فصل: الآية السابعة عشرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ووجه الدلالة أنه لا يعرف الحق إلا من كان مجتهدا، وأما المقلد فهو يحكم بما قال إمامه ولا يدري أحق هو أم باطل، فهو القاضي الذي قضى للناس على جهل وهو أحد قاضيي النار.
ومن الأدلة على اشتراط الاجتهاد قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)}، و{الظَّالِمُونَ}، و{الْفاسِقُونَ}، ولا يحكم بما أنزل اللّه إلا من عرف التنزيل والتأويل.
ومما يدل على ذلك حديث معاذ لما بعثه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى اليمن فقال له: «بم تقضي»؟
قال: بكتاب للّه. قال: «فإن لم تجد»؟ قال: فبسنّة رسول اللّه. قال: «فإن لم تجد»؟ قال فبرأيي، وهو حديث مشهور. وقد بينت طرقه ومن خرجه في بحث مستقل.
ومعلوم أن المقلد لا يعرف كتابا ولا سنة ولا رأي له، بل لا يدري بأن الحكم موجود في الكتاب والسنة فيقضي به أو ليس بموجود فيجتهد برأيه.
فإذا ادعى المقلد أنه يحكم برأيه فهو يعلم أنه يكذب على نفسه لاعترافه بأنه لا يعرف كتابا ولا سنة، فإذا زعم أنه حكم برأيه فقد أقر على نفسه بأنه حكم بالطاغوت. انتهى كلامه.
ويزيد ذلك قوة وشرحا ما قاله السيد العلامة بدر اللّه المنير محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير رضي اللّه عنه في سبل السلام شرح بلوغ المرام في شرح حديث عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، فإذا حكم ثم أخطأ فله أجر». متفق عليه والحديث من أدلة القول بأن الحكم عند اللّه في كل قضية واحد، قد يصيبه من أعمل فكره وتتبع الأدلة ووفقه اللّه تعالى فيكون له أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة.
والذي له أجر واحد من اجتهد فأخطأ فله أجر الاجتهاد.
واستدلوا بالحديث على أنه يشترط أن يكون الحاكم مجتهدا. قال الشارح- يعني القاضي المغربي صاحب البدر التمام شرح بلوغ المرام- وغيره وهو المتمكن من أخذ الأحكام من الأدلة الشرعية- قال: ولكنه لغير وجوده بل كاد يعدم بالكلية ومع تعذره، فمن شرطه أن يكون مقلدا مجتهدا في مذهب إمامه، ومن شرطه أن يحقق أصول إمامه وأدلته وينزل أحكامه عليها فيما لم يجده منصوصا عليه من مذهب إمامه. انتهى. قلت: ولا يخفى ما في هذا الكلام من البطلان وإن تطابق عليه الأعيان وقد بينا بطلان دعوى تعدد الاجتهاد في رسالتنا إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد بما لا يمكن دفعه. وما أرى هذه الدعوى التي تطابقت عليها الأنظار إلا من كفران نعمة اللّه عليهم فإنهم- أعني المدعين لهذه الدعوى والمقررين لها- مجتهدون يعرف حدهم من الأدلة ما يمكنه بها الاستنباط مما لم يكن قد عرفه عتاب بن أسيد قاضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على مكة، ولا أبو موسى الأشعري قاضي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في اليمن، ولا معاذ بن جبل قاضيه فيهما وعامله عليها، ولا شريح قاضي عمر وعلي رضي اللّه عنهما على الكوفة.
ويدل لذلك قول الشارح: فمن شرطه- أي المقلد- أن يكون مجتهدا في مذهب إمامه وأن يحقق أصوله وأدلته فإن هذا هو الاجتهاد الذي حكم بكيدودة عدمه بالكلية وسماه متعذرا فهلا جعل هذا المقلد إمامه كتاب اللّه وسنة رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عوضا عن إمامه؟
وتتبع نصوص الكتاب والسنة عوضا عن تتبع نصوص إمامه؟ والعبارات كلها ألفاظ دالة على معان فهلا استبدل بألفاظ إمامه ومعانيها ألفاظ الشارع ومعانيها؟ ونزل الأحكام عليها إذا لم يجد نصا شرعيا عوضا عن تنزيلها على مذهب إمامه فيما لم يجده منصوصا؟
تاللّه لقد استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير من معرفة الكتاب والسنة إلى معرفة كلام الشيوخ والأصحاب وتفهم مرامهم، والتفتيش عن كلامهم.
ومن المعلوم يقينا أن كلام اللّه تعالى وكلام رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أقرب إلى الأفهام وأدنى إلى إصابة بلوغ المرام، فإنه أبلغ الكلام بالإجماع، وأعذبه في الأفواه والأسماع وأقربه إلى الفهم والانتفاع، ولا ينكر هذا إلا جلمود الطباع ومن لا حظ له في النفع والانتفاع، والأفهام التي فهم بها الصحابة والكلام الإلهي، والخطاب النبوي هي كأفهامنا، وأحلامهم كأحلامنا، إذ لو كانت الأفهام متفاوتة تفاوتا يسقط معه فهم العبارات الإلهية والأحاديث النبوية لما كنا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين لا اجتهادا ولا تقليدا.
أما الأول: فلاستحالته، وأما الثاني: فلأنا لا نقلد حتى نعلم أنه يجوز لنا التقليد، ولا نعلم ذلك إلا بعد فهم الدليل من الكتاب والسنة على جوازه لتصريحهم بأنه لا يجوز التقليد في جواز التقليد، فهذا الفهم الذي فهمنا به هذا الدليل نفهم به غيره من الأدلة من كثير وقليل.
على أنه قد شهد المصطفى صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بأنه يأتي من بعده من هو أفقه ممن في عصره وأوعى لكلامه حيث قال: «فرب مبلّغ أفقه من سامع» وفي لفظ: «أوعى له من سامع».
والكلام قد وفيناه حقه في الرسالة المذكورة. انتهى كلام السبل. وقد بسطت القول في ذلك في رسالتي «الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة».

.الآية السابعة عشرة:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}: طاعة اللّه عزّ وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هي فيما أمر به ونهى عنه.
قال الحافظ ابن القيم رحمه اللّه في أعلام الموقعين: أمر اللّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنما أوتي الكتاب ومثله معه. ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة. كما صح عنه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «إنما الطاعة في المعروف»، وقال في ولاة الأمور: «من أمركم منهم بمعصية اللّه فلا سمع له ولا طاعة» انتهى.
{وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}: لما أمر اللّه سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل أو الحق أمر الناس بطاعتهم هاهنا، وأولو الأمر هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية.
والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه، ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية اللّه، كما قلت ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم. وقال جابر بن عبد اللّه ومجاهد والحسن البصري وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح وابن عباس والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنهما: إن أولي الأمر هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك.
وروي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي.
والراجح القول الأول- قاله الشوكاني.
وقال الحافظ ابن القيم رحمه اللّه في أعلام الموقعين تحت هذه الآية:
والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء. ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء وكان الناس كلهم لهم تبعا كان صلاح العالم بصلاح هاتين الطائفتين وفساده بفسادهما، كما قال عبد اللّه بن المبارك وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك والعلماء.
رأيت الذنوب تميت القلوب ** وقد يورث الذل إدمانها

وترك الذنوب حياة القلوب ** وخير لنفسك عصيانها

وهل أفسد الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها

انتهى كلامه.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن عباس في قوله تعالى هذا قال: «نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في سرية» وقصته معروفة.
قال ابن القيم: وقد أخبر النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها «أنّهم لو دخلوا لما خرجوا منها» مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعة لأميرهم، وظنا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصّروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية اللّه وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يرده الآمر- صلّى اللّه عليه وآله وسلّم- وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبّت وتبيّن هل ذلك طاعة للّه ورسوله أم لا؟ فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث اللّه به رسوله. انتهى.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال: طاعة اللّه والرسول، اتباع الكتاب والسنة. {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} قال: أولوا الفقه والعلم: وليعلم أنه لا يصح استدلال المقلدة بهذه الآية لأن المراد بها الأئمة كما ثبت عن غير واحد، ولو سلم إرادة العلماء فطاعتهم أيضا- كالأئمة والأمراء- مشروطة بعدم مخالفة الطاعة الإلهية كما سلف، مع أن العلماء أرشدوا إلى ترك التقليد كما روي عن الأئمة الأربعة وغيرهم.
ولو فرضنا أن في العلماء من يرشد إلى تقليده لكان يرشد إلى المعصية فلا طاعة لهم حينئذ بالنص، بل هذه الآية دالة على أن الكتاب والسنة مقدمان على القياس والرأي مطلقا فلا يجوز ترك العمل بهما ولا تخصيصهما بالقياس- جليا كان أو خفيا-.
ومن وجوه الدلالة أن قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} أمر بطاعة الكتاب والسنة، وهنا الأمر مطلق فثبت وجوب متابعتهما مطلقا سواء حصل قياس يعارضهما أو يخصصهما أو لم يحصل، ومنها أن كلمة «إن» للاشتراط على قول الأكثرية فقوله: {فَإِنْ تَنازَعْتُمْ} صريح في عدم جواز العدول إلى القياس إلا عند فقدان الأصول، كما يظهر ذلك من تأخير ذكره عنها في الآية، وكذا في قصة معاذ. ومنها أن سبب لعن إبليس ليس دفع نص السجدة بالكلية بل إنما خصص نفسه عن ذلك العموم بقياس، ومنها أن القرآن مقطوع المتن لثبوته بالتواتر، والقياس مظنون من جميع الجهات، والمقطوع راجح على المظنون، ومنها أن قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]. نص صريح في أننا إذا وجدنا عموم الكتاب حاصلا في الواقعة ثم حكمنا بالقياس فإنه يلزم الدخول تحت هذا العموم، وكذا التقدم بين يدي اللّه تعالى ورسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من لوازم ذلك. وتمام القول في هذه المسألة في تفسيرنا فتح البيان فليرجع إليه.
{فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} المنازعة: المجاذبة والنزع: الجذب، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها، والمراد الاختلاف والمجادلة. وفيه دليل على أن أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام ولا يخرجون بذلك عن الإيمان.
قال في أعلام الموقعين: وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين وأكمل الأمة إيمانا، ولكن بحمد اللّه لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلا ولم يحرّفوها عن مواضعها تبديلا، ولم يبدوا لشيء منها إبطالا ولا ضربوا لها أمثالا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرا واحدا وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عضين، وأقروا بعضها وأنكروا بعضها من غير فرقان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه.