فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة البقرة:
قد ذكرت في الجزأين المكيّين أن العدد الأول للسورة المفسرة بحسب النزول، والذي يليه بالنسبة لما قبله، والأخير بحسب ترتيب القرآن.
نزلت هذه السورة الكريمة في المدينة المنورة عدا الآية 281 فإنها نزلت في مكة يوم النحر في حجة الوداع السنة العاشرة من الهجرة، وتسمى سورة الزهراء، وسنام القرآن، وهي أول خير بدأ به أهل المدينة بعد تلاوة المطففين.
وما قيل إن المطففين نزلت بالمدينة لا صحة له وإنما قال من قال به بسبب تلاوتها من حضرة الرسول عند قدومه.
وسميت بالبقرة لورود ذكرها فيها، والزهراء لما روى مسلم عن أبي أمامه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «اقرأوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران لأنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيابتان كل ما يظل الإنسان من سماء وغيرها أو كأنهما فرقان من طير الجماعة من الطير صواف يحاجان عن صاحبهما، اقرءوا البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة السحرة».
وتسمى سنام القرآن لأن سنام كل شيء أعلاه وكأن هذه التسمية كانت بسبب أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: «أي القرآن أفضل؟ فقالوا اللّه ورسوله أعلم، قال سورة البقرة، ثم قال أي آيها أفضل؟ قالوا اللّه ورسوله أعلم، قال آية الكرسي».
ومن منع تسميتها بالبقرة لا دليل له، لأن أغلب سور القرآن سميت بما جاء فيها كما بيناه في المقدمة.
وهي مئنان وست وثمانون آية، وستة آلاف ومئة وإحدى وثمانون كلمة، وخمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرفا.
لا نظير لها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى: {الم} [1] تقدم الكلام فيه مفصلا أول سورة الأعراف وما بعدها من السور المبدوءة بالحروف المقطعة من بيان المعنى المراد منه، ومن كونه اسما للسورة، ومن أنه فواتح بعض أسماء اللّه الحسنى، وأنها سرّ من أسرار اللّه ورمز بينه وبين حبيبه محمد صلّى اللّه عليه وسلم، وغير ذلك.
قال الشعبي هي سر اللّه فلا تطلبوه.
وقيل في المعنى:
بين المحبين سر ليس يغشيه ** قول ولا قلم للخلق يحكيه

وقد استأنس بعض الشيعة فاستنبط جملة من أوائل هذه السور تدل على خلافة علي كرم اللّه وجهه بعد حذف المكرّر منها وهي صراط علي حق نمسكه وهي من الظرائف.
واستنبط الألوسي رحمه اللّه صاحب تفسير روح المعاني جملتين تنضمن الأولى الرد على صاحب الجملة المذكورة، وهي صح طريقك مع السنة والثانية تشير لما ورد في حق الأصحاب وهي طرق سمعك النصيحة إلماءا إليه، وقد ذكرت أنه لا يعلم ماهيتها وما تشير إليه على الحقيقة إلا اللّه تعالى والمنزلة عليه والراسخون في العلم على أحد القولين بالوقف كما سيأتي في الآية 7 من آل عمران الآتية، لأنها من المتشابه، وكل الأقوال الواردة فيها مجرد اجتهاد ليس إلا:
وكل يدعي وصلا بليلى ** وليلى لا تقر لهم بذاك

{ذلِكَ الْكِتابُ} الذي وعدناك به يا سيد الرسل أي في الآية 6 من سورة المزمل وهي: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} لا يمحوه الماء ولا يخلق على كثرة الترادد، ولا يسأم منه تاليه الذي: {لا رَيْبَ فِيهِ} ولا شك ولا شبهة بأنه من عند اللّه، وانه في نفسه حق وإن قال الجاحدون ما قالوا، وهو: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [2] لأنّهم هم المنتفعون به، فطوبى لأهل التقوى التي هي جماع كل بر، وملاك كل خير، فلو لم يكن لهم فضل غير ما في هذه الآية لكفاهم، وهؤلاء المتقون هم: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} الذي أنبأهم به رسولهم من البعث والحشر والحساب والجزاء والجنة والنار وغيرها: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} المفروضة فيؤدونها كاملة من الخشوع والخضوع المشار إليهما في الآية الأولى من سورة المؤمنين، ومن كما لها أن تكون بجماعة: {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} [3] عن رغبة وطيب نفس طاعة للّه تعالى على عياله وشكرا لآلائه عليهم وعلى الأصناف الثمانية الآتي دكرهم في الآية 60 من سورة التوبة الآتية، ومن رغّب القرآن بالإنفاق عليهم: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من الوحي الجليل: {وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} منه على الأنبياء السالفين من كتب وصحف، لأن من لا يؤمن بجميع الكتب وجميع الرسل ليس بمؤمن: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [4] أنها آتية لا محالة، لأن من لم يوقن بوقوعها وبما فيها فليس بمؤمن أيضا ولو آمن بالكتب والرسل: {أُولئِكَ} الموقنون بما ذكر القائمون به حق القيام إيقانا خالصا وإيمانا محضا: {عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [5] الفائزون الناجحون يوم القيامة.
ونظير هذه الآية الآية 3 من سورة لقمان.
وقد يأتي الفلاح بمعنى البقاء كما قيل:
لو كان حي مدرك الفلاح ** أدركه ملاعب الرماح

الأسنّة وأصله الشق، كما قيل: إن الحديد بالحديد يفلح.
واعلم أن اللّه تعالى صدر هذه السورة بهذه الآيات الأربع عدا ألم لأن بعض القراء عدها مع ما بعدها آية واحدة.
في حق المؤمنين، والآيتين بعدها بحق الكافرين، وثلاث عشرة آية بعدهما بحق المنافقين، والبقية في الأحكام والأخبار وغيرها.

.مطلب: الإيمان يزيد وينقص وحال المنافقين وفضيحتهم وأفعالهم:

اعلم أن الإيمان إذا فسر بمقتضى اللغة بمعنى التصديق فلا يزيد ولا ينقص، لأنه لا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، وإذا فسر بلسان الشرع بأنه التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالأركان، فإنه يزيد وينقص، وهذا ما ذهبت إليه مع أني حنفي المذهب، والحنفية لا يقولون بذلك، لأنه مذهب أهل السنة من أهل الحديث المؤيد بقوله تعالى: {أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيمانًا} [الآية: 124] من سورة التوبة الآتية، وقوله صلّى اللّه عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن».
إذ أثبت الزيادة بالآية، ونفى الإيمان أو كماله بالحديث، لأنه وإن كان التصديق نفسه لا يزيد ولا ينقص إلا أن الإيمان يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقصها، وعلى هذا فإن من آمن بلسانه ولم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك فلا يسمى مؤمنا بل مسلما، قال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} [الآية: 15] من الحجرات الآتية، على أن إيمانه هذا المجرد عن العمل قد يدخله الجنة. لتعلم أن مجرد الإيمان كاف.
لدخول الجنة إذا شاء اللّه، وهذا معنى جامع بين ظواهر جميع النصوص الواردة بزيادة الإيمان ونقصه، لأنه لا يعقل أن أقول إن إيماني مثل إيمان أبي بكر رضي اللّه عنه، وإن إيمان العارفين كإيمان أحاد الناس الذي تزلزله الشبهة وتعتريه الشكوك عند المناظرة.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الإيمان بضع وسبعون شعبة أفضلها قول لا إله إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان.
وهذا يدل أيضا على أن الأعمال الصالحة من الإيمان.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواء عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} تخوفهم وتحذرهم عاقبة أمرهم يا سيد الرسل فهم: {لا يُؤْمِنُونَ} [6] وهذه الآية الكريمة في الذين حقت عليهم كلمة العذاب، وذلك لأنه: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} فلا يعقلون بها: {وَعَلى سَمْعِهِمْ} فلا يسمعون بها سماع قبول، وإذا حرموا من هاتين الحاستين فلا يفقهون شيئا، والختم والطبع خلق الظلمة والضيق في الصدر وجعلهما حائلين عن سماع الدعوة النبوية وفهم منافعها ورؤية حقيقتها ما دام مختوما عليها فلا يعونها: {وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَة} لئلا يروا داعي الحق ولا يلتفتوا لقوله ولا يصغوا لرشده ونصحه لسابق سقائهم: {وَلَهُمْ عَذاب عَظِيم} لصرفهم هذه الجوارح لغير ما خلقت لها اختيارا ورغبة، فلذلك حرموا منافعها.
قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي بألسنتهم نفاقا ليبينوا لحضرة الرسول وأصحابه أنهم معهم وقد أبطنوا الكفر بذلك والجحود له.
نزلت هذه الآية وما بعدها في المنافقين من المشركين واليهود كعبد اللّه بن أبي بن سلول ومعقب بن قشير وعبد بن قيس وأضرابهم، ولذلك وصفهم اللّه تعالى بالنفاق لأن من يقول بلسانه ما ليس في قلبه فهو منافق، ولهذا أكذبهم اللّه بقوله عز قوله: {وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} حقيقة، لأن العبرة للتصديق القلبي لا القول اللساني عند اللّه تعالى ولهذا كذبهم، أما عندنا فإن من آمن بلسانه عاملناه معاملة المسلمين لأنا لم نطّلع على ما في قلبه، وليس لنا أن نقول هذا مؤمن بلسانه فقط، ومن كفر بلسانه عاملناه معاملة الكفرة ولو كان مؤمنا في قلبه، لأن علم القلب غير منوط بنا، والناس هنا جمع إنسان، وسمي آدم إنسانا لنسيانه عهد ربه، قال:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه ** ولا القلب إلا أنه ينقلب

وقال:
وسميت إنسانا لأنك أول الن ** اس وأول ناس أول الناس

وقيل لأنه يستأنس به وجميع الناس أناس، قال تعالى: {وَأَناسِيَّ كَثِيرًا} [الآية: 49] من الفرقان، ويقال للأثى إنسانة، قال:
إنسانة فتانة بدر الدجى منها خجل

وقال بعض اللغويين لا مفرد له من لفظه مثل خيل وفلك ورهط وشبهها.
وهؤلاء المنافقون: {يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} يخادعونهم بإظهار ضد ما يضرون فيمكرون بحضرة الرسول وأصحابه: {وَما يَخْدَعُونَ} بأقوالهم تلك أحدا: {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} لأن اللّه تعالى يفضح خداعهم ومكرهم وحيلهم بإخبار رسوله به، إذ يطلعه على ما في قلوبهم: {وَما يَشْعُرُونَ} أن اللّه تعالى يوحي لرسوله حقيقة حالهم وما يسرون من أقوالهم ويعلنون منها، ولا يعلمون أن وبال عملهم هذا راجع عليهم بالفضيحة بالدنيا والعذاب بالآخرة، والذين هذه صفتهم يكون: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَض} شك وشبهة.
وأصل المرض الضعف والخروج عن حد الاعتدال الخاص بالناس، ولهذا فإن أكثر أهالي دمشق يعبرون عن المريض بالضعيف، وسمي الشك في الدين والنفاق مرضا لأنه يضعف الدين، كما أن المرض يضعف البدن، وكذلك الفكر لما قيل فكر ساعة يهضم عافية سنة، فهذا الذي يحصل لهم يضعف دينهم وأبدانهم، أجارنا اللّه تعالى من ذلك: {فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أشغل قلوبهم به لأنهم كلما كفروا بآية ازداد كفرهم وكثر بلاؤهم وضاق صدرهم: {وَلَهُمْ عَذاب أَلِيم} زيادة على مرضهم الذي يحرك في صدورهم ويحز قلوبهم من شدة الحسد للمؤمنين فتشتعل أفئدتهم غيظا: {بِما كانُوا يَكْذِبُونَ} في أقوالهم الصدرية المذكورة، ثم بين نوعا آخر من أفعالهم القبيحة فقال جل قوله: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بتهيج الفتن وإثارة كوامن القلوب من الأحقاد القديمة بين الناس مما يؤدي لقتالهم بعضهم مع بعض، وذلك أنهم يذكرون ما وقع بين أجدادهم من الأحداث ليغتاظ أحقادهم، فيتكلمون بما معناه الانتقام، فتثير ثائرة المظلومين على الظالمين بما يؤدي لوقوع القتال بينهم بسبب إثارة الضغائن القديمة.
والإفساد خروج الشيء عن استقامته والانتفاع به، وضده الإصلاح: {قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ} بعملنا لأنا نداري به المؤمنين والكافرين معا، فكذبهم اللّه بقوله عز قوله: {أَلا} تنبيه ليتيقظ المخاطب: {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} لأنهم يجالسون الكفرة ويفشون لهم أسرار المؤمنين ويغرونهم عليهم.
والمدارة ليس كما زعموا لأنها جائزة إذا كانت لمنفعة مشروعة كالإصلاح بين الناس، على أن لا تضر بالدين، أما إذا كانت غير جالبة لمنفعة ولا دافعة لمضرة فتكون من قبيل بيع الدين بالدنيا، وذلك حرام، لأنها تكون مداهنة، وإن عملهم ذلك ليس من هذين القسمين وإنما هو بقصد إثارة الفتن ونقض الجروح القديمة وتهيبج الخواطر بين الناس مما قد يؤدي إلى القتل، لذلك حقق اللّه فيهم الإفساد بدليل قوله إلا المركبة من همزة الاستفهام ولا النافية، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق.
ثم أكده بأن المفيدة للتأكيد أيضا، فظهر: {إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} حقا بفعلهم ذلك: {وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ} 12 بأن فعلهم هذا يوجب تعذيبهم عند اللّه لما يترتب عليه من المفاسد بين المؤمنين وانهم قد يستخفون بذلك كاستخفاف الذين أشاعوا الفاحشة وصاروا يتشدقون بها حتى أنزل اللّه فيهم: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيم} [الآية: 15] من سورة النور الآتية، وما قاله بعض المفسرين من أنهم لا يشعرون أن عملهم ذلك إفساد، لا يناسب المقام، ويدفعه كلمة الاستدراك التي جيء بها هنا، بخلاف الآية الأولى في المخادعة، إذ لم يدخل عليها الاستدارك، لاحتمال أنهم يظنون أن مخادعتهم وإبطانهم الكفر وإظهار الإيمان تخفى على رسول اللّه وعلى المؤمنين، ولا يعلمون أن اللّه تعالى يخبر رسوله بها، وهو يخبر أصحابه، فبين الآيتين فرق عظيم في اللفظ، وبون شاسع في المعنى، ولأن الذي يتكلم بالفساد ولا يعلم أنه فساد لا يؤاخذ مؤاخذة العالم بذلك، قال:
وللزنبور والبازي جمعا ** لدى الطيران أجنحة وخفق

ولكن بين ما يصطاد باز ** وما يصطاده لزنبور فرق

وهذا إما ناشئ عن جهل مركب اعتقدوا بسببه الإفساد إصلاحا لما تكاثف على قلوبهم من رين المعاصي فوقعوا في محنة الجهل، كما جاء في قوله:
يقضى على المرء في أيام محنته ** حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

وأما ما جاء على حسب عادتهم في الكذب والبهت الذي سبب لهم بيع الآخرة بالدنيا فيقال لأمثالهم:
أيا بايعا هذا ببخس معجّل غبنت ** ولا تدري إذا كنت تعلم

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ** وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

قال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ} من المهاجرين والأنصار الذين بينكم، إيمانا صادقا مخلصا صرا وعلانية: {قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ} الجهلة خفيفو العقول قليلو الرويّة، وهذا مما يقولونه فيما بينهم عقد ما يتذاكرون فيما يأمرهم به حضرة الرسول، أما بين المؤمنين فإنهم يسمون أنفسهم بالإيمان، ولهذا أخبر اللّه عنهم بقوله جل قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ} لا المؤمنون: {وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ} 13 ما أعده اللّه تعالى لهم من العذاب على وصمهم المؤمنين بالجهل والخفة، مع أن السفاهة متحققة فيهم كالإفساد، ويقال هنا ما قلناه هناك من التعليل، وسماهم اللّه سفهاء وهم عند أنفسهم وقومهم عقلاء ورؤساء لإبطال زعمهم واعتقادهم بأن ما هم عليه حق وغيره باطل، وقلب الكلام عليه لركوبهم طريق الباطل، ومن ركب متن الباطل كان سفيها، سخيف العقل، خفيف الحلم، وقد فضحهم اللّه تعالى إذا وصمهم بعدهم الإيمان والإفساد، وعليهم بعدم العلم وثبوت السفاهة ليتركوا الكذب وليعترفوا أن اللّه تعالى مطلع على خوافيهم، وأنه أطلع رسوله عليها، ورسوله أخبر أصحابه حتى فشا ما يكتمونه لدى العامة.
ولما لم ينجع بهم شهر بهم رابعا بقوله عز قوله: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا} باللّه ورسوله وكتابه مثلكم وصرنا سواسية بالإيمان والتصديق: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ} كهنتهم وقادتهم ككعب بن الأشرف المدني وأبو بردة الأسلمي وعبد الدار الجهني وعوف ابن عامر الأسدي وعبد اللّه بن السواد الشامي: {قالُوا} لهم لا تصدقوا ما بلغكم عنا من الإسلام: {إِنَّا مَعَكُمْ} ولا زلنا على دينكم: {إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ} 14 بمحمد وأصحابه، لأنا نظهر لهم الإيمان سخرية بهم لنقف على سرائرهم ونخبركم بما يحدثونا عن دينهم ونبيّهم: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} فيجازيهم على فعلهم هذا، وما يصدر منهم من الخداع والاستهزاء، وقد سمى اللّه الجزاء استهزاء بالمقابلة، قال ابن عباس يفتح لهم باب الجنة فإذا انتهوا إليه وهموا أن يدخلوه عمدت الخزنة فسدته عنهم وردوا إلى النار، وذلك ليسخروا بهم في الآخرة جزاء سخريتهم بالمؤمنين في الدنيا، وهذا مثل ما جاء عن ضحك الكفار من المؤمنين في الدنيا ومقابلتهم في الآخرة المار ذكره في الآية 29 من سورة المطففين: {وَيَمُدُّهُمْ} يزيدهم لأن المدّ أصله الزيادة في الشرّ غالبا والإمداد مثله إلا أنه يأتي غالبا في الخير أي يمهلهم ويتركهم: {فِي طُغْيانِهِمْ} ليزدادوا إثما وبغيا، والطغيان مجاوزة الحد: {يَعْمَهُونَ} يترددون في الحيرة والضلال، والعمه عمى القلب، وهو أسد من عمى العين لأن فاقد البصر ينتفع ببصيرته، وعادم البصيرة لا يفيده بصره: {أُولئِكَ} الموصوفون بالمثالب الأربع المذكورة هم: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى} واستبدلوا الكفر بالإيمان والحيرة بالرشد والغش بالنصح: {فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ} بل خسرت وخابت صفقتهم خسرانا وخيبة عظيمتين، فضلوا: {وَما كانُوا مُهْتَدِينَ} 16 في أقوالهم وأفعالهم، لأنهم أضاعوا رأس ما لهم وهو الإيمان، ومن أضاع رأس ماله فهو للربح أضيع.
ولا يقال إنهم لم يكونوا على هدى لأنهم كانوا متمكنين منه، كأنه في أيديهم، لكنهم رغبوا عنه وتركوه باختيارهم، ومالوا إلى الضلال رغبة فيه، وفعلوه طوعا، ومالوا إليه، فكأنهم عطلوه قصدا واستبدلوا به ضدّه، ولهذا وصفهم اللّه تعالى بقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا} لينتفع بها: {فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} جمع الضمير مع أن ما قبله مفرد على حد قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا} [الآية: 69] من سورة التوبة الآتية، إذ يجوز وضع الذي موضع الذين: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ} متكاثفة ظلمة الليل وظلمة المطر وظلمة السحاب، لأن من كان في نور وتركه أو أو كان في محل مضيء وخرج منه إلى مظلم اشتدت الظلمة في عينيه أكثر مما لو لم يكن قبل في النور، ولهذا قال تعالى: {لا يُبْصِرُونَ} [17].
شيئا لما يجلهونه من الظلمة بعد ذلك النور، فيصيرون لا يرون.