فصل: الآية السادسة عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عبد البر: لم يقل بقولهما في هذا أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي وحملة الآثار. انتهى.
وأيضا الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله كحديث عمار وعمران بن حصين وأبي ذرّ في تيمم الجنب. وقالت طائفة: هو الجماع، كما في قوله: {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}، وهو مروي عن علي عليه السلام وأبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وطاووس والحسن وبيد بن عمير وسعيد بن جبير والشعبي وقتادة ومقاتل وابن حيان وأبي حنيفة.
وقال مالك: الملامس بالجماع يتيمم، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال الشافعي: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. حكاه القرطبي عن ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة.
وقال الأوزاعي: إذا كان اللمس باليد نقض الطهر، وإن كان بغير اليد لم ينقض لقوله تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ}. وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه، وليس الأمر كذلك، فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة، مع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل.
وهذا الحكم تعمّ به البلوى ويثبت به التكليف العام فلا يحل إثباته بمحتمل قد وقع النزاع في مفهومه.
وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء، فكان الجنب داخلا بهذا الدليل، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك.
وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية، لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به من أنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أتاه رجل فقال: يا رسول اللّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللّه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)} أخرجه أحمد والترمذي والنسائي من حديث معاذ قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها.
ولا يخفاك أنه لا دلالة لهذا الحديث على محل النزاع، فإن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها اللّه سبحانه في هذه الآية إذ لا صلاة إلا بوضوء وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه وإذا عرفت هذا فالأصل البراءة عن هذا الحكم فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت: «كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يتوضأ ثم يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ». وقد روي هذا الحديث بألفاظ مختلفة.
رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن ماجة، وما قيل من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة- ولم يسمع من عروة- فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة، ورواه أحمد أيضا وأبو داود والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي عن عائشة، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية.
ولفظ حديث أم سلمة: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقبلها وهو صائم ولا يفطر ولا يحدث وضوءا. ولفظ حديث زينب السهمية أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يقبل ثم يصلي ولا يتوضأ. ورواه فأحمد عن زينب السهمية عن عائشة.
{فَلَمْ تَجِدُوا ماءً}: هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط وهو المرض والسفر والمجيء من الغائط وملامسة النساء، كان فيه دليل على أن المرض والسفر لمجردهما لا يسوّغان التيمم، بل لابد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد الماء، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء.
ولكنه يستشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم فلابد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر؟
فقيل: وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب. وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين أعني قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله.
وقد قيل: إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما: وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد.
وقال مالك ومن تابعه: ذكر اللّه المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب فيمن لم يجد الماء، بخلاف الحاضر، فإن الغالب وجوده فلذلك لم ينص اللّه سبحانه عليه. انتهى.
والظاهر أن المرض- بمجرّده- مسوغ للتيمم وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال أو في المال، ولا يعتبر خشية التلف فاللّه سبحانه يقول:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، ويقول: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، والنبي صلّى اللّه عليه وآله يقول: «الدين يسر»، ويقول: «يسروا ولا تعسروا». وقال: «قتلوه قتلهم اللّه» ويقول: «أمرت بالشريعة السمحة». فإذا قلنا إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع كان وجه التنصيص على المرض هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنته لعجزه عن الطلب، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف.
وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنته لإعواز الماء وبعض البقاع دون بعض.
{فَتَيَمَّمُوا}: التيمم لغة: القصد، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب.
وقال ابن الأنباري في قولهم: قد تيمم الرجل: معناه قد مسح التراب على وجهه.
وهذا خلط للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي! فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين، وإنما هو معنى شرعي فقط.
وظاهر الأمر الوجوب وهو مجمع على ذلك والأحاديث في هذا الباب كثيرة وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة، ومقالات أهل العلم مدونة في كتب الفقه.
{صَعِيدًا} هو وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن، قاله الخليل وابن الأعرابي والزجاج.
قال الزجاج: لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. قال اللّه تعالى: {وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيدًا جُرُزًا (8)} أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا، وقال اللّه تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)}، وإنما سمي صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض، وجمع الصعيد صعدات.
وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به، فقال مالك وأبو حنيفة والثوري والطبري: إنه يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة، وحملوا قوله طَيِّبًا قالوا: والطيب التراب الذي ينبت.
وقد تنوزع في معنى الطيب فقيل: الطاهر كما تقدم، وقيل: المنبت كما هنا، وقيل: الحلال. والمحتمل لا يقوم به الحجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز، لكان الحق ما قاله الأولون. لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «فضلنا الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء». وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» وفي لفظ: «وجعل ترابها لنا طهورا».
فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية، أو مخصص لعمومه، أو مفيد لإطلاقه. ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل: تيمم بالصعيد: أي أخذ من غباره. انتهى. والحجر الصلد ما لا غبار عليه.
{فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}: هذا المسح مطلق بتناول المسح بضربة أو ضربتين، ويتناول المسح إلى المرفقين أو الرسغين، وقد بينته السنة بيانا شافيا. وقد جمع الشوكاني بين ما ورد في المسح بضربة أو بضربتين وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين في شرحه للمنتقى وغيره من مؤلفاته بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره.
والحاصل أن أحاديث الضربتين لا يخلو جميع طرقها من مقال ولو صحت لكان الأخذ بها متعينا لما فيها من الزيادة. فالحق الوقوف والعمل على ما في الصحيحين من حديث عمار المقتصر على ضربة واحدة حتى تصح وتثبت الزيادة على ذلك المقدار الثابت.

.الآية السادسة عشرة:

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)}.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات. وقد روي عن علي وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب أنها خطاب لولاة المسلمين والأول أظهر، وورودها على سبب لا ينافي ما فيها من العموم، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما تقرر في الأصول، بل قال الواحدي: أجمع المفسرون على ذلك.
ويدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوليا فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ورد الظلامات وتحرّي العدل في أحكامهم. ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات والتحري في الشهادات والأخبار.
وممن قال بعموم هذا الخطاب: البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب، واختاره جمهور المفسرين ومنهم ابن جرير، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها: الأبرار منهم والفجار كما قال ابن المنذر.
والأمانات جمع أمانة وهي مصدر بمعنى المفعول.
{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}: هو فصل الحكومة على ما في كتاب اللّه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، لا الحكم بالرأي المجرد، فإن ذلك ليس من الحق في شيء إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب اللّه ولا في سنة رسوله، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم حكم اللّه سبحانه، وما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص.
وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم اللّه ورسوله ولا بما هو أقرب إليهما فلا يدري ما هو العدل، لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فضلا عن أن يحكم بها بين عباد اللّه، وقد أفاد الإمام الرباني محمد بن علي الشوكاني في مختصره حيث قال في كتاب القضاء: إنما يصح قضاء من كان مجتهدا متورعا عن أموال الناس عادلا في القضية حاكما بالسوية. انتهى.
وقال في شرحه: أما كونه إنما يصح قضاء من كان مجتهدا فلما في الكتاب العزيز من الأمر بالقضاء بالعدل والقسط وبما أراد اللّه. ولا يعرف ذلك إلا مجتهدا لأن المقلد إنما يعرف قول إمامه دون حجته، وهكذا لا يحكم بما أراه اللّه إلا من كان مجتهدا، لا من كان مقلدا فما أراه اللّه شيئا بل أراه إمامه ما يختاره لنفسه.
ومما يدل على اعتبار الاجتهاد حديث بريدة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم، فهو في النار...». أخرجه ابن ماجة وأبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه. وقد جمع ابن حجر طرقه في جزء مفرد.