فصل: قال الأخفش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الأخفش:

سورة البقرة: {الم}.
أما قوله: {الم} فان هذه الحروف اسكنت لأن الكلام ليس بمدرج، وإنما يكون مدرجا لو عطف بحرف العطف وذلك أن العرب تقول في حروف المعجم كلها بالوقف إذا لم يدخلوا حروف العطف فيقولون: ألفْ باءْ تاءْ ثاءْ ويقولون: ألف وباء وتاء وثاء.
وكذلك العدد عندهم ما لم يدخلوا حروف العطف فيقولون: واحدْ اثنانْ ثلاثَةْ.
وبذلك على أنه ليس بمدرج قطع ألف اثنين وهي من الوصل. فلو كان وصلها بالذي قبلها لذهبت ولكن هذا من العدد، والعدد والحروف كل واحد منها شيء مفصول على حياله، ومثل ذلك: {المص} و: {الر} و: {المر} و: {كهيعص} و: {طسم} و: {يس} و: {طه} و: {حم} و: {ق} و: {ص}. إلا أن قوما قد نصبوا: {يس} و: {طه} و: {حم} وهو كثير في كلام العرب، وذلك أنهم جعلوها أسماء كالأسماء الاعجمية هابيل وقابيل فاما أن يكونوا جعلوها في موضع نصب ولم يصرفوها كأنه قال: اذكر حم وطس ويس. أو جعلوها كالأسماء، التي هي غير متمكنة فحرّكوا آخرها حركة واحدة كفتح أينَ، وكقول بعض الناس: {الْحَمْدِ للَّهِ}. وقرأ بعضهم: {صَ} و: {نَ} و: {قَ} بالفتح وجعلوها أسماء ليست بمتمكنة فألزموها حركة واحدة وجعلوها أسماءَ للسورة، فصارت أسماء مؤنثة. ومن العرب من لا يصرف المؤنث إذا كان وسطه ساكنا نحو هِنْد وجُمْل ودَعد. قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد الرابع:
وإني لأَهوى بيت هِنْدٍ وأهلها ** على هنواتٍ قد ذكرن على هِنْدِ

وهو يجوز في هذه اللغة أوَ يكون سماها بالحرف، والحرف مذكر واذا سمي المؤنث بالمذكر لم ينصرف، [ف] جعل: {ص} وما أشبهها اسما للسورة ولم يصرف، وجعله في موضع نصب.
وقال بعضهم: {صادِ والقرآنِ} فجعلها من صاديت ثم أمركما تقول رامِ كأنه قال: صادِ الحقَّ بعملك اي: تعمده، ثم قال: {وَالْقُرْآنِ} فأقسم، ثم قال: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ}. فعلى هذا وقع القسم. وذلك أنهم زعموا أن بل هاهنا إنما هي إنّ فلذلك صار القسم عليها.
وقد اختلف الناس في الحروف التي في فواتح السور، فقال بعضهم: إنما هي حروف يستفتح بها فان قيل هل يكون شيء من القرآن ليس له معنى؟. فان معنى هذه أنه ابتدأ بها ليعلم أن السورة التي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ في أخرى. فجعل هذا علامة لانقطاع ما بينهما، وذلك موجود في كلام العرب، ينشد الرجل منهم الشعر فيقول من الرجز وهو الشاهد الخامس:
بلْ وبلدةٍ ما الانسُ من أُهّالها

أو يقول من الرجز وهو الشاهد السادس:
بلْ ما هاجَ أحزانًا وشجوًا قد شجا

فبل ليست من البيت ولا تعد في وزنه، ولكن يقطع بها كلام ويستأنف آخر. وقال قوم: انها حروف إذا وصلت كانت هجاء لشيء يعرف معناه، وقد أوتى بعض الناس علم ذلك. وذلك أن بعضهم كان يقول: {ألر} و: {حم} و{ن} هذا هو اسم الرحمن جل وعزَّ، وما بقي منها فنحو هذا.
وقالوا أن قوله: {كهيعص} كاف.
هاد عالم صادق فاظهر من كل اسم منها حرفا ليستدل به عليها. فهذا يدل على أن الوجه الأول لا يكون إلا وله معنى. لأنه يريد معنى الحروف. ولم ينصبوا من هذه الحروف شيئا غير ما ذكرت لك، لأن: {الم} و: {طسم} و: {كهيعص} ليست مثل شيء من الأسماء، وإنما هي حروف مقطعة.
وقال: {الم} {اللَّهُ لاَ اله إِلاَّ هُوَ} فالميم مفتوحة لأنها لقيها حرف ساكن فلم يكن من حركتها بد. فان قيل: فهلا حركت بالجر؟ فان هذا لا يلزم فيها وإنما أرادوا الحركة، فإذا حركوها بأي حركة كانت فقد وصلوا إلى الكلام بها، ولو كانت كسرت لجاز ولا أعلمها إلا لغة.
وقال بعضهم: فتحوا الحروف التي للهجاء إذا لقيها الساكن ليفصلوا بينها وبين غيرها. وقالوا: مِنَ الرجل ففتحوا لاجتماع الساكنين. ويقولون: هلِ الرجل وبلِ الرجل وليس بين هذين وبين من الرجل فرق، إلا أنهم قد فتحوا مِنَ الرجل لئلا تجتمع كسرتان، وكسروا: {إِذِ الظَّالِمُونَ}. وقد اجتمعت كسرتان لأن مِنْ أكثر استعمالا في كلامهم من إذْ، فادخلوها الفتح ليخف عليهم. وإن شئت قلت: {ألم} حروف منفصل بعضها من بعض، لأنه ليس فيها حرف عطف، وهي أيضا منفصلة مما بعدها، فالاصل فيه أن تقول: {الم ألله} فتقطع ألف: {الله} إذا كان ما قبله منفصلا منه كما قلت واحد، إثنان فقطعت. وكما قرأ القراء: {ن وَالْقَلَمِ} فبينوا النون لأنها منفصلة. ولو كانت غير منفصلة لم تبين إلا أن يلقاها أحد الحروف الستة. إلا ترى إنك تقول خذه من زيد وخذه من عمرو فتبين النون في عمرو ولا تبين في زيد.
فلما كانت ميم ساكنة وبعدها حرف مقطوع مفتوح جاز أن تحرك الميم بفتحة الألف وتحذف الألف في لغة من قال: منَ أبوك فلا تقطع.
وقد جعل قوم نون بمنزلة المدرج فقالوا: (نونَ والقلمِ) فاثبتوا النون ولم يبينوها. وقالوا: {يس وَالْقُرْآنِ} فلم يبينوا ايضًا. وليست هذه النون هاهنا بمنزلة قول: {كهيعص} و: {طس تِلْكَ} و: {حم عسق} فهذه النونات لا تبين في القراءة في قراءة أحد، لأن النون قريبة من الصاد، لأن الصاد والنون من مخرج طرف اللسان. وكذلك التاء والسين في: {طس تِلْكَ} وفي: {حم عسق} فلذلك لم تبين النون إذ قربن منها. وتبينت النون في: {يس} و: {نون} لبعد النون من الواو لأن النون بطرف اللسان والواو بالشفتين.
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
قال: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} وقال: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فنصبهما بغير تنوين. وذلك أن كل اسم منكور نفيته بلا وجعلت لا إلى جنب الاسم فهو مفتوح بغير تنوين، لأن لا مشبهة بالفعل، كما شبهت إنْ وما بالفعل.
وفيه في موضع خبرها وخبرها رفع، وهو بمنزلة الفاعل، وصار المنصوب بمنزلة المفعول به، ولا بمنزلة الفعل. وإنما حذفت التنوين منه لأنك جعلته ولا اسما واحدا، وكل شيئين جُعِلاَ اسما لم يصرفا. والفتحة التي فيه لجميع الاسم، بني عليها وجعل غير متمكن. والاسم الذي بعد لا في موضع نصب عملت فيه لا.
واما قوله: {لاَ خَوْف عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فالوجه فيه الرفع لأن المعطوف عليه لا يكون إلا رفعا ورفعته لتعطف الآخر عليه. وقد قرأها قوم نصبا وجعلوا الآخر رفعا على الابتداء.
وقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فالوجه النصب لأن هذا نفي ولأنه كله نكرة. وقد قال قوم: {فَلاَ رَفَث وَلاَ فُسُوق وَلاَ جِدَال فِي الْحَجِّ} فرفعوه كله، وذلك أنه قد يكون هذا المنصوب كله مرفوعًا في بعض كلام العرب. قال الشاعر: من البسيط وهو الشاهد السابع:
وما صرمتُكِ حتى قلتِ معلنةً ** لا ناقة ليَ في هذا ولا جَمَل

وهذا جواب لقوله هل فيه رفث أو فسوق فقد رفع الأسماء بالابتداء وجعل لها خبرًا، فلذلك يكون جوابه رفعًا. واذا قال لا شيءَ فإنما هو جواب هل من شئ، لأن هل مِن شيءٍ قد اعمل فيه من بالجر وأضمر الخبر والموضع مرفوع، مثل بحسبِك أَنْ تشتمَني فإنما هو حسبُك أَنْ تشتمني. فالموضع مرفوع والباء قد عملت.
وقد قال قوم: {فَلاَ رَفَث وَلاَ فُسُوق وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فرفعوا الأول على ما يجوز في هذا من الرفع، أو على النهي، كانه قال فلا يكونن فيه رفث ولا فسوق كما تقول: سمعُكَ اليّ تقولها العرب فترفعها، وكما تقول للرجل: حسبُك وكفاك. وجعل الجدال نصبا على النفي. وقال الشاعر من الكامل وهو الشاهد الثامن.
ذاكم وَجَدِّكُم الصَّغار بأسرِه ** لا أُمَّ لي إنْ كان ذاكَ ولا أَبُ

فرفع أحدهما ونصب الآخر.
واما قوله: {لاَ فِيهَا غَوْل} فرفع لأن {لا} لا تقوى أنْ تعمل إذا فصلت، وقد فصلتها ب {فيها} فرفع على الابتداء ولم تعمل {لا}.
وقوله: {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} ففيه وعليه وإليه، وأشباه ذلك في القرآن كثير. وذلك أن العرب إذا كان قبل هذه الهاء التي للمذكر ياء ساكنة، حذفوا الياء التي تجيء من بعد الهاء أو الواو، لأن الهاء حرف خفي وقع بين حرفين متشابهين فثقل ذلك. فمن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة ومن كان من لغته إلحاق الواو إذا كان قبلها كسرة ولم يكن قبلها الياء، ترك الهاء مضمومة إذا كان قبلها الياء الساكنة ومن كان من لغته إلحاق الياء ترك الهاء مكسورة إذا كان قبلها الياء الساكنة. وكذلك إذا كان قبل الهاء ألف ساكنة أو واو فإنه يحذف الواو التي تكون بعد الهاء، ولكن الهاء لا تكون إلا مضمومة نحو: {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ} وقوله: {فَكَذَّبُوهُ} وقوله: {فَأَنجَيْنَاهُ} وأشباه هذا في القرآن كثير.
ومن العرب من يتم لأن ذلك من الاصل فيقول: {فكذّبُوهو} {فأنجَيْناهو} {وألقى موسى عصاهو} و: {لا ريبَ فيهُو هُدىً للمتقين} وهي قراءة أهل المدينة.
وقد قال قوم: {إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِير مُّبِين} فألقوا الواو وشبهوا الساكن بالياء والواو والألف. وهذا ليس بجيّد في العربية، وأجوده: {منهو نذير} تُلْحَقُ الواو وإن كانت لا تكتب. وكل هذا إذا سكت عليه لم تزد على الهاء شيئا.
ولا تكسر هذه الهاء إلا أن تكون قبلها ياء ساكنة، أو حرف مكسور. وإنما يكسر بنو تميم. فأما أهل الحجاز فإنهم يضمون بعد الكسر وبعد الياء أيضا قال: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ}. واهل الحجاز يقولون: {من بعدِهُو} فيثبتون الواو في كل موضع.
ومن العرب من يحذف الواو والياء في هذا النحو ايضًا، وذلك قليل قبيح يقول: مررت بِهِ قبلُ وبِهُ قبلُ يكسرون ويضمون، ولا يلحقون واوا ولا ياء، ويقولون رأيتُهُ قبلُ فلا يلحقون واوا. وقد سمعنا بعض ذلك من العرب الفصحاء.
قد قرأ بعض القراء: {فِيهْ هُدَى} فادغم الهاء الأولى في هاء: {هُدى} لأنهما التقتا وهما مثلان.
وزعموا أن من العرب من يؤنث الهُدى. ومنهم من يسكن هاء الاضمار للمذكر قال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد التاسع:
فَظِلْتُ لدى البيت العتيق أُخيلُه ** ومِطواي مشتاقانِ لَهْ أرِقانِ

وهذه في لغة اسد السراة، زعموا، كثير.
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} ففيها لغتان، منهم من يقولها بالوقف إذا وصل، ومنهم من يلحق فيها الواو. وكذلك هو في كل موضع من القرآن والكلام إلاّ أن يكون ما قبلها مكسورا أو ياء ساكنة، فان كانت ياء ساكنة أو حرف مكسور نحو عليْهِم وبِهِمْ ومِن بعدِهِمْ فمن العرب من يقول: عليهِمِي فيلحق الياء ويكسر الميم والهاء، ومنهم من يقول: عليْهُمُو فيلحق الواو ويضم الميم والهاء، ومنهم من يقول: عليهِم وعليهُم، فيرفعون الهاء ويكسرونها، ويقفون الميم، ومنهم من يقول: عليهِمُو فيكسرون الهاء ويضمون الميم ويلحقون الواو، ومنهم من يقول: عليهُمِي فيضمون الهاء ويكسرون الميم ويلحقون الياء.
وكل هذا إذا وقفت عليه فآخره ساكن والذي قبله مكسور هو بمنزلة ما قبله ياء. وهذا في القرآن كثير. ومنهم من يجعل كُمْ في عليكم وبكم إذا كانت قبلها ياء ساكنة أو حرف مكسور بمنزلة هُمْ وذلك قبيح لا يكاد يعرف، وهي لغة لبكر بن وائل سمعناها من بعضهم يقولون: عليكِمي وبِكِمي وأنشد الأخفش قال سمعته من بكر بن وائل: من الطويل وهو الشاهد العاشر:
وإنْ قالَ مولاهمْ على جُلِّ حاجةٍ ** من الأمرِ رُدّوا فَضْلَ أحلامِكِم رَدُّوا

وكل هذا إذا لقيه حرف ساكن حركت الميم بالضم أن كان بعدها واو، فان كان بعدها واو حذفت الواو، وإن كان ياء حذفت الياء وحركت الميم بالكسر.
وكذلك الهاء التي للواحد المذكر من نحو مررت به اليوم ورأيته اليوم.
وزعموا أن بعض العرب يحرك الميم ولا يلحق ياء ولا واوا في الشعر وذا لا يكاد يعرف. وقال الشاعر: من الرجز وهو الشاهد الحادي عشر:
تاللهِ لولا شُعْبتي من الكرم ** وشعبتي فيهِم من خالٍ وعَمّ

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}.
فأما قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فإنما دخله حرف الاستفهام وليس باستفهام لذكره السواء، لأنه إذا قال في الاستفهام: أَزيدْ عندك أم عَمْرو وهو يسأل ايهما عندك فهما مستويان عليه، وليس واحد منهما أحق بالاستفهام من الآخر. فلما جاءت التسوية في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} أشبه بذلك الاستفهام، إذ أشبهه في التسوية. ومثلها: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ولكن: {أَسْتَغْفَرْتَ} ليست بممدودة، لأن الألف التي فيها ألف وصل لأنها من اسْتَغْفَر يَستغِفرُ فالياء مفتوحة من يَفْعل واما: {أَأَنْذرتهم} ففيها الفان الف: {أَنْذَرت} وهي مقطوعة لأنه يقول يُنْذِرُ فالياء مضمومة ثم جعلت معها ألف الاستفهام فلذلك مددت وخففت الآخرة منهما لأنه لا يلتقي همزتان. وقال: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} {أَمْ أَنَا خَيْر مِّنْ هذا الَّذِي هُوَ مَهِين}. وقال بعضهم أنه على قوله: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} وجعل قوله: {أَمْ أَنَا خَيْر مِّنْ هذا الَّذِي هُوَ مَهِين} بدلا من: {تُبْصِرُونَ}. لأن ذلك عنده بصرا منهم أن يكون عندهم هكذا وهذه أم التي تكون في معنى أيهما.
وقد قال قوم أنها يمانية وذلك أن أهل اليمن يزيدون أم في جميع الكلام. واما ما سمعنا من اليمن فيجعلون أم مكان الألف واللام الزائدتين، يقولون رأيت امْرَجُلَ وقام امرجل يريدون الرجل. ولا يشبه أن تكون: {أَمْ أَنَا خَيْر} على لغة أهل اليمن. وقد زعم أبو زيد أنه سمع اعرابيًا فصيحا ينشدهم: من الرجز وهو الشاهد الثاني عشر:
يا دَهرُ أَمْ كان مَشْيِي رَقَصا ** بلْ قدْ تكونُ مشيتي تَرَقُّصا

فسأله فقال: معناه ما كان مشيي رقصا فأم هاهنا زائدة. وهذا لا يعرف. وقال علقمة بن عبدة: من الطويل وهو الشاهد الثالث عشر:
وما القلب أَمْ ما ذكرُهُ رَبَعِيَّةً ** يُخَطُّ لَها من ثَرْمَداءَ قَلِيبُ

يريد ما ذكرُهُ ربيعةً يجعله بدلا من القلب، وقال بعض الفقهاء: أن معناه أنه قال فرعون: {أَفلاَ تُبْصِرُونَ} أم انتم بصراء. وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد الرابع عشر:
فَيا ظبيةَ الوعساءِ بين جُلاجِلٍ ** وبينَ النَّقا أَأَنتِ أَمْ أُمُّ سالِمِ

يريد: أَأَنت أَحسن أَمْ أمُّ سالِم فأضمرَ أَحْسَن. يريد: أليسَ أَنا خيرًا من هذا الذي هو مَهين.
ولها موضع آخر تكون فيه منقطعة من الكلام كأنك تميل إلى أوله قال: {لاَ رَيْبَ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ}. وهذا لم يكن قبله استفهام، وهذا قول العرب: إنَّها لإِبل ثم يقولون أَمْ شاء وقولهم لقد كان كذا وكذا أَمْ حَدَّثتُ نفسي، ومثل قول الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الخامس عشر:
كَذَبَتْكَ عَينُكَ أَمْ رأيتَ بواسِطٍ ** غَلَسَ الظَلامِ مِنَ الرَّبابِ خيالا

وليس قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} لأنه شك، ولكنه قال هذا ليقبّح صنيعهم كما تقول: ألستَ الفاعلَ كذا وكذا ليس تستفهم إنما توبخّه. ثم قال: {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ}. ومثل هذا في القرآن كثير، قال: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ} ثم قال: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِر نَّتَرَبَّصُ بِهِ} و: {أَمْ عِندَهُمْ خَزَائنُ رَبِّكَ} كل هذا على استفهام الاستئناف. وليس ل {أَمْ} غير هذين الموضعين لأنه اراد أن ينبه، ثم ذكر ما قالوا عليه يعني النبي صلى الله عليه وسلم ليقبح ما قالوا عليه، نحو قولك للرجل ألْخَيْرُ أَحَبُّ إلَيكَ أَمْ الشَرّ؟ وأنت تعلم أنه يقول الخير ولكن أردت أن تقبح عنده ما صنع. وأما قوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} فقد نهاه عن الآثم والكفور جميعا. وقد قال بعض الفقهاء: إنَّ أوْ تكون بمنزلة الواو وقال من المتقارب وهو الشاهد السادس عشر:
يُهِينُونَ من حقَروا شَأيَهُ ** وإنْ كانَ فيهِمْ يَفِي أو يَبَرّ

يقول: يَفِي وَيَبرّ.
وكذلك هي عندهم هاهنا وإنما هي بمنزلة كلُ اللحمَ أو التمرَ إذا رخصت له في هذا النحو. فلو أكل كله أو واحدا منه لم يعص. فيقع النهي عن كل ذا في هذا المعنى فيكون أن ركب الكل أو واحدًا قد عصى. كما كان في الأمر أن صنع واحدًا أطاع. وقال: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} ومعناه ويزِيدُونَ ومخرجها في العربية إنك تقول: لا تجالسْ زيدًا أو عمرًا أَوْ خالِدًا فإنْ أَتى واحدًا منهم أو كُلَّهُم كانَ عاصيًا. كما أَنَكَ إذا قلت: إِجْلِس إلى فلان أو فلان أوْ فلان فجلس إلى واحد منهم أَوْ كلِهِّم كان مطيعا. فهذا مخرجه من العربية. وأرى الذين قالوا: إنما أو بمنزلة الواو إنما قالوها لأنهم رأوها في معناها. واما: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} فإنما يقول: {أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائة أَلْفٍ} عِنْد الناس، ثم قال: {أَوْ يَزِيدُونَ} عند الناس لأنّ الله تبارك وتعالى لا يكون منه شكّ. وقد قال قوم إنَّما أو ها هنا بمنزلة بل وقد يقول الرجل لأَذْهَبَنَّ إلى كَذا وكَذا ثم يبدو له بعدُ فَيَقولَ أَوْ أَقْعُد فقال هاهنا: {أَرْسَلْنَاهُ إِلَى مائة أَلْفٍ} عند الناس ثم قال: {أَوْ يَزيدون} عند الناس أي أن الناس لا يشكون أنهم قد زادوا. والوجه الآخر هكذا. أي فكذا حال الناس فيهم أي: أن الناس يشكون فيهم. وكذا حال أم المنقطعة أن شئت جعلتها على بل فهو مذهب حسن. وقال مُتَمِّم بن نويرة من الوافر وهو الشاهد السابع عشر:
فلو كانَ البكاءُ يردُّ شيئًا ** بكَيْتُ على جُبَيْرٍ أو عِفاقٍ

على المَرْأَيْنِ إذْ هَلَكا جميعا ** بشأنهما وحزنٍ واشتياق

وقال ابنُ أحمر من الطويل وهو الشاهد الثامن عشر:
فقلتُ البِثي شَهْرَيْنِ أَوْ نِصْفَ ثالثٍ ** إلى ذاكَ ما قَد غَيَّبتَنِي غِيابِيا

واما قوله: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} {أَوَ آبَاؤنَا الأَوَّلُون} فان هذه الواو واو عطف كأنهم قالوا: {أإِنا لَمَبْعُوثُون} فقيل لَهُم: نَعم وآباؤكم الأوَّلُون فقالوا: {أَوَ آبَاؤنَا} وقوله: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ} {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وأشباه هذا في القرآن كثير. فالواو مثل الفاء في قوله: {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} وقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ} وإن شئت جعلت هذه الفاءات زائدة. وإن شئت جعلتها جوابًا لشيء كنحو ما يقولون قد جاءني فلان فيقول أَفَلَمْ أقض حاجته فجعل هذه الفاء معلقة بما قبلها.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة وَلَهُمْ عَذَاب عظِيم}.
أما قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة} فان الختم ليس يقع على الابصار. إنما قال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ثم قال: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَة} مستأنفا. وقوله: {خَتَمَ اللَّهُ} لأن ذلك كان لعصيانهم الله فجاز ذلك اللفظ، كما تقول: أَهَلَكتْهُ فُلانَةُ إذا أُعْجِب بها. وهي لا تفعل به شيئا لأنه هلك في اتباعها. أو يكون {خَتَم} حكم بها إنها مختوم عليها.
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ}.
ثم قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ} فجعل اللفظ واحدا، ثم قال: {وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} فجعل اللفظ. جميعا، وذلك أن: {مَنْ} اللفظ بها لفظ واحد، ويكون جميعا في المعنى، ويكون اثنين. فان لفظت بفعله على معناه فهو صحيح. وإن جعلت فعله على لفظه واحدا فهو صحيح ومما جاء من ذلك قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِن فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْف عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وقال: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} وقال: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} فقال: {يَقْنُتْ} فجعله على اللفظ، لأن اللفظ في: {مَن} مذكر وجعل: {تَعْمَلْ} و: {نُؤْتِهَا} على المعنى. وقد قال بعضهم: {ويَعْمَلْ} فجعله على اللفظ لأن لفظ: {مَنْ} مذكر. وقد قال بعضهم: {وَمَنْ تَقْنُتْ} فجعله على المعنى لأنه يعني امرأة. وهي حجة على من قال: لا يكون اللفظ في مَن على المعنى إلا أن تكون: {مَنْ} في معنى: {الذي} فاما في المجازاة والاستفهام فلا يكون اللفظ في: {مَنْ} على المعنى.
وقولهم هذا خطأ لأن هذا الموضع الذي فيه: {وَمَنْ تَقْنُتْ} مجازاة. وقد قالت العرب ما جاءَتْ حاجَتُكَ فأَنَّثُوا جاءتْ لأنها لما، وإنما انثوا لأن معنى ما هو الحاجة. وقد قالت العرب أو بعضُهُم من كانت أمّكَ فنصب وقال الشاعر من الطويل وهو الشاهد التاسع عشر:
تَعَشّ فإِنْ عاهدَتنِي لا تخونُني ** نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصطَحِبانِ

ويروى: {تَعالَ فإن}. وقد جعل: {مَنْ} بمنزلة رجل. قال الشاعر من الرمل وهو الشاهد العشرون:
رُبَّ مَنْ انضجتُ غيظًا صَدْرَهُ ** قد تَمَنَّى لِيَ شَرًّا لم يُطَعْ

فلولا إنها نكرة بمنزلة رجل لم تقع عليها ربّ.
وكذلك ما نكرة إلا إنها بمنزلة شيء. ويقال: إن قوله: {هذامَا لَدَيَّ عَتِيد} على هذا. جعل ما بمنزلة شيء ولم يجعلها بمنزلة الذي فقال: ذا شَيْء لَدَيَّ عَتيد.
وقال الشاعر من الخفيف وهو الشاهد الحادي والعشرون:
رُبَّ ما تَكْرَهُ النفوسُ من الأمْرِ ** له فَرْجَة كَحَل العِقالِ

فلولا إنها نكرة بمنزلة من لم تقع عليها رُبَّ. وقد يكون: {هذا مالَدَيَّ عَتِيد} على وجه آخر، أخبر عنهما خبرا واحدا كما تقول: هذا أحمرُ أخضرُ.
وذلك أن قوما من العرب يقولون: هذا عبدُ اللَّهِ مقبل.
وفي قراءة ابن مسعود: {وهذا بَعلي شَيْخ} كأنه أخبر عنهما خبرا واحدا أو يكون كأنه رفعه على التفسير كأنه إذا قال: {هذا ما لَدَيَّ} قيل: ما هو؟ أو علم أنه يراد ذلك منه فقال: {عَتِيد} أي ما عندي عتيد. وكذلك: {وهذا بَعْلِي شيخ}. وقال الراجز وهو الشاهد الثاني والعشرون:
مَنْ يَكُ ذابَتٍّ فهذا بَتّى ** مُقَيِّظ مُصَيِّف مُشَتِّى

وقال: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} فما هاهنا اسم ليست له صلة لأنك أن جعلت: {يَعِظُكُمْ بِهِ} صلة لما صار كقولك: إنّ اللهَ نِعْمَ الشيء أو نعم شيئا فهذا ليس بكلام. ولكن تجعل ما اسما وحدها كما تقول: غَسَلتُه غَسْلًا نِعِمّا تريد به: نِعْمَ غَسْلًا. فان قيلَ: كيفَ تكونُ ما اسما وحدها وهي لا يتكلم بها وحدها قلتُ: هي بمنزلة يا أيُّها الرجل لأن أيا هاهنا اسم ولا يتكلم به وحده حتى يوصف فصار ما مثل الموصوف ها هنا. لأنك إذا قلت غَسَلتُه غَسْلًا نِعِمّا فإنما تريد المبالغة والجودة، فاسنغني بهذا حتى تكلم به وحده. ومثل ما أَحْسَنَ زيدا ما هاهنا وحدها اسم وقوله: إني مما إن أصنع كذا وكذا ما هاهنا وحدها اسم كأنه قال: إنّي مِن الأمر أومنْ أَمْري صنيعي كذا وكذا ومما جاء على المعنى قوله: {كَمَثلِ الذي استوقدَ نارًا أَضاءَتْ ما حولَهُ ذهبَ الله بنورِهِم} [17] لأن الذي يكون للجميع، كما قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}.
{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ}.
أما قوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولا تكون المفاعلة إلا من شيئين فإنه إنمّا يقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} عند أنفسهم يمنونها أن لا يعاقبوا وقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم ذلك لحجة الله الواقعة على خلقه بمعرفته.
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} وقال بعضهم: {يُخادِعُونَ} يقول: يَخْدَعون أنفسهم بالمخادعة لها وبها نقرأ. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة تقول: باعَدْتُه مُباعَدَةً وجاوزتُه مجاوزَةً في أشياء كثيرة. وقد قال: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فذا على الجواب. يقول الرجل لمن كان يخدعه إذا ظفر به أَنَا الذي خدعتُكَ ولم تكن منه خديعة ولكن قال ذلك إذ صار الأمر اليه. وكذلك: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ} و: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [15] على الجواب. والله لا يكون منه المكر والهزء. والمعنى أن المكر حاق بهم والهزء صار بهم.
{فِي قُلُوبِهِم مَّرَض فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُم عَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ}.
أما قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} فمن فخم نصب الزاي فقال: {زَادَهم} ومن امال كسر الزاي فقال لأنها من زِدت أولها مكسور.
فناس من العرب يميلون ما كان من هذا النحو وهم بعض أهل الحجاز ويقولون أيضا: {وَلِمَنْ خِافَ مَقَامَ رَبِّهِ} و: {فَانكِحُواْ مَا طِابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَاءِ} و{وَقَدْ خِابَ} ولايقولون: قِال ولا زِار لأنه يقول قُلْتُ وزُرْتُ فأوله مضموم. فإنما يفعلون هذا في ما كان أوله من فعلتُ مكسورًا إلاَّ أنَّهم ينحون الكسرة كما ينحون الياء في قوله: {وَسَقِاهُمْ رَبُّهُمْ}. و: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}. ويقرأ جميع ذلك بالتفخيم. وما كان من نحو هذا من بنات الواو وكان ثالثًا نحو: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا} ونحو: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}.
فان كثيرًا من العرب يفخمه ولا يميله لأنها ليست بياء فتميل اليها لأنها من طَحَوْتُ وتَلَوْتُ. فإذا كانت رابعة فصاعدًا أمالوا وكانت الامالة هي الوجه، لأنها حينئذ قد انقلبت إلى الياء. إلا ترى إنك تقول: غَزَوْتُ وأَغْزَيْتُ.
ومثل ذلك: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}. و: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} و: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} أمالَها لأنَّها رابعة، وتَجَلّى فَعلْتُ منها بالواو لأنها من جَلَوْت وزكا من زَكَوْتُ يزكو و: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} من الغشاوة.
وقد يميل ما كان منه بالواو نحو {تَلاِها} و{طَحِاها} ناس كثير، لأنَّ الواو تنقلب إلى الياء كثيرا مثل قولهم في {حُور} حِير وفي مَشُوب مَشِيب وقالوا: أَرْض مَسْنِيّة إذا كان يسنوها المطر. فأمالوها إلى الياء لأنها تنقلب اليها.
وأمالوا كل ما كان نحو فَعْلى وفُعْلى نحو بُشْرى ومَرْضى وسَكْرى، لأن هذا لَوْثُنِّيَ كان بالياء فمالوا اليها.
واما قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} ف {يُكَذِّبُونَ} يجحدون وهو الكفر. وقال بعضهم: {يَكْذِّبُونَ} خفيفة وبها نقرأ. يعني يكذِبونَ على الله وعلى الرسل.
جعل ما والفعل اسما للمصدر كما جعل أنْ والفعل اسما للمصدر في قوله: أُحبُّ أَنْ تأتِيني، واما المعنى فإنما هو بكذِبهِم وتَكْذيبِهِم.
وأدخل كان ليخبر أنه كان فيما مضى، كما تقول: ما أحسنَ ما كانَ عبدُ الله فأنت تَعَجَّبُ من عبد الله لا من كونه.
وإنما وقع التعجبُ في اللفظ على كونه. وقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} وليس هذا في معنى فاصدع بالذي تؤمر به. لو كان هذا المعنى لم يكن كلاما حتى تجيء ببه ولكن إصدع بالأمر جعل ما تؤمر اسما واحدًا.
وقال: {ولاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ} يقول: بالإِتيان يجعل ما وأَتَوْا اسما للمصدر. وإنْ شئتَ قلت: أَتَوْا ها هنا جاءُوا كأنه يقول: بما جاءوا يريد جاءوه كما تقول: يفرحون بما صنعوا أي بما صنعوه ومثل هذا في القرآن كثير. وتقديره بكونِهم يكذبون ف {يكذبون} مفعول لكان كما تقول: سرني زيد بِكونه يعقل: أي: بكونه عاقلا.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
أما قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} فمنهم من يضم أوله لأنه في معنى فُعِلَ فيريد أن يترك أوله مضموما ليدل على معناه، ومنهم من يكسره لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم والكسر القياس. منهم من يقول في الكلام: قد قُولَه له وقد بُوع المتاع إذا اراد قَدْ بِيع وقِيل جعلها واوا حين ضم ما قبلها، لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم. ومنهم من يروم الضم في قُيل مثل رومهم الكسر في رِدَّ لغة لبعض العرب أن يقولوا رِدَّ فيكسرون الراء ويجعلون عليها حركة الدال التي في موضع العين. وبعضهم لا يكسر الراء ولكنه يشمها الكسر كما يروم في قيل الضم. وقال الفرزدق: من الطويل وهو الشاهد الثالث والعشرون:
وما حِلَّ من جهل حُبا حُلَمائِنا ** ولا قائل المعروفِ فينا يُعَنَّفُ

سمعناه ممن ينشده من العرب هكذا.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ}.
أما قوله: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إنهَّمْ هُمُ السُّفهاءُ} فقد قرأهما قوم مهموزتين جميعا، وقالوا: {سَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} و{وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} {وقالوا أإِذا} {أَإِنّا} كل هذا يهمزون فيه همزتين، وكل هذا ليس من كلام العرب إلا شاذا. ولكن إذا اجتمعت همزتان شتى ليس بينهما شيء فان احداهما. تخفف في جميع كلام العرب إلا في هذه اللغة الشاذة القليلة وذلك أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة واحدة أبدلوا الآخرة منهما أبدا فجعلوها أن كان ما قبلها مفتوحًا الفا ساكنة نحو آدم وآخر وآمن وإن كان ما قبلها مضموما جعلت واوا نحو أُوْزُزْ إذا أمرته أن يَؤُز وإن كان ما قبلها مكسورا جعلت ياء نحو إِيْتِ وكذلك إنْ كانت الآخرة متحركة بأي حركة كانت والأُولى مضمومة أو مكسورة فالآخرة تتبع الأولى نحو أن أفعل من أَأَب [ف] تقول أُووب.
ونحو جاءَ في الرفع والنصب والجر. فاما المفتوحة فلا تتبعها الآخرة إذا كانت متحركة لأنها لو تبعتها جعلت همزة مثلها. ولكن تكون على موضعها، فان كانت مكسورة جعلت ياء، وإن كانت مضمومة جعلت واوا، وإن كانت مفتوحة جعلت أيضا واوا لأن الفتحة تشبه الألف. وأنت إذا احتجت إلى حركتها جعلتها واوا ما لم يكن لها اصل في الياء معروف فهذه الفتحة ليس لها اصل في الياء فجعلت الغالب عليها الواو نحو آدم وأوادم.
فلذلك جعلت الهمزتان إذا التقتا وكانتا من كلمتين شتى مخففة احداهما، ولم يبلغ من استثقالهما أن تجعلا مثل المجتمعتين في كلمة واحدة. ولان اللتين في كلمة واحدة لا تفارق احداهما صاحبتها، وهاتان تتغيران عن حالهما وتصير كل واحدة منها على حيالها أثقل منهما في كلمتين لأَنَّ ما في الكلمتين كلُّ واحدة على حيالها فتخفيف الآخرة أقيس، كما أبدلوا الآخرة حين اجتمعتا في كلمة واحدة، وقد تخفف الأولى. فمن خفف الآخرة في قوله: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ألا} قال: {السفهاءُ ولا} فجعل الألف في {ألا} واوا. ومن خفف الأولى جعل الألف التي في: {السفهاء} كالواو وهمز ألف {ألاّ}. واما: {أَأَنْذَرْتَهُمْ} فإنَّ الأولى لا تخفف لأنها أول الكلام. والهمزة إذا كانت أول الكلام لم تخفف لأن المخففة ضعفت حتى صارت كالساكن فلا يبتدأ بها. وقد قال بعض العرب آإذا و: {آأنذرتهم} وآأنا قلت لك كذا وكذا فجعل ألف الاستفهام إذا ضمت إلى همزة يفصل بينها وبينها بألف لئلا تجتمع الهمزتان. كل ذا قد قيل وكل ذا قد قرأه الناس. واذا كانت الهمزة ساكنة فهي في لغة هؤلاء الذين يخففون أن كان ما قبلها مكسورا ياء نحو: {أنبِيهم بأسمايهم} ونحو نَبِّينا. وإن كان مضموما جعلوها واوا نحو جونَه، وإن كان ما قبلها مفتوحا جعلوه الفا نحو راس وفاس. وإن كانت همزة متحركة بعد حرف ساكن حرّكوا الساكن بحركة ما بعده واذهبوا الهمزة يقولون في: {في الأرض} {فِلَرْض} وفي: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله} {مِنِلاهٍ} يحركون الساكن بالحركة التي كانت في الهمزة أي حركة كانت ويحذفون الهمزة.
واذا اجتمعت همزتان من كلمتين شتى والأولى مكسورة والآخرة مكسورة فاردت أن تخفف الآخرة جعلتها بين الياء الساكنة وبين الهمزة، لأن الياء الساكنة تكون بعد المكسورة نحو هؤلاء يماء الله، تجعل الآخرة بين بين والأولى محققة. وإن كانت الآخرة مفتوحة نحو هؤلاء أخواتك، أو مضمومة نحو هؤلاء أُمَّهاتُك لم تجعل بين بين، وجعلت ياء خالصة لانكسار ما قبلها لأنك إنما تجعل المفتوح بين الألف الساكنة وبين الهمزة، والمضموم بين الواو الساكنة وبين الهمزة إذا اردت بين بين، وهذا لا يثبت بعد المكسور. وإن كان الأول مهموزا أو غير مهموز فهو سواء إذا اردت تخفيف الأخرة ومن ذلك قولهم مِئين ومَئير في قول من خفف. وإن كان الحرف مفتوحًا بعده همزة مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة جعلت بين بين، لأن المفتوح تكون بعده الألف الساكنة والياء الساكنة، نحو البَيْع والواو الساكنة نحو القول: وهذا مثل: {يَتَفَيَّؤُا ظِلاَلُهُ} و: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ} و: {آاذا} و: {آانا} إذا خففت الآخرة في كل هذا جعلتها بين بين. والذي نختار تخفيف الآخرة إذا اجتمعت همزتان، إلا أنا نحققهما في التعليم كلتيهما نريد بذلك الاستقصاء وتخفيف الآخرة قراءة أهل المدينة، وتحقيقهما جميعا قراءة أهل الكوفة وبعض أهل البصرة. ومن زعم أن الهمزة لا تتبع الكسرة إذا خففت وهي متحركة، وإنما تجعل في موضعها دخل عليه أن يقول هذا قارِو وهؤلاء قارِوُونَ و{يستهزِوون} وليس هذا كلام من خفف من العرب إنما يقولون: يَسْتَهْزِئُونَ وقارِئون.
واذا كان ما قبل الهمزة مضموما وهي جعلتها بين بين. وإن كانت مكسورة أو مفتوحة لم تكن بين بين وما قبلها مضموم، لأن المفتوحة بين الألف الساكنة والهمزة والمكسورة بين الياء الساكنة والهمزة. وهذا لا يكون بعد المضموم، ولكن تجعلها واوا بعد المضموم إذا كانت مكسورة أو مفتوحة فتجعلها واوا خالصة لأنهما يتبعان ما قبلهما نحو مررت بأكمُوٍ ورأيت أكمُوًا وهذا غلامُوَبيكَ تجعلها واوا إذا أردت التخفيف إلا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنها قد بعدت.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو هذا غلاميخوانك و: {وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئ يلا}.
واذا كانتا في معنى فُعِلَ والهمزة في موضع العين جعلت بين بين لأن الياء الساكنة تكون بعد الضمة ففي قُيْلَ يقولون قِيلَ، ومثل ذلك سُيِل ورُيِس فيجعلها بين بين إذا خففت، ويترك ما قبلها مضموما. وأما رُوِس فليست فُعِلَ وإنما هي فُعْلَ فصارت واوا لأنها بعد ضمة معها في كلمة واحدة.
{وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}.
قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوا آمَنَّا} فأذهب الواو لأنه كان حرفا ساكنا لقي اللام وهي ساكنة فذهبت لسكونه ولم تحتج إلى حركته لأن فيما بقي دليلا على الجمع. وكذلك كل واو ما قبلها مضموما من هذا النحو. فإذا كان ما قبلها مفتوحا لم يكن بد من حركة الواو لأنك لو القيتها لم تستدل على المعنى نحو: {اشْتَرُواْ الضَّلاَلَةَ} وحركت الواو بالضم لأنك لو قلت اشتر الضلالة فألقيت الواو لم تعرف أنه جمع، وإنما حركتها بالضم لأن الحرف الذي ذهب من الكلمة مضموم، فصار يقوم مقامه. وقد قرأ قوم وهي لغة لبعض العرب: {اشْتَرَوِاْ الضَّلاَلَةَ} لما وجدوا حرفًا ساكنا قد لقي ساكنا كسروا كما يكسرون في غير هذا الموضع، وهي لغة شاذة.
وأما قوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} فانك تقول: خلوت إلى فلان في حاجة كما تقول: خلوت بفلان إلاَّ أنَ خلوت بفلان له معنيان أحدهما هذا والآخر سخِرْتُ به. وتكون إلى في موضع مَعَ نحو: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} كما كانت من في معنى علىَ في قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ} اي: على القوم، وكما كانت الباء في معنى على في قوله مَرَرتُ بِهِ ومَرَرْتُ عليه. وفي كتاب الله عز وجل: {مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ} يقول: على دينار. وكما كانت في في معنى على نحو: {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} يقول: على جُذوعِ النَخْل. وزعم يونس أن العرب تقول: نزلت في أبيك تريد عليه وتقول: ظفِرتُ عليه أي بِهِ ورضيتُ عليه أي: عَنْه قال الشاعر من الوافر وهو الشاهد الرابع والعشرون:
اذا رضِيتْ عَلَيَّ بنو قُشَيْر ** لَعَمْرُ اللّهِ أعجبَنَي رِضاها

{اللَّهُ يَسْتَهْزِئ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}.
أما قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} فهو في معنى ويَمُدُّ لَهُم كما قالت العرب: الغلام يلعب الكِعاب تريد: يلعب بالكِعاب وذلك أَنهم يقولون قد مَدَدْتُ له وأَمْدَدْتُه في غير هذا المعنى وهو قوله جل ثناؤه: {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} وقال: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}. وقال بعضهم {مِدادا} و{مَدّا} من: {أَمْدَدْناهُم} وتقول: مَدّ النهرُ فهو مادّ وأَمَدّ الجُرُح فهو مُمِدّ. وقال يونس: ما كان من الشَرّ فهو مدَدْت وما كان من الخير فهو أَمْدَدْت. فتقول كما فسرت له فإذا اردت أنك تركته قلت: مَدَدْتُ له واذا أردت أنك أعطيته قلت: أَمْدَدْتُه.
{أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فهذا على قول العرب: خاب سعيُك وإنما هو الذي خاب، وإنما يريد فما رَبحوا في تجارتهم ومثله: {بَلْ مَكْرُ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ} و: {ولكنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إنما هو ولكنّ البرَّ برُّ من آمنَ بالله وقال الشاعر: من المتقارب وهو الشاهد الخامس والعشرون:
وكيفَ تُواصِلُ من أصْبَحَتْ ** خَلاَلتُه كأبي مَرْحَبِ

وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد السادس والعشرون:
وَشَرُّ المنايا مَيِّت وَسْطَ أَهْلِهِ ** كهُلْكِ الفتاةِ أسلَمَ الحَيّ حاضره

انما يريد وشر المنايا منية ميّت وسط اهله، ومثله: أكثرُ شربي الماءُ وأكثر أكلي الخبرُ وليس أكلك بالخبز ولا شربك بالماء. ولكن تريد أكثر أكلي أكل الخبز وأكثر شربي شرب الماء. قال: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} يريد: أهل القرية، {والعِيرَ} أي: واسأل أصحاب العِير. وقال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} فإنما هو- والله أعلم- مثَلُكُم ومثلُ الذين كَفَروا كمثلِ الناعِقِ والمنعوقِ بهِ. فحذف هذا الكلام،ودل ما بقي على معناه. ومثل هذا في القرآن كثير. وقد قال بعضهم: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ} يقول: مثلُهم في دعائِهم الآلهةَ كمثلِ الذي ينعِق بالغَنَم لأن آلهتهم لا تسمعُ ولا تعقل، كما لا تسمع الغنم ولا تعقل.
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}.
قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} فهو في معنى أَوْقَد، مثل قوله: فلم يستجبه أي فلم يُجِبْهُ وقال الشاعر: من الطويل وهو الشاهد السابع والعشرون:
وداعٍ دعا يا من يُجيبُ إلى النَدى ** فلم يَستَجِبْهُ عندَ ذاك مُجيبُ

أي: فلم يُجِبْهُ.
وقال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} فجعل الذي جميعا فقال: {وتَرَكَهم} لأن الذي في معنى الجميع، كما يكون الإنسان في معنى الناس.
وقال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) صُمّ بُكْم عُمْي فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} فرفع على قوله: هُمْ صمّ بُكْم عُمْي رفعه على الابتداء ولو كان على أول الكلام كان النصب فيه حسنا. وأما: {حَوْلَهُ} فانتصب على الظرف، وذلك أن الظرف منصوب. والظرف هو ما يكون فيه الشيء، كما قال الشاعر: من الكامل وهو الشاهد الثامن والعشرون:
هذا النهارُ بدا لَها من هَمِّها ** ما بالُها بالليلِ زالَ زوالَها

نصب النهارَ على الظرف وإن شاء رفعه وأضمر فيه. وأما زوالَها فإنه كأنه قال: أزالَ اللَّهُ الليلَ زوالَها.
{يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
أما: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} فمنهم من قرأ: {يَخْطِفُ} من خَطَفَ وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. وقد رواها يونس: {يَخِطِّفُ} بكسر الخاء لاجتماع الساكنين. ومنهم من قرأ: {يَخْطَفُ} على خَطِفَ يخطَفُ وهي الجيدة، وهما لغتان. وقال بعضهم: {يَخِطِّفُ} وهو قول يونس من يَخْتَطِفُ فأدغم التاء في الطاء لأن مخرجها قريب من مخرج الطاء. وقال بعضهم: {يَخَطِّفُ} فحول الفتحة على الذي كان قبلها، والذي كسر كسر لاجتماع الساكنين فقال: {يَخِطِّفُ} ومنهم من قال: {يِخِطِّفُ} كسر الخاء لاجتماع الساكنين ثم كسر الياء اتبع الكسرة الكسرة وهي قبلها كما اتبعها في كلام العرب كثيرا، يتبعون الكسرة في هذا الباب الكسرة يقولون قِتِلوا وفِتِحوا يريدون: اقتِلوا واِفْتحَوا. قال أبو النجم من الرجز وهو الشاهد التاسع والعشرون:
تَدافُعَ الشِيبِ ولم تِقِتِّل

وسمعناه من العرب مكسورا كله، فهذا مثل يِخِطِف إذا كسرت ياؤها لكسرة خائها وهي بعدها فأتبع الآخر الأول.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} فمنهم من يدغم ويسكن الباء الأولى لأنهما حرفان مثلان. ومنهم من يحرك فيقول: {لَذَهَبْ بِسَمْعِهِمْ} وجعل السَمْع في لفظ واحد وهو جماعة لأن السَمْعَ قد يكون جماعة وقد يكون واحدًا ومثله قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} ومثله قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} وقوله: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} ومثله: {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} فقطع الألف لأنه اسم تثبت الألف فيه في التصغير فإذا صغرت قلت: أُنَيْدادًا. وواحد الأنْدادِ: نِدّ. والنِدُّ: المِثْل.
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ}.
قوله: {الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فالوَقُودُ: الحطب. والوُقودُ: الاتقادُ وهو الفعل. يقرأ: {الوَقود} و: {الوُقود} ويكون أن يعني بها الحطب، ويكون أن يعني بها الفعل. ومثل ذلك الوَضُوءُ وهو: الماء، والوُضُوءُ وهو الفعل، وزعموا أنهما لغتان في معنى واحد.
{وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هذا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاج مُّطَهَّرَة وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
قوله: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} فجرّ {جناتٍ} وقد وقعت عليها {أَنَّ} لأنَّ كلَّ جماعة في آخرها تاء زائدة تذهب في الواحد وفي تصغيره فنصبها جرّ، إلا ترى إنك تقول: جَنّه فتذهب التاء. وقال: {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} و{السماوات} جرّ، و{الأرضَ} نصب لأن التاء زائدة. إلا ترى إنك تقول: سماء، و: {قَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} لأن هذه ليست تاء إنَّما هي هاء صارت تاءً بالاتصال، وإنما تكون تلك في السكوت إلا ترى إنك تقول: رأيتُ سادَه فلا يكون فيها تاء. ومن قرأ: {أَطَعْنا سَادَاتِنا} جرّ لأنك إذا قلت: ساده ذهبت التاء. وتكون في السكت فيها تاء، تقول: رأيت ساداتٍ، وإنما جرّوا هذا في النصب ليجعل جرّه ونصبه واحدًا، كما جعل تذكيره في الجر والنصب واحدا، تقول: مسلمين وصالحين نصبه وجره بالياء. وقوله: {بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} و: {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ} فان التاء من اصل الكلمة تقول صوت وصويت فلا تذهب التاء، وبيت وبُوَيْت فلا تذهب التاء. وتقول: رأيت بُوَيْتاتِ العربِ فتجرّ، لأن التاء الآخرة زائدة لأنك تقول: بيوت فتسقط التاء الآخرة. وتقول: رأيت ذواتِ مال لأن التاء زائدة، وذلك لأنك لو سكت على الواحدة لقلت: ذاه ولكنها وصلت بالمال فصارت تاء لا يتكلم بها إلا مع المضاف اليه.
وقوله: {هذا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا} لأنه في معنى جيئوا به وليس في معنى أُعْطَوْهُ. فاما قوله: {مُتَشَابِهًا} فليس أنه أشبه بعضه بعضا ولكنه متشابه في الفضل. أي كل واحد له من الفضل في نحوه مثل الذي للآخر في نحوه.
{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذامَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ}.
قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَنْ} ف {يستحي} لغة أهل الحجاز بياءين وبنو تميم يقولون {يَسْتَحى} بياء واحدة، والأولى هي الاصل لأن ما كان من موضع لامه معتلا لم يعلّوا عينه. إلا ترى أنهم قالوا: حَيِيْتُ وجَوِيْتُ فلم تُقَلَّ العين. ويقولون: قُلْتُ وبِعْتُ فيعُلُّونَ العين لما لم تعتلّ اللام، وإنما حذفوا لكثرة استعمالهم هذه الكلمة كما قالوا لَمْ يَكُ ولَمْ يَكُنْ ولا أَدْرِ ولا أَدْرِي.
وقال: {مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً} لأن {ما} زائدة في الكلام وإنما هو إنَّ الله لا يستَحي أن يضرِبَ بعوضَةً مَثَلًا.
وناس من بني تميم يقولون: {مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً} يجعلون ما بمنزلة الذي ويضمرون هو كأنهم قالوا: لا يستحي أن يضرب مثلًا الذي هو بعوضة يقول: لا يستحي أن يضرب الذي هو بعوضَة مثلًا. وقوله: {فَمَا فَوْقَهَا} قال بعضهم: أَعظمَ منها وقال بعضهم: كما تقول: فلان صَغِير فيقول: وفوقَ ذلك يريد: وأصغَرُ من ذلك.
وقوله: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا} فيكون ذا بمنزلة الذي. ويكون ماذا اسما واحدا أن شئت بمنزلة ما كما قال: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا} فلو كانت ذا بمنزلة الذي لقالوا خير ولكان الرفع وجه الكلام. وقد يجوز فيه النصب لأنه لو قال: ما الذي قلت؟ فقلت: خيرًا أي: قلت خيرًا لجاز. ولو قلت: ما قلت: فقلت: خير أي: الذي قلت خير لجاز، غير أنه ليس على اللفظ الأول كما يقول بعض العرب إذا قيل له: كيف أصبحت؟ قال: صالح أي: أنا صالح. ويدلك على أن ماذا اسم واحد قول الشاعر: من الوافر وهو الشاهد الثلاثون:
دَعِي ماذا علمتُ سأَتَّقيهِ ** ولكنْ بالمغيَّبِ نَبِّئِيني

فلو كانت ذا هاهنا بمعنى الذي لم يكن كلاما.
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
أما قوله: {عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} ف {أَنْ يُوصل} بدل من الهاء في {به} كقولك: مررت بالقومِ بعضِهم.
وأما {ميثاقه} فصار مكان التَوثُّق كما قال: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} والاصل إِنباتًا وكما قال العَطاء في مكان الإِعطاء.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} فإنما يقول كنتم ترابا ونُطَفا فذلك ميّت. وهو سائغ في كلام العرب، تقول للثوب: قَدْ كان هذا قُطْنا وكان هذا الرُّطَبُ بُسْرا. ومثل ذلك قولك للرجل: اعمل هذا الثوب وإنما معك غزل.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}.