فصل: الآية الحادية عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الحادية عشرة:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} والباطل: ما ليس بحق، ووجوه ذلك كثيرة. ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً}. والتجارة في اللغة: عبارة عن المعارضة، وهذا الاستثناء منقطع: أي لكن تجارة صادرة {عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ} جائزة بينكم، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم. وإنما نص اللّه سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات لكونها أكثرها وأغلبها. وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من اللّه على وجه المجاز.
ومنه قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10)} وقوله: {يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}.
واختلف العلماء في التراضي: فقالت طائفة: تمامه وجوبه بافتراق الأبدان بعد عقد البيع، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه: اختر، كما في الحديث الصحيح: «البيّعان بالخيار ما لم يفترّقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر». وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي والثوري والأوزاعي والليث وابن عيينة وإسحاق وغيرهم.
وقال مالك وأبو حنيفة: تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته. وقد قرئ تجارة على الرفع على أن كان تامة، وتجارة بالنصب على أنها ناقصة.
وأفاد الشوكاني في المختصر أن المعتبر في البيع مجرد التراضي ولو بإشارة من قادر على النطق. انتهى.
وقال في شرحه: لكونه لم يرد ما يدل على ما يعتبره بعض أهل العلم من ألفاظ مخصوصة وأنه لا يجوز البيع بغيرها ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو: بعت منك، فإنا لا ننكر أن البيع يصح بذلك، وإنما النزاع في كونه لا يصح إلا بها ولم يرد في ذلك شيء. وقد قال تعالى: {تِجارَةً عَنْ تَراضٍ}، فدل على أن مجرد التراضي هو المناط ولابد من الدلالة عليه بلفظ أو إشارة أو كناية بأي لفظ، وقع على أي صفة كان، وبأي إشارة مفيدة حصل. وقال صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه».
فإذا وجدت طيبة النفس مع التراضي فلا يعتبر غير ذلك. انتهى.
{وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)}: أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع، أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي الموجبة للقتل بأن يقتل فيقتل، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة، ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزاة ذات السّلاسل فقرر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم احتجاجه- وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما.

.الآية الثانية عشرة:

{الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)}.
{الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ} هذه الجملة مستأنفة مشتملة على بيان العلة التي استحق بها الرجال الزيادة، كأنه قيل: كيف استحق الرجال ما استحقوا مما لم يشاركهم فيه النساء؟ فقال: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}. والمراد أنهم يقومون بالذّب عنهنّ كما يقوم الحكام والأمراء بالذبّ عن الرعية، وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله: {قَوَّامُونَ}، ليدلّ على أصالتهم في هذا الأمر. والباء في قوله: {بِما فَضَّلَ اللَّهُ} للسببية، الضمير في قوله: {بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ} للرجال والنساء: أي إنما استحقوا هذه المزية لتفضيل اللّه إياهم عليهنّ بما فضلهم به من كون فيهم الخلفاء والسلاطين والحكام والأمراء والغزاة وغير ذلك من الأمور.
{وَبِما أَنْفَقُوا}: أي بسبب ما أنفقوا {مِنْ أَمْوالِهِمْ}: وما مصدرية أو موصولة وكذلك هي في قوله: {بما فضل اللّه}، ومن تبعيضية. والمراد ما أنفقوه في الإنفاق على النساء وبما دفعوه في مهورهنّ من أموالهم، وكذلك ما ينفقونه في الجهاد وما يلزمهم في العقل والدية.
وقد استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على جواز فسخ النكاح إذا عجز الزوج عن نفقة زوجته وكسوتها وبه قال مالك والشافعي وغيرهما.
{وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ}: هذا خطاب للأزواج، قيل: الخوف هنا على بابه، وهو حالة تحدث في القلب عند حدوث أمر مكروه، أو عند ظنّ حدوثه، وقيل: المراد بالخوف هنا العلم.
والنشوز: العصيان، قال ابن فارس يقال: نشزت المرأة استعصت على زوجها، ونشز بعلها إذا ضربها وجفاها.
{فَعِظُوهُنَّ} أي ذكروهنّ بما أوجبه اللّه عليهنّ من الطاعة وحسن العشرة ورغبوهنّ ورهبوهنّ.
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ}: يقال: هجره: أي تباعد منه، والمضاجع: جمع مضجع وهو محل الاضطجاع: أي تباعدوا عن مضاجعهنّ ولا تدخلوهنّ تحت ما تجعلونه عليكم حال الإضجاع مع الثياب. وقيل: هو أن يوليها ظهره عند الاضطجاع، وقيل: هو كناية عن ترك جماعها. وقيل: لا تبيت معه في البيت الذي يضطجع فيه.
{وَاضْرِبُوهُنَّ} أي ضربا غير مبرح، ولا شائن.
وظاهر النظم القرآني أنه يجوز للزوج أن يفعل جميع هذه الأمور عند مخافة النشوز، وقيل: إنه لا يهجر إلا بعد عدم تأثير الوعظ، فإن أثر الوعظ لم ينتقل إلى الهجر، وإن كفاه الهجر لم ينتقل إلى الضرب.
{فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ} كما يجب وتركن النشوز {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} أي لا تتعرضوا لهن بشيء مما يكرهن لا بقول ولا فعل. وقيل: المعنى لا تكلفوهنّ الحبّ لكم فإنه لا يدخل تحت اختيارهنّ.

.الآية الثالثة عشرة:

{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}.
{وإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها}: أصل الشقاق أن كل واحد منهما يأخذ شقا غير شق صاحبه: أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لإجرائه مجرى المفعول به كقوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ}، وقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، والخطاب للأمراء والحكام، والضمير في قوله بَيْنِهِما للزوجين لأنه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما وهو ذكر الرجال والنساء فابعثوا إلى الزوجين حكما يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا.
وإنما نص اللّه سبحانه على أن الحكمين يكونان من أهل الزوجين لأنهما أقرب لمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسيء منهما. فأما إذا عرف المسيء فإنه يؤخذ لصاحبه الحق منه وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فإن قدرا على ذلك عملا عليه وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر من الحاكم في البلد ولا توكيل بالفرقة من الزوجين وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو مروي عن عثمان وعليّ وابن عباس والشعبي والنخعي والشافعي وحكاه ابن كثير عن الجمهور قالوا: لأن اللّه قال: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِها}، وهذا نص من اللّه سبحانه على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان.
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن- وهو أحد قولي الشافعي- إن التفريق هو إلى الإمام أو الحاكم في البلد لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الإمام والحاكم، لأنهما رسولان لا شاهدان فليس إليهما التفريق. ويرشد إلى هذا قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدا} أي الحكمان، {إِصْلاحًا}: بين الزوجين، {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما} أي يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن العشرة.
ومعنى الإرادة خلوص نيتهما لصلاح الحال بين الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله: {يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما} للحكمين، كما في قوله: {إِنْ يُرِيدا إِصْلاحًا} أي يوفق اللّه بين الحكمين في اتحاد كلمتهما وحصول مقصودهما، وقيل: كلا الضميرين للزوجين، أي إن يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما ولا يلزم قبول قولهما بلا خلاف.

.الآية الرابعة عشرة:

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُورًا (36)}.
{وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا} مصدر لفعل محذوف أي أحسنوا بالوالدين إحسانا. وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع.
وقد دل ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد الأمر بعبادة اللّه والنهي عن الإشراك به على عظم حقهما، ومثله: {اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ} فأمر سبحانه بأن يشكرا معه.
{وَبِذِي الْقُرْبى}: أي صاحب القرابة وهو من يصح إطلاق اسم القربى عليه وإن كان بعيدا.
{وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ}: قد تقدم تفسيرهما. والمعنى أحسنوا بذي القربى إلى آخر ما هو مذكور في هذه الآية.
{وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى} والمراد من يصدق عليه مسمى الجوار مع كون داره بعيدة.
وفي ذلك دليل على تعميم الجيران بالإحسان إليهم. سواء كانت الديار متقاربة أو متباعدة، وعلى أن للجوار حرمة مرعية مأمورا بها. وفيه ردّ على من يظن أن الجار مخصوص بالملاصق دون من بينه وبينه حائل، أو مختص بالقريب دون البعيد.
وقيل: المراد بقوله: {وَالْجارِ الْجُنُبِ}: هنا هو الغريب، وقيل هو الأجنبي الذي لا قرابة بينه وبين المجاور له. وقرأ الأعمش والمفضل {وَالْجارِ الْجُنُبِ} بفتح الجيم وسكون النون أي ذي الجنب وهو الناحية. وأنشد الأخفش:
الناس جنب والأمير جنب

وقيل: المراد بالجار ذي القربى: المسلم، وبالجار الجنب: اليهودي والنصراني.
وقد اختلف أهل العلم في المقدار الذي عليه يصدق مسمى الجار ويثبت لصاحبه الحق: فروي عن الأوزاعي والحسن أنه إلى حد أربعين دارا من كل ناحية، وروي عن الزهري نحوه.
وقيل: من سمع إقامة الصلاة، وقيل: إذا جمعتهما محلة. وقيل: من سمع النداء. والأولى أن يرجع في معنى الجار إلى الشرع، فإن وجد فيه ما يقتضي بيانه وأنه يكون جارا إلى حد كذا من الدور أو من مسافة الأرض كان العمل عليه متعينا، وإن لم يوجد رجع إلى معناه لغة وعرفا.
ولم يأت في الشرع ما يفيد أن الجار هو الذي بينه وبين جاره مقدار كذا، ولا ورد في لغة العرب أيضا ما يفيد ذلك، بل المراد بالجار في اللغة: المجاور ويطلق على معان، قال في القاموس: الجار المجاور، والذي أجرته من أن يظلم، والمجير والمستجير، الشريك في التجارة، وزوج المرأة، وهي جارته، وفرج المرأة، وما قرب من المنازل، والاست كالجارة، والمقاسم، والحليف، والناصر. انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره: وروي أن رجلا جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: إني نزلت محلّة قوم وإن أقربهم إليّ جوارا أشدهم لي أذى! فبعث النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أبا بكر وعمر وعليّا رضي اللّه عنهم يصيحون على أبواب المساجد: «ألا إن أربعين دارا جار، ولا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه». انتهى.