فصل: الآية الثالثة والعشرون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الآية الثالثة والعشرون:

{وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)}.
{وما كانَ لِمُؤْمِنٍ}: هذا النفي هو بمعنى النهي المقتضي للتحريم، كقوله تعالى: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53]، ولو كان هذا النفي على معناه، لكان خبرا وهو يستلزم صدقه، فلا يوجد مؤمن قتل مؤمنا قط.
{أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا}. وقيل: المعنى ما كان له ذلك في عهد اللّه، وقيل: ما كان له ذلك فيما سلف، كما ليس له الآن بوجه.
ثم استثنى منه استثناء منقطعا فقال: {إِلَّا خَطَأً}: أي ما كان له أنه يقتله البتة، لكن إن قتله خطأ فعليه كذا. هذا قول سيبويه والزجاج.
وقيل: هو استثناء متصل، والمعنى: ما ثبت، ولا وجد، ولا ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، إذ هو مغلوب حينئذ. وقيل: المعنى ولا خطأ.
قال النحاس: ولا يعرف ذلك في كلام العرب، ولا يصح في المعنى لأن الخطأ لا يحظر، وقيل: المعنى: لا ينبغي أن يقتله لعلّة من العلل إلا بالخطأ وحده، فيكون قوله: {خَطَأً} منتصبا بأنه مفعول له، ويجوز أن ينتصب على الحال. والتقدير لا يقتله في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي إلا قتلا خطأ.
ووجوه الخطأ كثيرة ويضبطها عدم القصد، والخطأ اسم من أخطأ خطأ إذا لم يتعمد.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} بأن قصد رمي صيد مثلا، فأصابه أو ضربه بما لا يقتل غالبا، كذا قيل.
{فَتَحْرِيرُ}: أي: فعليه تحرير.
{رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يعتقها، كفارة عن قتل الخطأ، وعبّر بالرقبة عن جميع الذات.
واختلف العلماء في تفسير الرقبة المؤمنة، فقيل: هي التي صلّت وعقلت الإيمان، فلا تجزئ الصغيرة، وبه قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي وقتادة وغيرهم.
وقال عطاء بن أبي رباح: إنها تجزئ الصغيرة المولودة بين مسلمين.
وقال جماعة منهم مالك والشافعي: يجزئ كل من حكم له بوجوب الصلاة عليه إن مات، ولا يجزئ في قول جمهور العلماء أعمى، ولا مقعد، ولا أشلّ، ويجزئ عند الأكثر الأعرج والأعور.
قال مالك: إلا أن يكون عرجا شديدا ولا يجزئ عند أكثرهم المجنون، وفي المقام تفاصيل طويلة مذكورة في علم الفروع.
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ} الدية: ما يعطى عوضا عن دم المقتول إلى ورثته.
والمسلّمة: المدفوعة المؤداة.
والأهل: المراد بهم الورثة. وأجناس الدية وتفاصيلها قد بيّنتها السّنّة المطهرة.
{إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا}: أي إلا أن يتصدق أهل المقتول على القاتل بالدية، سمّي العفو عنها صدقة ترغيبا فيه.
{فَإِنْ كانَ}: أي المقتول.
{مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ}: وهم الكفار الحربيون.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}، وهذه مسألة المؤمن الذي يقتله المسلمون في بلاد الكفار الذين كان منهم، ثم أسلم ولم يهاجر وهم يظنون أنه لم يسلم، وأنه باق على دين قومه، فلا دية على قاتله، بل عليه تحرير رقبة مؤمنة.
واختلفوا في وجه سقوط الدية، فقيل: إن أولياء القتيل كفار لا حقّ لهم في الدية، وقيل: وجهه أن هذا الذي آمن ولم يهاجر حرمته قليلة، لقول اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72].
وقال بعض أهل العلم: إن ديته واجبة لبيت المال.
{وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ}: أي مؤقت، أو مؤبد.
وقرأ الحسن: {وهو مؤمن فدية مسلمة}: أي فعلى قاتله دية مؤداة.
{إِلى أَهْلِهِ}: من أهل الإسلام، وهم ورثته.
{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} كما تقدم.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ}: أي الرقبة، ولا اتسع ماله لشرائها.
{فَصِيامُ شَهْرَيْنِ} أي فعليه صيام شهرين.
{مُتَتابِعَيْنِ}: لم يفصل بين يومين من أيام صومهما إفطار في نهار، فلو أفطر استأنف، هذا قول الجمهور.
وأما الإفطار لعذر شرعي، كالحيض ونحوه، فلا يوجب الاستئناف.
واختلف في الإفطار لعروض المرض، ولم يذكر اللّه تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه أخذ الإمام الشافعي.
{تَوْبَةً}: منصوب على أنه مفعول له، أي شرع ذلك لكم توبة، أي قبولا لتوبتكم، أو منصوب على المصدرية: أي تاب عليكم توبة، وقيل: على الحال، أي: حال كونه ذا توبة كائنة، مِنَ اللَّهِ.

.الآية الرابعة والعشرون:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)}.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}: هذا متصل بذكر الجهاد والقتال.
والضرب: السير في الأرض.
تقول العرب: ضربت في الأرض إذا سرت لتجارة أو غزو أو غيرهما، وتقول: ضربت الأرض بدون في إذا قصدت قضاء حاجة الإنسان، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط».
{فَتَبَيَّنُوا}: من التبين، وهو التأمل، وهي قراءة الجماعة إلا حمزة فإنه قرأ فتثبّتوا من التثبت، واختار القراءة الأولى أبو عبيدة وأبو حاتم، قالا: لأن من أمر بالتبين فقد أمر بالتثبت، وإنما خص السفر بالأمر بالتبين مع أن التبين والتثبت في أمر القتل واجبان حضرا وسفرا بلا خلاف لأن الحادثة التي هي سبب نزول الآية كانت في السفر.
{ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السّلم} واختار أبو عبيد قراءة: السلام، وخالفه أهل النظر فقالوا: السّلم هاهنا أشبه لأنه بمعنى الانقياد والتسليم. والمراد هنا لا تقولوا لمن ألقى بيده إليكم واستسلم.
فالسلم والسلام كلاهما بمعنى الاستسلام، وقيل: هما بمعنى الإسلام: أي لا تقولوا لمن ألقى إليكم الإسلام، أي كلمته وهي الشهادة، {لَسْتَ مُؤْمِنًا}، من أمنته إذا أجرته فهو مؤمن.
وقد استدل بهذه الآية على أن من قتل كافرا بعد أن قال: لا إله إلا اللّه قتل به، لأنه قد عصم بهذه الكلمة دمه وماله وأهله، وإنما سقط القتل عن من وقع منه ذلك في زمن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لأنهم تأولوا وظنوا أن من قالها خوفا من السلاح لا يكون مسلما، ولا يصير دمه بها معصوما، وأنه لابد من أن يقول هذه الكلمة وهو مطمئن غير خائف.
والحكمة في التكلم بكلمة الإسلام إظهار الانقياد بأن يقول: أنا مسلم، وأنا على دينكم، لما عرفت من أن معنى الآية الاستسلام والانقياد، وهو يحصل بكل ما يشعر بالإسلام من قول أو فعل، ومن جملة ذلك كلمة الشهادة، وكلمة التسليم، فالقولان الآخران في معنى الآخر داخلان تحت القول الأول.
{تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا}: الجملة في محل نصب على الحال، أي لا تقولوا تلك المقالة طالبين الغنيمة، على أن يكون النهي راجعا إلى القيد والمقيد لا إلى القيد فقط، وسمي متاع الحياة عرضا لأنه عارض زائل غير ثابت.
قال أبو عبيدة: يقال جميع متاع الحياة الدنيا عرض بفتح الراء، وأما العرض بسكون الراء فهو ما سوى الدنانير والدراهم، فكل عرض بالسكون عرض بالفتح، وليس كل عرض بالفتح عرض بالسكون.
وفي كتاب العين: العرض ما نيل من الدنيا، ومنه قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا} وجمعه عروض.
وفي المجمل لابن فارس: والعرض ما يعترض للإنسان من مرض ونحوه، وعرض الدنيا ما كان فيها من مال قلّ أو كثر، والعرض من الأثاث ما كان غير نقد.
{فَعِنْدَ اللَّهِ}: هو تعليل للنهي، أي عند اللّه ما هو حلال لكم من دون ارتكاب محظور.
{مَغانِمُ كَثِيرَةٌ}: تغنمونها وتستغنون بها عن قتل من قد استسلم وانقاد واغتنام ماله.
{كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ}: أي كنتم كفارا فحقنت دماؤكم لمّا تكلمتم بكلمة الشهادة، أو كذلك كنتم من قبل تخفون إيمانكم عن قومكم، خوفا على أنفسكم، حتى منّ اللّه عليكم بإعزاز دينه فأظهرتم الإيمان وأعلنتم.

.الآية الخامسة والعشرون:

{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)}.
{لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: التفاوت بين درجات من قعد عن الجهاد من غير عذر، ودرجات من جاهد في سبيل اللّه بماله ونفسه، وإن كان معلوما ضرورة، لكن أراد اللّه سبحانه بهذا الأخبار، تنشيط المجاهدين ليرغبوا، وتبكيت القاعدين ليأنفوا.
{غَيْرُ}: قرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير بالرفع على أنه وصف للقاعدين- كما قال الأخفش-، لأنهم لا يقصد بهم قوم بأعيانهم فصاروا كالنكرة فجاز وصفهم بغير، وقرأ أبو حيوة بكسر الراء على أنه وصف للمؤمنين، وقرأ أهل الحرمين بفتح الراء على الاستثناء من القاعدين أو من المؤمنين، أي إلا: {أُولِي الضَّرَرِ} فإنهم يستوون مع المجاهدين، ويجوز أن يكون منتصبا على الحال من القاعدين: أي لا يستوي القاعدون الأصحاء في حال صحتهم، وجازت الحال منهم لأن لفظهم لفظ المعرفة.
قال العلماء: أهل الضرر هم أهل الأعذار لأنها أضرت بهم حتى منعتهم عن الجهاد. وظاهر النظم القرآني أن صاحب العذر يعطى مثل أجر المجاهد، وقيل: يعطى أجره من غير تضعيف، فيفضله المجاهد بالتضعيف لأجل المباشرة.
قال القرطبي: والأول أصح- إن شاء اللّه تعالى- للحديث الصحيح في ذلك: «إن بالمدينة رجالا، ما قطعتم واديا، ولا سرتم مسيرا، إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر».
قال وفي هذا المعنى ما ورد في الخبر: «إذا مرض العبد، قال اللّه تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة، إلى أن يبرأ أو أقبضه إليّ».
{وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً}: هذا بيان لما بين الفريقين من التفاضل المفهوم من ذكر عدم الاستواء إجمالا، والمراد هنا غير أولي الضرر حملا للمطلق على المقيد، وقال هنا درجة، وقال فيما بعد درجات، فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم الدرجات إنما هو مبالغة وبيان وتأكيد.
وقال آخرون: فضل اللّه المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل اللّه المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر بدرجات، قاله ابن جريج والسدي وغيرهما.
وقيل: إن معنى درجة علوّ، أي أعلى ذكرهم، ورفعهم بالثناء والمدح.
ودرجة: منتصبة على التمييز أو المصدرية، لوقوعها موقع المرة من التفضيل: أي فضل اللّه تفضيلة، أو على نزع الخافض، أو على الحالية من المجاهدين، أي ذوي درجة.
{وَكُلًّا}: مفعول أول لقوله: {وَعَدَ}، قدّم عليه لإفادة القصر، أي كل واحد من المجاهدين والقاعدين.
{وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} أي المثوبة، وهي الجنة، قاله قتادة.