاما ودعا نفرا من الأصحاب فأكلوا وقدم لهم الخمر فشربوا لأنها لم تحرم بعد على القطع، ثم قدموا أحدهم يصلي بهم المغرب فقرأ «أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» بدل لا أعبد ما تعبدون، أنزل اللّه تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا} باحتلام أو غيره.
والجنب لفظ يستوي فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} مسافرين عادمي الماء عبّر عن التيمم بالمسافر لأن غالب حاله عدم الماء في البادية {حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} وتحقق لكم مضرة الماء بتجربة أو اخبار حاذق ملم {أَوْ} كنتم {عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} هو المحل المنخفض يذهب إليه لقضاء الحاجة فيه كي لا يرى، وكنّى به عن الحدث {أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} جامعتموهن، وكنّى بالملامسة عن الجماع تحاشيا عن ذكره وتعليما للناس أن يتأدبوا بآداب القرآن فلا ينطقوا بكلام مستهجن تمجه النفس ويأباه الطبع السليم من كل ما ينافي الأدب، ولاسيما ما يتعلق بالنساء فيكنّون في كل ما يتحاشى عن ذكره ويتعالى الأديب عن التصريح به ويتباعد الأريب عنه، فإذا وقعتم أيها الناس في هذه الحالة ولم تجدوا ما تنطهرون به {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً} تغتسلون به أو لم تقدروا على استعماله أو لم تستطيعوا وصوله لخوف من حيوان أو قاطع طريق أو من يترصد لقبضكم وحبسكم أو لم يكن عندكم آلة تنضحون بها الماء {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} هو وجه الأرض مطلقا ترابا أو غيره {طَيِّبًا} طاهرا، وإذا أردتم التيمم به {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا} يصفح عن عباده وييسر لهم برخصه {غَفُورًا (43)} للخطأ والتقصير.
اعلم أن صدر هذه الآية هو الآية الثالثة النازلة في الخمر الممهدة لتحريمه على القطع كما أشرنا إليه في الآيتين 220 من البقرة المارة و67 من سورة النحل وليس فيهما تصريح المنع، والمنع في هذه مقيد في الصلاة فقط ولذلك لم ينته عن الخمر بعد نزولها إلا ذوو النفوس الزكية العارفون مغزى هذا النهي الوارد فيها، وبقي مكبا عليها من لم يتصف بتلك الصفة الطاهرة أو من لم تكن عنده ملكة كافية لإدراك ذلك النهي المقيد في حال الصلاة، فلم تكن رادعة على الجزم كما أن آية البقرة قد بنيت على دفع المضرة وهي سلب العقل والمال وجلب المنفعة وهي المال واللذة وهو من الاوليات التي هي أول أقسام اليقينيات التي هي نتيجة البرهان، كقولك الواحد نصف الاثنين، والكل أعظم من الجزء، والراحة خير من التعب.
والثاني مشاهدات كقولك النار محرقة والسماء فوقنا، والأرض تحتنا، والماء مزيل الظمأ.
والثالث مجربات كقولك شرب المسهل مطلق، وتعاطي الدواء نافع، والاكل مزيل للجوع، والشرب مزيل للعطش.
والرابع حدسيات أي ظنيات كنور القمر مستفاد من الشمس، وبعد وقرب السيارات بعضها من بعض ومن الأرض، وعدد النجوم وحجمها، وحصول المد والجزر يتغيّر وقته باختلاف طلوع القمر، والخامس متواترات كثبوت نبوة الأنبياء، وإرسالهم من قبل اللّه، وإنزال الكتب عليهم لهداية البشر.
وعلى هذا فإن كون دفع المضرة مقدم على جلب المنفعة مما لا يتردد فيه عاقل، وقد وضعت قاعدة من قواعد المجلة الشريفة بصورة درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، إلا أن هذه الآية لم تكن زاجرة على الجزم من تعاطي الخمر أيضا ولهذا بقي القسم الأعظم يتعاطاها في غير الصلاة لأن النفوس جبلت على الميل للشهوات والجنوح للذات لأنها شريرة بالطبع ما لم تهذب وتصلح وتمني وتؤمل، وسنأتي على القول الفصل في هذا البحث عند تفسير الآية الرابعة الحاسمة في هذا الشأن عدد 90 من المائدة الآتية إن شاء اللّه تعالى.
وتشير هذه الآية إلى أن ردة السكران غير معتبرة، لأن قراءة «أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ» من غير السكران إذا كانت مقصودة كفر، وإن اللّه خاطبهم بصيغة الإيمان فلم يحكم بكفرهم، ولم يفرق حضرة الرسول بين هذا القارئ وزوجته ولم يأمره بتجديد الإيمان، مما يدل على عدم اعتبار ما وقع منه، ولهذا قال أكثر الأئمة بعدم وقوع طلاق السكران، وكذلك طلاق المكره وعليه العمل الآن رحمة بالنساء.
وإن من قال بوقوعه أراد زجرا له لئلا يتداول ولم ينظر إلى ما يلحق زوجته من الحيف، لذلك فإن القول بعدم اعتباره أولى، فقياس عدم إيقاع الطلاق على عدم تكفيره وتسميته مؤمنا قياس مستقيم موافق لأصوله.
هذا، وقد أجمعت الأمة على أن من أجرى على لسانه كلمة الكفر خطأ لا يحكم بكفره كالمكره الذي مر بحثه في الآية 106 من سورة النحل في ج2، وفي قوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} إشارة إلى أن المتيمم إذا وجد الماء وجب عليه الاغتسال به، وإن التيمم قائم مقام الماء عند عدم القدرة عليه طالت المدة أو قصرت.
وسبب نزول آية التيمم ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها قالت خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في بعض أسفارنا حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول اللّه واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حسبت رسول اللّه والناس ليسوا على ماء وليس معهم ماء.
قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء اللّه أن يقول، وجعل يطعن يده في خاصرتي فلا يمنعني التحرك إلا مكان رسول اللّه على فخذي، فنام رسول اللّه حتى أصبح على غير ماء، فأنزل اللّه آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي أول بركتكم يا آل أبي بكر، قالت عائشة فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
- أخرجاه في الصحيحين- وذلك في غزوة الربيع، وهذه على ما جاء في السيرة النبوية وقعت في السنة الخامسة من الهجرة الشريفة، وعليه فتكون هذه الآية مقدمة على سورتها بالنزول لأنها وقعت على أثر انتهاء غزوة بني قريظة الكائنة بعد غزوة الخندق المسماة بالأحزاب، ووضعت هنا بإشارة من حضرة الرسول واخبار من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسلام كسائر الآيات المتقدمة على سورها.
ولهذا البحث صلة في الآية 9 من سورة المنافقين الآتية وأول فريضة صليت بالتيمم هذه، وهو عبارة عن ضربتين على تراب طاهر واحدة للوجه وواحدة لليدين، وينقضه ما ينقض الوضوء ووجود الماء.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ} حظا وافرا من التوراة وهم أحبار اليهود وصاروا {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ} بالهدى بعد ظهوره لهم {وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ} يا أيها المؤمنون لتكونوا مثلهم فتميلون عن الحق الذي أنتم عليه وتنخرطون في سلكهم لأنهم لم يكتفوا بضلالهم بل طمعوا بإضلال غيرهم، فاحذروهم فهم أعداؤكم {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ} منكم وقد أخبركم بهم وبما ينوونه لكم من الشر، فلا تلتفتوا إليهم واعتصموا بدينكم {وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)} نزلت هذه الآية في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس المنافقين عبد اللّه بن أبي بن سلول ورهطه يثبطانهم عن الإسلام، وقد بينهم اللّه بقوله: {مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ} في التوراة التي أوجبت حكمة اللّه وصنعه فيها بما اقتضت شهواتهم من إبدال الكلام لغيره وإزالة معنى بمعنى آخر ليميلوا بالناس عن الإسلام ويضلوهم عن اتباع الدين الحق {وَيَقُولُونَ} للرسول عند ما يحذرهم سوء صنيعهم هذا {سَمِعْنا} قولك ظاهرا {وَعَصَيْنا} أمرك سرا ومنهم من يجهر به عنادا وعتوا ويقولون {وَاسْمَعْ} قولنا أيها الرسول {غَيْرَ مُسْمَعٍ} ما تكره، وهذه الكلمة تحتمل المدح كما أولناها، وتحتمل الذم (أني أسمع لا سمعت) ولا شك أن اليهود قاتلهم اللّه إذا تكلموا بكلام ذي وجهين كهذا مع المؤمنين فإنهم يريدون أسوأه لا أحسنه وشره لا خيره، قبحهم اللّه وأخزاهم، بدليل قولهم بعدها {وَراعِنا} أنظرنا يا رسول اللّه، لأن معناها هو هذا، ولها معنى آخر وهو الرعونة وهم لابد يريدون هذا لا ذاك، مع أن الأنبياء لا يخاطبون إلا بالإجلال والتوقير والتعظيم، وهم دائما يقتلون الحق ويقلبونه إلى الباطل، راجع الآية 104 من البقرة المارة، وقولهم هذا يكون {لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ} وذلك أن منهم رفاعة بن زيد ومالك بن رخشم كانا إذا تكلم حضرة الرسول لويا ألسنتهما وعاباه {وَ} كان فعلهم هذا {طَعْنًا فِي الدِّينِ} الحق أو بصاحبه سيد الخلق ومعنى الأرعن الأهوج في منطقه والأحمق المتسرع والهوج طول في حمق وتسرع في طيش والمسترخي هو المتقاعس ويقولون لو كان بيننا لعرف معنى أقوالنا وإننا نعمه لا يدري، فأطلع اللّه نبيه على خبث ضمائرهم وفضحهم بقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا} بدل وعصينا {وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا} بدل غير مسمع وراعنا {لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ} عند اللّه {وَأَقْوَمَ} وأعدل لكلامهم عند الناس {وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} بك يا سيد الرسل وجحودهم كتابك {فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)} إيمانا لا يعبا به مثل اعترافهم بأن اللّه خلقهم ورزقهم وإقرارهم بالبعث ونبوة موسى، ولكن هذا كله ليس بشيء فإذا لم يؤمنوا بجميع الأنبياء والكتب كافة لا يقبل منهم.