فصل: مطلب: في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: في المخترعات الحديثة والتحليل والتحريم وبحث في الخلق وقصة الجنّ ومغزى اعتراضهم:

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} من حيواناتها ونباتها ومائها ومعدنها.
تشير هذه الآية إلى أنه ينبغي للإنسان أن لا يقف عند شيء دون شيء مما في هذه الأرض لأن من تتبع ما فيها قد يعثر على ما لا يحلم به البشر، مصداقا لقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [الآية: 9] من سورة النحل، وإن معظم الأشياء المبتكرة قامت وظهرت من حين العدم إلى الوجود بالعثور، لأن هذه السيارات والطيارات والراد والاسلكي وغيرها لم يتصورها عقل البشر رأسا، وإنما كانت بسبب صنع أشياء دونها، وعند ما يرى شأنه توفق لعملها طمحت نفسه إلى فعل ما هو أحسن، فيعثر عليه زريجا، فيظهر له ما هو أحسن، ثم يشتغل بتحسينه فيطلع على ما هو أحسن، وهكذا تدرجوا في الصنائع حتى نوصوا إلى صناعات بديعة وأعمال عجيبة، فاخترعوا البنادق سنة 1646م والمدافع سنة 1886، واكتشف الفحم الحجري في انكلترا سنة 1924م، وزيت الكاز للتنوير سنة 1826، والمكرسكوب في جرمانيا سنة 1621، وأول من صنع الأوراق المالية في أمريكا سنة 1740 م واكتشفوا ملعبا بناه الرومان سنة 69 قبل الميلاد، وسيكتشفون ويخترعون ما هو بالحسبان، ولا يخطر على العقل.
هذا وفي هذه الآية إعلام بأن الأصل في الأشياء الحل، وعليه فإن جميع ما في هذه الأرض هو حلال للبشر، لأن اللّه تعالى قال: {خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} إلخ، وإذا كان ما خلق فيها هو للبشر فلا يحرم عليهم منها شيء إلا ما ورد النص بتحريمه، فيكون تناوله حراما، وإلا فحلال كله، وعليه فإن التبغ والتنباك وما شابهها مما لم يرد نص بتحريمه حلال، وما جاء من أقوال العلماء بتحريمه فمجرد اجتهاد بداعي أنه مضر، وإلا فلا مستند لهم بذلك، ومن المعلوم أن لا اجتهاد في مورد النص، أما إذا تحقق ضررهما لبعض الأشخاص فهو من هذه الحيثية قد يكون تناولهما حراما، وأحسن ما قيل فيهما إنه تعتريهما الأحكام الخمسة، على أن تقيد الحرمة بالمضرة المحققة فقط، لأن كل ما يضر هذه البنية التي أمرنا اللّه بمحافظتها للقيام بأمور دينه والذب عنه حرام تناوله مهما كان، حتى الخبز والماء والظل على شرط تحقق المضرة بإخبار طبيب أمين حاذق موقن، وهذا هو الحكم الشرعي في ذلك، لأن العلماء ليس لهم أن يحرّموا أو يحللوا شيئا إلّا بدليل قطعي، لأن التحليل والتحريم من خصائص الشارع والشارع عندنا هو اللّه تعالى ورسوله فقط، لا دخل للعلماء والربانيون بذلك.
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ} بعد خلق الأرض وقبل دحرها وقد ذكرنا ما يتعلق في بحث الاستواء في الاية 5 من سورة طه وفي الآية 45 من سورة الأعراف والآية 4 من سورة يونس.
{فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ} ثم دحا الأرض كما بيناه في الآية 30 من سورة النازعات، وضمير سواهن يعود على السماء باعتبار الجنسية أو أنها جمع سماة، والأحسن أن يكون مبهما يفسره قوله تعالى: {سبع سموات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [29] بخلقه، ولما ذا خلقه، ولمن خلقه، ومن المعلوم أن العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، فلا يقال إن هذه الآية تقضي بخلق الأرض ودحوها قبل السماء، تدبر.
ثم طفق جل شأنه يقص على رسوله ما هو غيب عليه فقال عز قوله: {وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِل فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} بدلا منكم ورافعكم إليّ وذلك لما ظهر الفساد والإفساد بقتل بعضهم في الأرض من الجن بعضهم على بعض حينما كانوا يسكنونها وعاشوا فيها فسادا بقتل بعضهم بعضا، بعث اللّه فريقا من الملائكة وعلى رأسهم إبليس الذي لجأ إلى اللّه بذلك متبرئا من بغيهم وطغيان بعضهم على بعض، وقد تظاهر بالصلاح والإصلاح فطرد الجنّ إلى الجزائر والبحار والجبال والشعاب وأهلكوا ثمّ حلّ محلهم ذرية إبليس لأنه أبو الجن الثاني، كما أن نوح عليه السّلام أبو البشر الثاني، وهم موجودون الآن في كل مكان، ولكن لم ترهم العيون، ولذلك سموا جنا، ومنه الجنين لعدم رؤيته أيضا، ولو لا لطف اللّه على بني آدم بإخفائهم عنا لرأيت العجب العجاب من أفعالهم ولنغّصوا علينا عيشنا في هذه الدنيا.
وقد مرّ في الآية 27 من الأعراف أنهم يروننا ولا نراهم، وبمقابلة هذا أنا نراهم في الآخرة ولا يروننا، وإن إنكار وجودهم كفر لمخالفة نص الآيات والأحاديث الصريحة وإن من ينكر وجودهم فبسبب الصدأ المتراكم على قلبه، أجارنا اللّه من أمثالهم.
ثم أن اللّه تعالى أعطى إبليس ملك الأرض وسماء الدنيا وخزانة الجنة، وهو جلّ شأنه يعلم مصيره ولكن ليظهر للناس أن النفس الخبيثة لا يؤثر فيها شيء ولا يصلحها شيء البتة، فأعجب بنفسه وغبطته الملائكة، وأول شر ظهر منه الإعجاب بنفسه لأنه؟؟ من المهلكات، قال صلّى اللّه عليه وسلم: ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه.
{قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ} كالجن الذين أسكنتهم فيها قبل وفعلوا ما فعلوا، وكان الحكمة من مخاطبتهم بذلك وهو غني عن المشورة ليسألوا هذا السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا الحكمة من استخلافهم قبل كونهم، وقالوا كيف تفعل ذلك وتفصينا: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فيها ولا نعصيك طرفة عين ولا نفسد فيها أبدا كالجن الذين أسكنتهم فيها: {قالَ} تعالى مجيبا لهم عن ظنهم بالخليفة الذي أريد وضعه في الأرض بدلا من الجن الذين أفسدوا فيها وشهدت الملائكة عليهم بالإفساد، كلا لا تظنوا يا ملائكتي هذا الظن: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} [30] من المصلحة والحكمة.
ولا يقال من أين علموا أن من يستخلفهم اللّه في أرضه يفسدون فيها إذ لا يعلم الغيب إلا اللّه، لأنهم لما رأوا إفساد الجن وقتل بعضهم بعضا في الأرض وإن اللّه تعالى يريد استخلافهم بهذا الخليفة ظنوا أنهم يقتفون أثرهم، لأن اللّه تعالى ألهمهم ذلك كما هو ثابت في علمه الأزلي، الاستفهام على طريق التعجب لا الاعتراض، فلا دليل فيه على عدم عصمة الملائكة، لأن الاعتراض على اللّه من أعظم الذنوب، والمراد بالخليفة هنا هو آدم عليه السّلام، قالوا لما أراد اللّه تعالى خلق آدم أوحى إلى الأرض إني خالق منك خليفة، منهم من يطيعني فأدخله الجنة، ومنهم من يعصيني فأدخله النار وبعث جبريل عليه السّلام ليقبض قبضة من أنواعها ويأتيه بها ليكون الخلق منها كلها، فلما أراد أن يأخذ منها قالت أعوذ بعزّة اللّه منك، فترك ورجع، وقال يا رب استعاذت بك فكرهت أن أقدم عليها، فأرسل ميكائيل فكان ما كان من جبريل، فأرسل عزرائيل فاستعاذت منه فقال لها إني أعوذ بعزّته أن أعصي له أمرا، فقبض من عذبها ومالحها وحلوها ومرها وطيبها وخبيثها وأبيضها وأحمرها وأسودها وما بين ذلك، وصعد بما قبضه، فسأله ربه وهو أعلم بما فعل فأخبره بما قالت وقال لها.
وإنما استعاذت الأرض لأن اللّه تعالى قال لها منهم من يعصيني فأدخله النار خشية ورهبة، ولمّا أجابه عزرائيل بما أجابه قال وعزّتي وجلالي لأخلقن خلقا أسلطنّك على قبض أرواحهم لقلة رحمتك، فجعل نصفها في الجنة ونصفها في النار ما شاء، ثم أخرجها فسواها طينا مدة، ثم حمأة مدة، ثم صلصالا مدة، ثم جدا، وألقاه على باب الجنة، فصارت الملائكة تعجب من صورته، وقال إبليس لأمر ما خلق هذا، ونظر إليه فإذا هو أجوف، فقال هذا خلق لا يتمالك، أي أنه يخدع، وقال للملائكة إن فضّل هذا عليكم ماذا تصنعون؟ قالوا نطع ربنا فيه، فقال في نفسه لئن فضل علي لأعصيته، ولئن فضلت عليه لأهلكنه، فلما أراد اللّه تعالى نفخ الروح فيه قالت الروح يا رب كيف أدخل؟ فقال كرها تدخلين وستخرجين منه كرها، فدخلت يافوخه حتى وصلت إلى عينيه فنظر إلى سائر جسده طينا فلما وصلت منخريه عطس، فعند ما وصلت لسانه قال الحمد للّه رب العالمين، فقال اللّه رحمك اللّه ربك لهذا خلقتك، وقد صارت سنة في الخلق على كل من يعطس، وعلى كل من يسمعه التشميت بأن يقول له يرحمك اللّه ويرد عليه يرحمنا ويرحمكم اللَّه، فلما بلغت ركبتيه همّ ليقوم فلم يقدر، قال تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ} [الآية: 27] من سورة الأنبياء، وهذا مما يدل على قدم كلام اللّه تعالى المنزل على حضرة الرسول قبل خلق آدم وغيره، فلما انتهت إلى قدميه استوى بشرا سويا من لحم ودم وعظام وعروق وأعصاب وأحشاء وأمعاء، وكسي لباسا من الجنة من ظفر، فزاد جسده حسنا وجمالا، وجعل في جسده تسعة أبواب وعدها السيوطي أحد عشر بعد الثديين في صدره اثنين، وفي أسفله اثنين القبل والدبر ليخرج منهما فضلات طعامه وشرابه، وسبعة في رأسه الأذنين يسمع بهما، والعينين ينظر بهما، والمنخرين يشم بهما والفم فيه اللسان يتكلم فيه، والأسنان ليطحن بها طعامه فيجد لذة المطعومات والأنف ليتنفس منه، وجعل عقله في دماغه، وفكره وجرأته في قلبه، وشرهه في كليته، وغضبه في كبده، ورغبته في رئته، وضحكه في طحاله، وفرحه وحزنه في وجهه، فسبحان من جعله يسمع بعظم، ويبصر بشحم وينطق بلحم، ويعرف بدم، وركب فيه الشهوة وحجزه بالحياء.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: خلق اللّه تعالى آدم وطوله ستون ذراعا، ثم قال اذهب فسلم على أولئك نفر من الملائكة، فاستمع ما يحبونك به، فإنها تحينك وتحية ذريتك، فقال السلام عليكم، فقالوا عليك السلام ورحمة اللّه، فزادوا ورحمة اللّه، فكل من يدخل الجنة على صورة آدم، فلم يزل الخلق ينقص حتى الآن.
وروى مسلم عن أنس قال: قال النبي صلّى اللّه عليه وسلم لمّا صوّر اللّه آدم تركه ما شاء اللّه أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك.
وأخرج الترمذي.
وأبو داود عن أبي موسى الأشعري قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول إن اللّه تبارك وتعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك، والسهل والحزن والخبيث والطيب.
قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، وسبب تعليمه أسماء جميع المسميات بإلهام من اللّه تعالى إياه أن الملائكة قالت ليخلق ربنا ما شاء فلن يكون أحد أكرم عليه منا، وإن كان فنحن أعلم منه، لأنا خلقنا قبله ورأينا ما لم يره، ومن هنا قيل أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة فأظهر اللّه تعالى فضله عليهم بالامتحان: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ} عرض أسماء تلك المسميات على الملائكة من كل نام وحساس وجماد وماء، وجاء الضمير بلفظ العقلاء تغليبا لأن القاعدة عند إرادة جمع من يعقل ومن لا يعقل بلفظ واحد يعبر بضمير من يعقل تغليبا له على ما لا يعقل: {فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ} الأشخاص قالوا خلق اللّه تعالى كل شيء من الحيوان والطير والحوت والجمادات والمياه وغيرها، وعلمها آدم، فقال هذا بعير، وهذه فرس، وهذا طير، وهذه سمكة، وهذا حجر، وهذا مدر، حتى أتى على آخرها، أي سموا لي هذه الأشياء كلّا باسمه: {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [31] بقولكم أني لم أخلق أفضل منكم وأعلم: {قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا} بشيء من هذه الأشياء ولا نعلم: {إِلَّا ما عَلَّمْتَنا} إياه التسبيح والتقديس لأن علمنا مقصور على ما علمتنا فقط: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ} بخلفك وأسمائه وأوصافه المميزة له عن غيره: {الْحَكِيمُ} [32] فيما تخلق وتقضي وتأمر وتنهى: {قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} سم كل شيء من هذه المخلوقات باسمه، فذكر أسماءها كلها حتى القصعة: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} أمام الملائكة دون تلكؤ أو تلعثم بهتت مما قرأت؟؟ وسمت قالَ عز قوله مخبرا ملائكته عن الحكمة التي خلق آدم لها: {ألَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} عما كان فيهما قبل خلقكم وزمنه وما سيكون بعد: {وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ} من قولكم الذي ذكرتموه فيما بينكم بشأن خلق آدم: {وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [33] من قولكم لن يخلق اللّه أفضل منا ولا أعلم.

.مطلب: تفضيل الرسل على الملائكة وامتناع إبليس عن السجود وكونه ليس من الملائكة:

وفي هذه الآية والتي قبلها دليل أهل السنة والجماعة بأن الأنبياء أفضل من الملائكة خلافا للزمخشري وأشباهه، القائلين بتفضيل جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام، وقد خرق الإجماع بقوله هذا، وقد قيل بعد أن حجّ:؟؟
وأفضل الخلق على الإطلاق ** نبينا فمل عن الشقاق

وقدمنا ما يتعلق في هذا البحث بالآية الأولى من الإسراء: {وَ} اذكر يا سيد الرسل هذه القصة لقومك، وقصة أخرى وهي: {إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} وهذا الأمر لعموم الملائكة الذين هم في السماء والأرض، كما يدل عليه قوله في الآية 20 من سورة الحجر: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} وما في هذه الآية من قوله عز قوله: {فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} لم يسجد لأنه من الجن، وليس من الملائكة بدليل قوله تعالى: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الآية: 52] من سورة الكهف، ومعنى إبليس مأخوذ من إبليس أي يئس من رحمة اللّه، قال تعالى: {فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الآية: 79] من سورة المؤمنين أي آيسون، وإن اسمه الحقيقي بالعربية الحارث، وبالسريانية عزازيل، وهذا الاستثناء كان بسبب وجوده مع الملائكة وشموله الأمر بالسجود معهم، لا لكونه منهم، ومن قال إن الاستثناء بعد إدخاله بالخطاب للملائكة دليل على أنه منهم لم ينظر إلى آية الكهف المشار إليها أعلاه، لأن دلالتها على أنه من الجن وليس من الملائكة صريحة لا تقبل التأويل، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وما كان منه في تفسير بعضه بعضا مقدم على ما ليس منه في تفسيره، ثم ما كان من بيان حضرة الرسول، ثم ما كان من إيضاح الأصحاب، ثم التابعين والعلماء، وهكذا، ومتى وجد قول للأقدم لم يطعن فيه لا يؤخذ بالذي دونه، قال تعالى في ذم ذلك الملعون بأنه: {أَبى} عن السجود ولم يمتثل أمر ربه الذي أنعم عليه بإلحاقه بالملائكة بعد طرد قومه وإهلاكهم: {وَاسْتَكْبَرَ} على آدم وعد نفسه خيرا منه باحتجاج واه: {وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ} [34] بسبب فعلته هذه تجاه الملائكة كما هو في علم اللّه كافر، ولكن الملائكة وآدم لا يعلمون كفره المنطوي عليه قبلا، فأظهره اللّه لهم بامتناعه هذا، فعلموا أن شقاءه سابق في علم اللّه، وأن النفس الخبيثة لا يبدلها المعروف.
وهذه قصة ثالثة ذكرها اللّه بقوله جل قوله: {وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} لم يقل جل قوله اسكنتك الجنة لأنه يدل على الاستقرار وهو إنما خلق لعمارة الأرض لا ليبقى في الجنة، قالوا لما خلق اللّه تعالى آدم على الصورة والكيفية المارتين لم يكن معه من جنسه من يستأنس به، فألقى اللّه عليه النوم وأمر بأخذ أقصر ضلع من أضلاع جنبه الأيسر فخلق منه زوجته حواء بقوله جل قوله كن امرأة من جنس آدم فكان، وخلق مكانه لحما من غير أن يحسّ بذلك ولو أحس ووجد ألما ما حن رجل على امرأة قط، وسميت حواء لأنها خلقت من حيّ فاستيقظ فرآها جنبه كأحسن ما خلق اللّه، قال من أنت؟ فألهمها اللّه بأن قالت زوجتك خلقت لتسكن إليّ وأسكن إليك وأوانسك، ولهذا قيل:
وما سمي الإنسان إلا لأنه ** ولا القلب إلا أنه يتقلب

وفي رواية إلا لنسيه، كما مرّ في الآية الثامنة، ولهذا قالوا إن للتسمية نسبة بالمسمى غالبا، وقلّ أن تجد اسما لا نصيب له من مسماه، ومن هذا قوله:
قد سمي القلب قلبا من تقلبه ** فاحذر على القلب من قلب وتحويل

وقيل سمي قلبا لأنه لبّ كما سمي العقل لبا، وقيل لتقلبه، كما مرّ آنفا.
وما قيل إن الجنة التي أدخلها آدم هي بستان كان في اليمن استدلالا بأن الجنة المعروفة من يدخلها لا يخرج منها، فقيل ضعيف لا يؤبه به، والصحيح إنها الجنة المعهودة، لأن- أل- فيها للعهد ولا جنة معهودة غيرها ولا يراد عند الإطلاق غيرها وهي التي أعدها اللّه للمتقين، وما استدلوا به يقال في الداخل فيها جزاء عمله الحسن بعد أن مات وبعث وأحيي كالسيد إدريس عليه السلام، لأنه ذاق طعم الموت، وقد ثبت أن سيدنا محمد دخلها ليلة المعراج أما البستان التي في اليمن فلم تكن إذ ذاك، وقيل إنه هو إرم ذات العماد المذكور بحثها في الآية 5 من سورة الفجر.
{وَكُلا مِنْها رَغَدًا} صفة للمصدر المؤكد، أي أكلا واسعا رافها مريئا حسبما تريدان وترغبان، كما يفيده قوله: {حَيْثُ شِئْتُما} من أي مكان أردتما وأي زمان، وهذا يفيد الإطلاق لكل ما فيها، ثم خصص بقوله عز قوله: {وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ} عينها اللّه لهما بالإشارة إليها، ولم يسمها، لذلك اختلفت فيها أقوال المفسرين، فمنهم من قال إنها السنبلة، ومنهم من قال إنها التين أو الكرم، ولا طائل تحت معرفتها إذ القصد عدم قربانها امتثالا لأمر اللّه تعالى، ولهذا قال: {فَتَكُونا} إذا تناولتما منها شيئا: {مِنَ الظَّالِمِينَ} [35] أنفسكما لفعلكما ما لا ينبغي فعله: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها} عن الجنّة بسبب غروره لهما وإغرائهما بالأكل منها: {فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ} من النعيم.