فصل: الآية الخامسة عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الشوكاني: ولو ثبت هذا لكان مغنيا عن غيره، ولكنه رواه- كما ترى- من غير عزوه إلى أحد كتب الحديث المعروفة وهو وإن كان إماما في علم الرواية فلا تقوم الحجة بما يرويه بغير سند مذكور ولا نقل عن كتاب مشهور، ولاسيما وهو يذكر الواهيات كثيرا كما يفعل في تذكرته انتهى.
أقول: هذا الحديث بلفظه أخرجه الطبراني كما ذكر في الترغيب والترهيب وروى السيوطي في جامعه الصغير: «الجوار أربعون دارا». أخرجه البيهقي عن عائشة.
قال المناوي في شرحه: وروي عن عائشة: «أوصاني جبريل بالجار أربعين دارا».
وكلاهما ضعيف. والمعروف المرسل الذي أخرجه أبو داود، هكذا نقل عن السيوطي ثم قال: ولفظ مرسل أبي داود: «حق الجوار أربعون دارا، هكذا وهكذا، وهكذا» وأشار قداما ويمينا وخلفا. قال الزركشي: سنده صحيح، وقال ابن حجر: رجاله ثقات، ورواه أبو يعلى عن أبي هريرة مرفوعا باللفظ المذكور لكن قال ابن حجر: في سنده عبد السلام منكر الحديث، فليحفظ.
وقد ورد في القرآن ما يدل على أن المساكنة في مدينة مجاورة! قال اللّه تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ إلى قوله ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا (60)}! فجعل اجتماعهم في المدينة جوارا.
وأما الأعراف في مسمى الجوار فهي تختلف باختلاف أهلها، ولا يصح حمل القرآن على أعراف متعارفة واصطلاحات متواضعة.
{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}: قيل: هو الرفيق في السفر، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك.
وقال علي وابن مسعود وابن أبي ليلى: هو الزوجة.
وقال ابن جريح: هو الذي يصحبك ويلزمك رجاء نفعك. ولا يبعد أن تتناول الآية جميع ما في هذه الأقوال مع زيادة عليها وهو كل من صدق عليه أنه صاحب بالجنب:
أي بجنبك. كمن يقف بجنبك في تحصيل علم أو تعلم صناعة أو مباشرة تجارة أو نحو ذلك.
{وَابْنِ السَّبِيلِ}: قال مجاهد: هو الذي يجتاز بك مارّا، والسبيل: الطريق، فنسب المسافر إليه لمروره عليه ولزومه إياه. فالأولى تفسيره بمن هو على سفر فإن على المقيم أن يحسن إليه وقيل: هو المنقطع به، وقيل: هو الضيف.
وأحسنوا إلى: {وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} إحسانا. وهم العبيد والإماء. وقد أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنهم يطعمون مما يطعم مالكهم ويلبسون مما يلبس، وقد ورد مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في بر الوالدين وفي صلة القرابة وفي الإحسان إلى اليتامى وفي الإحسان إلى الجار وفي القيام بما يحتاج إليه المماليك أحاديث كثيرة قد اشتملت عليه كتب السنة لا حاجة بنا إلى بسطها هنا.

.الآية الخامسة عشرة:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} جعل الخطاب خاصا بالمؤمنين لأنهم الذين كانوا يقربون الصلاة حال السكر، وأما الكفار فهم لا يقربونها سكارى ولا غير سكارى.
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} قال أهل اللغة: إذا قيل لا تقرب- بفتح الراء- كان معناه لا تتلبس بالفعل، وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدنوا منه. والمراد النهي عن التلبس بالصلاة وغشيانها، وبه قال جماعة من المفسرين وإليه ذهب أبو حنيفة، وقال آخرون: المراد مواضع الصلاة، وبه قال الشافعي. وعلى هذا فلابد من تقدير مضاف ويقوّي هذا قوله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}. وقالت طائفة: المراد الصلاة ومواضعها معا، لأنهم كانوا حينئذ لا يأتون المسجد إلا للصلاة ولا يصلون إلا مجتمعين فكانا متلازمين.
{وَأَنْتُمْ سُكارى}: الجملة في محل نصب على الحال وسكارى جمع سكران، مثل كسالى جمع كسلان.
وقرأ النخعي {سكارى} بفتح السين وهو تكسير سكران. وقرأ الأعمش {سكرى} كحبلى صفة مفردة. وقد ذهب كافة العلماء إلى أن المراد بالسكر هنا سكر الخمر، إلا الضحاك فإنه قال: المراد سكر النوم، ولم يعن بها الخمر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال: النعاس وقد أخرج عبد بن حميد وأبو داود والترمذي- وحسنه- والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- في المختارة عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: صنع لنا عبد الرحمن طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة وقدموني فقرأت: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون فأنزل اللّه هذه الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه: أن الذي صلى بهم عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال: نزلت في أبي بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد صنع لهم علي رضي اللّه عنه طعاما وشرابا، فأكلوا وشربوا ثم صلى بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون حتى ختمها فقال: ليس لي دين وليس لكم دين، فنزلت.
وهذا سبب نزول الآية وبه يندفع ما يخالف الصواب من هذه الأقوال.
{حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ}: هذا غاية النهي عن قربان الصلاة في حال السكر: أي حتى يزول عنكم أثر السكر وتعلموا ما تقولونه، فإن السكران لا يعلم ما يقوله. وقد تمسك بهذا من قال إن طلاق السكران لا يقع، لأنه إذا لم يعلم ما يقوله انتفى القصد، وبه قال عثمان بن عفان وابن عباس وطاووس وعطا والقاسم وربيعة وهو قول الليث بن سعد وإسحاق وأبي ثور والمزني، واختاره الطحاوي، وقال: أجمع العلماء على أن طلاق المعتوه لا يجوز، والسكران معتوه كالموسوس.
وأجازت طائفة وقوع طلاقه، وهو محكي عن عمر بن الخطاب ومعاوية وجماعة من التابعين وهو قول أبي حنيفة والثوري والأوزاعي.
واختلف قول الشافعي في ذلك.
وقال مالك: يلزمه الطلاق والقود في الجراح والقتل ولا يلزمه النكاح والبيع.
{وَلا جُنُبًا}: عطف على محل الجملة الحالية وهي قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى}.
والجنب لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع لأنه ملحق بالمصدر كالبعد والقرب. قال الفراء:
يقال: جنب الرجل وأجنب من الجنابة. وقيل: يجمع الجنب في لغة على أجناب مثل عنق وأعناق وطنب وأطناب.
{إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} استثناء مفرّغ، أي لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل، والمراد به هنا السفر. ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية وهي قوله: {وَلا جُنُبًا}، لا بالحال الأولى وهي قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} فيصير المعنى لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم. وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والحكم وغيرهم، قالوا: لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال، إلا المسافر فإنه يتيمم لأن الماء قد يعدم في السفر، لا في الحضر، فإن الغالب أنه لا يعدم.
وقال ابن مسعود وعكرمة والنخعي وعمرو بن دينار ومالك والشافعي: عابر السبيل هو المجتاز في المسجد، وهو مرويّ عن ابن عباس. فيكون معنى الآية على هذا: لا تقربوا مواضع الصلاة- وهي المساجد- في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب. وفي القول الأوّل قوة من جهة كون الصلاة فيه باقية على معناها الحقيقي، وضعف من جهة ما في حمل عابر السبيل على المسافر وأن معناه: أنه يقرب الصلاة عند عدم الماء بالتيمم، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء، كما يكون في المسافر.
وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}، وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها.
وبالجملة فالحال الأولى أعني قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف، وكذلك سبب نزول الآية يقوي ذلك.
وقوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} يقوّي تقدير المضاف: أي لا تقربوا مواضع الصلاة.
ويمكن أن يقال: إن بعض قيود النهي أعني {لا تَقْرَبُوا} وهو قوله: {وَأَنْتُمْ سُكارى} يدل على أن المراد مواضع الصلاة.
ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه، ويكون ذلك نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد، وهما لا تقربوا الصلاة هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب.
وغاية ما يقال في هذا أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو جائز بتأويل مشهور.
وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين: والأولى قول من قال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ}: إلا مجتازي طريق فيه، وذلك أنه قد بيّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}، فكان معلوما بذلك أن قوله: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}، لو كان معنيّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره- في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ}- معنى مفهوما، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك. فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قال وعابر السبيل: المجتازه مرا وقطعا. يقال منه: عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا، ومنه قيل: عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه.
قال ابن كثير: وهذا الذي نصره- يعني ابن جرير- هو قول الجمهور، وهو الظاهر من الآية. انتهى. {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}: غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة، والمعنى: لا تقربوه حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى}: المرضى عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ. وهو على ضربين، كثير ويسير.
والمراد هنا أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء.
وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات، وهذا باطل يدفعه قوله: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ}. {أَوْ عَلى سَفَرٍ}: فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر. والخلاف مبسوط في كتب الفقه.
وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر، وقال قوم: لابد من ذلك. وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في الحاضر، فذهب مالك وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه يجوز في الحضر والسفر.
وقال الشافعي: ويجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف.
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ}: هو المكان المنخفض، والمجيء منه كناية عن الحدث، والجمع الغيطان والأغواط. وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا. ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ}: وهو قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، وقرأ حمزة والكسائي: {لمستم}. قيل: المراد بما في القراءتين الجماع، وقيل: المراد به مطلق المباشرة، وقيل: إنه يجمع الأمرين جميعا.
وقال محمد بن زيد: الأولى في اللغة أن يقون لامستم بمعنى قبلتم ونحوه، ولمستم بمعنى غشيتم.
واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال: فقالت فرقة: الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع. قالوا: والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب وابن مسعود.