فصل: فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة:

قال الشيخ محمد الغزالي:
سورة النساء:
الثلث الأولى من سورة النساء حديث عن الأسرة وقضاياها، والأسرة هي المجتمع الصغير، والثلثان الباقيان حديث عن الأمة وشئونها، والأمة هي المجتمع الكبير، فمحور السورة كلها العلاقات الاجتماعية وضرورة إحكامها وتسديدها. وبدأ التنبيه إلى ذلك من مطلع السورة {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء..}. إن الناس- وإن بدا بعضهم غريبا عن بعض- هم أقارب في الحقيقة، إن أبا واحدا ينميهم، ورحما مشتركة تحملهم.. وعلى كل إنسان أن يذكر هذه القرابة فيصل الرحم الماسة، ويصل الرحم البعيد، وصلة الأرحام من شعائر الإسلام، وإن كان المأنوس بين الناس أن الرحم لا تعنى إلا الأقربين من دين وإخوة! ويجب أن تكون دائرة الإنسانية أوسع، وأن يتم التعاون بين أجناسها وألوانها... والآية الأولى تعتمد في هذا النصح على التخويف من الله الخالق القادر، وعل رقابته الشاملة المستوعبة، غير أننا لاحظنا في هذه السورة عديدا من آيات التأميل في الله ونشدان رحمته مثل: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم..}، {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما}، {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}، {يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا..}. إن الله لا يريد إثقال كواهل العباد بعبادات تشق عليهم، وما يؤدونه من قربات هو تعب المتعلم في تحصيل المعرفة، والمتربى في إحراز الكمال، وهو تعب محتمل مثمر... وبين الخوف من الرقيب القادر، والأمل في الرحمن الغفور يحيا المؤمنون، ويستعدون للقاء الحتم، طال الأجل أو قصر..! والقسم الذي يتحدث عن تعاليم الأسرة من هذه السورة، بدأ بالكلام عن حقوق اليتامى لأن المسلمين أمة جهاد ضد عدو لا تنتهى غاراته، فلا عجب إذا كثر القتلى وكثر الأيتام. وفى عصرنا هذا نرى الأيتام غرضا لعصابات التبشير ولصوص العقائد، ومن هنا وجب أن يهتم المسلمون بيتاماهم، ويصونوا حقوقهم.. وفى أثناء الكلام عن اليتامى عرض حديث الزواج!! فأبيح مفردا ومتعددا... والإسلام في هذا لا يشذ عن سنن الأديان التي سبقت، فلا يوجد دين حرم التعدد بأمر من الله.. وعندما أنظر إلى واقع الناس في عصرنا، أرى الأوروبيين والأمريكيين أسوأ الناس صلة بالنساء، فالتعدد الحرام شائع بينهم، ويستطيع أي وغد أن يتصل بعشرات النساء.. والمباح عندنا له دائرته المرسومة، فإن الإسلام أمر الأعزب بالصيام إذا كان لا يقدر على تكاليف الزواج، فكيف يبيح لمتزوج بواحدة أن يطلب أخرى لا يستطيع إعاشتها، وإن استطاع لم يستطع العدل معها؟. على أن الزواج عندنا لا يتم بالإكراه، وتستطيع أي كارهة للتعدد أن ترفضه! ذلك، ومن خشيت من زوجها التعدد تستطيع في صلب العقد أن تشترط ألا تكون لها ضرة، وعلى الزوج كما قال أحمد أن يلتزم، ويوفى بالشرط وإلا طلقت! وذكرت السورة بعدئذ أحكام المواريث، فجعلت للمرأة نصيبا في كل تركة، وكانت من قبل محرومة، وندبت إلى إعطاء المساكين والضعاف حظا منها، وأباحت للرجل أن يوصى بما شاء من ماله- في حدود الثلث- كما بينت السنة!! ومعروف أن الإسلام جعل- في كثير من الصور- نصيب الرجل ضعف نصيب المرأة، وذلك لأن الرجل في الإسلام مكلف بأعباء أكثر، فهو دافع المهر، وهو ملزم بالنفقة على بيته. ولا تكلف المرأة بالتكسب ما دام لها قريب غنى، وإلا فبيت المال مسئول عنها..
وذلك حتى لا تتعرض النساء لضياع الأعراض والابتذال كما يقع في الغرب.. الذي يتشدق بأنه نصير المرأة..! ولست بهذا الكلام أدافع عن نفر من المسلمين فارغى القلوب والعقول، يحتقرون الأنوثة، ويهينون الزوجة والأخت والبنت ويتقربون بحبسها وتجهيلها والاستطالة عليها... وفى السنة عن عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله» وعن ابن عباس قال رسول الله.. «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلى». والمؤسف أن عددا من المتدينين يبنى تقواه على الإغلاظ للمرأة وإساءة عشرتها وانتقاص مكانتها، حتى كره النساء في العالم كله الإسلام، وخافوا من سيطرته على المجتمع مع هذا الفهم الفاسد.. كانت المرأة قديما مهدرة الشخصية مستباحة الحقوق، وكانت إذا مات زوجها جاء أقرب الناس إليه، فوضع يده عليها، كأنها بعض المتاع الذي يورث.. وتصرف الجاهليين شبيه بما يفعل اليهود، إذا مات الزوج ولم ينجب، وجب على أخيه أن يتزوج أرملته وأن ينجب منها ولذا ينسبه إلى الأخ الميت!! ولا أدرى كيف يقع هذا؟ زواج بالإكراه! ونسب مفتعل. وما أحسب ذلك تشريعا سماويا، إنه من أكاذيب اليهود، وقد قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها...} ثم قال: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة}. والمقصود بالعضل إساءة العشرة حتى يتحول البيت إلى سجن تحاول المرأة الخروج منه ولو برد المهر الذي أخذته من قبل!! وقد أمر الرجال بالمسلك الأشرف فقال سبحانه: {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا}. ورفض الإسلام إذا أراد الرجل الفراق أن يساوم امرأته لتنزل عن المهر الذي أخذته مهما كان الذي ساقه كبيرا. لقد صار مهرها ملكا خاصا بها ولو كان قنطارا. ومن كره زوجته ورأى التزوج بأخرى فليغرم من جيبه ما يشاء، ولا يحاول أن يسترد شيئا من زوجته الأولى {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا * وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا}. ونلحظ أنه- قبل الحديث عن حسن العشرة- ذكرت جريمتان من الجرائم الاجتماعية السيئة:
الأولى السحاق، والأخرى اللواط، ومحاربة الجريمتين حماية حقيقية للأسرة، وحراسة لجوها الطاهر، فمن الخطأ حسبان الكلام مقحما على السياق. في الأولى يقول الله سبحانه: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا}. وفى اللواطيين يقول تعالى: {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما...} ومن نسيان الغرب لله ولقائه، وللدين ووصاياه، أنه استهان بهذه الجرائم، كما استهان بأشد منها فكان ما نسمع به من فشو الإيدز والأمراض التناسلية الأخرى. والواقع أن حضارة الغرب منخورة الكيان، وما تبقى إلا لغياب الوارث الذي يحل محلها، أعنى غياب المسلمين الذين نسوا دينهم..!! ولكى تنجح الأسرة في أداء رسالتها يجب أن تهذب الطباع، وتختفى الأثرة، ويتمرن كل طرف على الإحسان والتعاون مع الطرف الآخر. اتصلت بى إحدى الزوجات تشكو رجلها، وشعرت من لهجتها أنها موجعة حقا، وأنها تؤثر فراقه لولا ظروف قاهرة!! فأوصيتها بالصبر كما صبرت امرأة فرعون على عتوه! وقبلت على مضض.. قلت: عندما تكون لهذا الرجل أخت متزوجة من رجل عادى فعاملته على أنها قيصرة، أو فرعونة- إن صح التعبير- فما العمل؟ الداهية الأكبر أن تكون ذات برود جنسى، إن جو الأسرة سيكون نكدا... أباح الإسلام العقوبة في هذه الحال، وتتدرج من الوعظ إلى المقاطعة إلى الضرب، واشتراط ألا يكون الضرب مبرحا وأن يتجنب الوجه! ولم أر في السنة سببا للعقوبة الأخيرة إلا أن تنشز المرأة وتأبى الإجابة إلى الفراش، أو تأذن في البيت لغريب مريب!! وكلا الأمرين خطير كما ترى.. وقبل هذه التعليمات العائلية تعرضت الآيات لعدم أكل أموال الناس بالباطل، كما تعرضت لضرورة الرضا بالواقع وعدم التطلع إلى الآخرين. ثم اتجه الحديث عاما إلى الناس كلهم يقول: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين....}.
وهذا توجيه يشمل المجتمع كله، وإن عنى الأسرة أولا، ثم اطرد الحديث عن النفقة، فلا بخل ولا تبذير، ولكن الأمر الإلهى كشف فريقين من الناس متناقضين: أولهما البخلاء والآخر المسرفون المراؤون.. وقد يكون الكلام عن فريق واحد يبخل في مجال ويأمر غيره بالبخل، ويسرف في مجال آخر للرياء والسمعة، وكان الأولى أن يتصرف في المال وفق إرادة من رزقه، فيكون مسلكه قصدا {وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله وكان الله بهم عليما}. وبقى الكلام قليلا يعنى الأمة في حاضرها ومستقبلها، ثم تحول إلى مجرى آخر مخالف لما سبقه فشرع يشرح أحوال الطوائف التي يتكون منها المجتمع العربى أيام البعثة، وحقيقة كل فرقة وما يجب بإزائها. والغريب أن هذه الطوائف هي التي تواجهها أمتنا اليوم!! كان المسلمون شداد الحرص على تألف اليهود، والاعتراف بأنهم أصحاب الوحى الأول، وكانوا يرتقبون منهم الانحياز إلى جانبهم، إذا وقع بينهم وبين الوثنية صراع. بيد أن اليهود كانوا عند أسوأ الظن، فما بالوا بعهد ولا بجوار، وقدموا إلى الإسلام كل ما يستطيعون من إساءة..!! وفى التعجيب والاستنكار لما فعلوا يقول الله لنبيه: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل * والله أعلم بأعدائكم..}. والتعبير بأن ما لديهم نصيب من الكتاب إشارة إلى أنهم أضاعوا كثيرا من الوحى الذي نزل إليهم، والواقع أن فقدان كتابهم لتواتر الحفظة سمح بضياع بعضه واضطراب البعض الآخر. والجزء الذي بقى بين أيديهم لم يحسنوا العمل به، وهم إلى اليوم من وراء انتشار الربا والزنا في العالم أجمع. والتدين الفاسد قد يكون أضرى من فراغ القلب، وغفلته، وذاك سر ما ورد من أن النار أسرع إلى فسقة القراء منها إلى عبدة الأوثان..! والشر الكامن في أفئدة اليهود من وراء اشترائهم للضلال واجتذابهم للآثام، ورغبتهم الغريبة في أن يروا المسلمين وقد نسوا القرآن وعادوا إلى عبادة الأوثان. أي إخلاص للحقيقة في هذا المسلك المظلم؟. وقد وعد الله المسلمين أن يؤازرهم في هذه المعركة التي فرضت عليهم وسيكون وليهم وناصرهم! {وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا}. لكن هذه الولاية والنصرة لا ينالهما القاعدون، بل يستحيل أن يظفر بهما من فرط في الدفاع عن نفسه، وتهاون في رسم الخطط وإحكام الحصون..! قال صاحب المنار: إن الله العظيم الحكيم لا يحابى في سننه المطردة في نظام خلقه مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا، لأجل اسمه ولقبه، أو لانتسابه بالاسم إلى أصفيائه من خلقه، بل كانت سننه حاكمة على أولئك الأصفياء أنفسهم، حتى إن خاتم النبيين صلى الله عليم وسلم قد شج رأسه وكثر سنه، وردى في الحفرة يوم أحد لتقصير عسكره فيما يجب من نظام الحرب..! فإلى متى أيها المسلمون هذا الغرور بالانتماء إلى هذا الدين وأنتم لا تقيمون كتابه ولا تهتدون به، ولا تعتبرون بما فيه من النذر؟. ألا ترون كيف عادت الكرة إلى تلك الأمم عليكم، بعد ما تركوا الغرور، واعتصموا بالعلم والعمل، وبما جرى عليه نظام الاجتماع من الأسباب والسنن، حتى ملكت دول الأجانب أكثر بلادكم، وقام اليهود الآن ليجهزوا على الباقى لكم، ويستردوا البلاد المقدسة من أيديكم، ويقيموا فيها ملكهم؟؟. فاهتدوا بكتاب الله الحكيم وبسنته في الأمم، واتركوا وساوس الدجالين الذين يبثون فيكم نزغات الشرك، فيصرفونكم عن قواكم العقلية والاجتماعية، وعن الاهتداء بكلام ربكم إلى الاتكال على الأموات، والاستمساك بحبل الخرافات. ويشغلونكم عن دينكم ودنياكم بما لم ينزله الله تعالى عليكم من الأوراد والصلوات، وما غرضهم بذلك إلا سلب أموالكم، وحفظ جاههم الباطل فيكم..... أفيقوا أفيقوا، تنبهوا تنبهوا، واعلموا أن الله لم يظلم ولا يظلم أحد فتيلا، فما زال ملككم، ولا ذهب عزكم إلا بترك هداية ربكم واتباع هؤلاء الدجالين منكم!. والشيخ صادق، وإن جدت أمراض غير ما ذكر هي أنكى وأقسى!!