فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



أجاب المتكلمون فقالوا: خلق الشيء من الشيء محال في العقول، لأن هذا المخلوق إن كان عين ذلك الشيء الذي كان موجودا قبل ذلك لم يكن هذا مخلوقا ألبتة، وإذا لم يكن مخلوقا امتنع كونه مخلوقا من شيء آخر، وإن قلنا: إن هذا المخلوق مغاير للذي كان موجودًا قبل ذلك، فحينئذ هذا المخلوق وهذا المحدث إنما حدث وحصل عن العدم المحض، فثبت أن كون الشيء مخلوقا من غيره محال في العقول، وأما كلمة {مِنْ} في هذه الآية فهو مفيد ابتداء الغاية، على معنى أن ابتداء حدوث هذه الأشياء من تلك الأشياء لا على وجه الحاجة والافتقار، بل على وجه الوقوع فقط. اهـ.
قال الفخر:
لم يقل: وبث منهما الرجال والنساء لأن ذلك يوجب كونهما مبثوثين عن نفسهما وذلك محال، فلهذا عدل عن هذا اللفظ إلى قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء}.
فإن قيل: لم لم يقل: وبث منهما رجالا كثيرًا ونساء كثيرًا؟ ولم خصص وصف الكثرة بالرجال دون النساء؟
قلنا: السبب فيه والله أعلم أن شهرة الرجال أتم، فكانت كثرتهم أظهر، فلا جرم خصوا بوصف الكثرة، وهذا كالتنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج والبروز، واللائق بحال النساء الاختفاء والخمول. اهـ.

.قال الألوسي:

والتلوين في {رّجَالًا وَنِسَاء} للتكثير، و{كَثِيرًا} نعت لرجالًا مؤكد لما أفاده التنكير، والإفراد باعتبار معنى الجمع، أو العدد، أو لرعاية صيغة فعيل، ونقل أبو البقاء أنه نعت لمصدر محذوف أي بثًا كثيرًا ولهذا أفرد، وجعله صفة حين كما قيل تكلف سمج، وليس المراد بالرجال والنساء البالغين والبالغات، بل الذكور والإناث مطلقًا تجوزًا، ولعل إيثارهما على الذكور والإناث لتأكيد الكثرة والمبالغة فيها بترشيح كل فرد من الأفراد المبثوثة لمبدئية غيره، وقيل: ذكر الكبار منهم لأنه في معرض المكلفين بالتقوى واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها لأن الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر إذ للرجل أن يزيد في عصمته على واحدة بخلاف المرأة قاله الخطيب، واحتج بعضهم بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة وأن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال، وأجيب بأنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور، على أن الآية لا تدل على أكثر من خلقنا وخلق الزوج مما ذكر سبحانه وهو غير واف بالمدعى، وقرئ وخالق، وباث على حذف المبتدأ لأنه صلة لعطفه على الصلة فلا يكون إلا جملة بخلاف نحو زيد ركب وذاهب أي وهو خالق وباث. اهـ.

.قال القرطبي:

{رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} حَصَر ذريتهما في نوعين؛ فاقتضى أن الخُنْثى ليس بنوع، لكن له حقيقة تردّه إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في [البقرة] من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها. اهـ.

.قال الفخر:

الذين يقولون: إن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر، وكانوا مجتمعين في صلب آدم عليه السلام، حملوا قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء} على ظاهره، والذين أنكروا ذلك قالوا: المراد بث منهما أولادهما ومن أولادهما جمعا آخرين، فكان الكل مضافا إليهما على سبيل المجاز. اهـ.

.قال الألوسي:

{واتقوا الله الذي تَسَاءلُونَ بِهِ} تكرير للأمر الأول وتأكيد له، والمخاطب مَن بعث إليهم صلى الله عليه وسلم أيضًا كما مر، وقيل: المخاطب هنا وهناك هم العرب كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأن دأبهم هذا التناشد، وقيل: المخاطب هناك من بعث إليهم مطلقًا وهنا العرب خاصة، وعموم أول الآية لا يمنع خصوص آخرها كالعكس ولا يخفى ما فيه من التفكيك، ووضع الاسم الجليل موضع الضمير للإشارة إلى جميع صفات الكمال ترقيًا بعد صفة الربوبية فكأنه قيل: اتقوه لربوبيته وخلقه إياكم خلقًا بديعًا ولكونه مستحقًا لصفات الكمال كلها.
وفي تعليق الحكم بما في حيز الصلة إشارة إلى بعض آخر من موجبات الامتثال، فإن قول القائل لصاحبه: أسألك بالله، وأنشدك الله تعالى على سبيل الاستعطاف يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره ونواهيه، وتساءلون إما بمعنى يسأل بعضكم بعضًا فالمفاعلة على ظاهرها، وإما بمعنى تسألون كما قرئ به وتفاعل يرد بمعنى فعل إذا تعدد فاعله وأصله على القراءة المشهورة تتساءلون بتاءين فحذفت إحداهما للثقل. اهـ.

.قال الفخر:

قرأ عاصم وحمزة والكسائي: {تَسَاءلُونَ} بالتخفيف والباقون بالتشديد، فمن شدد أراد: تتساءلون فأدغم التاء في السين لاجتماعهما في أنهما من حروف اللسان وأصول الثنايا واجتماعهما في الهمس، ومن خفف حذف تاء تتفاعلون لاجتماع حروف متقاربة، فأعلها بالحذف كما أعلها الأولون بالإدغام، وذلك لأن الحروف المتقاربة إذا اجتمعت خففت تارة بالحذف وأخرى بالإدغام. اهـ.
قال الفخر:
قرأ حمزة وحده {والأرحام} بجر الميم قال القفال رحمه الله: وقد رويت هذه القراءة عن غير القراء السبعة عن مجاهد وغيره، وأما الباقون من القراء فكلهم قرؤا بنصب الميم.
وقال صاحب الكشاف: قرئ {والأرحام} بالحركات الثلاث، أما قراءة حمزة فقد ذهب الأكثرون من النحويين إلى أنها فاسدة، قالوا: لأن هذا يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور وذلك غير جائز.
واحتجوا على عدم جوازه بوجوه:
أولها: قال أبو علي الفارسي: المضمر المجرور بمنزلة الحرف، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه، إنما قلنا المضمر المجرور بمنزلة الحرف لوجوه: الأول: أنه لا ينفصل ألبتة كما أن التنوين لا ينفصل، وذلك أن الهاء والكاف في قوله: به، وبك لا ترى واحدا منفصلا عن الجار ألبتة فصار كالتنوين.
الثاني: أنهم يحذفون الياء من المنادى المضاف في الاختيار كحذفهم التنوين من المفرد، وذلك كقولهم: يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وجب أن لا يجوز العطف.
وثانيها: قال علي بن عيسى: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع.
فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: يا غلام، فكان المضمر المجرور مشابها للتنوين من هذا الوجه، فثبت أن المضمر المجرور بمنزلة حرف التنوين، فوجب أن لا يجوز عطف المظهر عليه لأن من شرط العطف حصول المشابهة بين المعطوف والمعطوف عليه، فإذا لم تحصل المشابهة هاهنا وجب أن لا يجوز العطف.
وثانيها: قال علي بن عيسى: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على المضمر المرفوع.
فلا يجوز أن يقال: اذهب وزيد، وذهبت وزيد بل يقولون: اذهب أنت وزيد، وذهبت أنا وزيد.
قال تعالى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة: 24] مع أن المضمر المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه أقوى من المضمر المجرور بسبب أنه قد ينفصل، فلأن لا يجوز عطف المظهر على المضمر المجرور مع أنه ألبتة لا ينفصل كان أولى.
وثالثها: قال أبو عثمان المازني: المعطوف والمعطوف عليه متشاركان، وإنما يجوز عطف الأول على الثاني لو جاز عطف الثاني على الأول، وههنا هذا المعنى غير حاصل، وذلك لأنك لا تقول: مررت بزيدوك، فكذلك لا تقول مررت بك وزيد.
واعلم أن هذه الوجوه ليست وجوها قوية في دفع الروايات الواردة في اللغات، وذلك لأن حمزة أحد القراء السبعة، والظاهر أنه لم يأت بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك يوجب القطع بصحة هذه اللغة، والقياس يتضاءل عند السماع لاسيما بمثل هذه الأقيسة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، وأيضا فلهذه القراءة وجهان:
أحدهما: أنها على تقدير تكرير الجار، كأنه قيل تساءلون به وبالأرحام.
وثانيها: أنه ورد ذلك في الشعر وأنشد سيبويه في ذلك:
فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا ** فاذهب فما بك والأيام من عجب

وأنشد أيضا:
نعلق في مثل السواري سيوفنا ** وما بينها والكعب غوط نفانف

والعجب من هؤلاء النحاة أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين ولا يستحسنون إثباتها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن.
واحتج الزجاج على فساد هذه القراءة من جهة المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحلفوا بآبائكم» فإذا عطفت الأرحام على المكنى عن اسم الله اقتضى ذلك جواز الحلف بالأرحام، ويمكن الجواب عنه بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله والرحم، وحكاية هذا الفعل عنهم في الماضي لا تنافي ورود النهي عنه في المستقبل، وأيضًا فالحديث نهي عن الحلف بالآباء فقط، وههنا ليس كذلك، بل هو حلف بالله أولا ثم يقرن به بعده ذكر الرحم، فهذا لا ينافي مدلول ذلك الحديث، فهذا جملة الكلام في قراءة قوله: {والأرحام} بالجر.
أما قراءته بالنصب ففيه وجهان: الأول: وهو اختيار أبي علي الفارسي وعلي بن عيسى أنه عطف على موضع الجار والمجرور كقوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا.. والثاني: وهو قول أكثر المفسرين: أن التقدير: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج، وعلى هذا الوجه فنصب الأرحام بالعطف على قوله: {الله} أي: اتقوا الله واتقوا الأرحام أي اتقوا حق الأرحام فصلوها ولا تقطعوها قال الواحدي رحمه الله: ويجوز أيضًا أن يكون منصوبا بالاغراء، أي والأرحام فاحفظوها وصلوها كقولك: الأسد الأسد، وهذا التفسير يدل على تحريم قطيعة الرحم، ويدل على وجوب صلتها.
وأما القراءة بالرفع فقال صاحب الكشاف: الرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف كأنه قيل: والأرحام كذلك على معنى والأرحام مما يتقى، أو والأرحام مما يتساءل به. اهـ.

.قال الطبري:

والقراءة التي لا نستجيز لقارئٍ أن يقرأ غيرها في ذلك، النصب: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ}، بمعنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهرٍ من الأسماء على مكنيّ في حال الخفض، إلا في ضرورة شعر، على ما قد وصفت قبل. اهـ.

.قال الألوسي:

وقرأ نافع وابن كثير، وسائر أهل الكوفة {تَسَاءلُونَ} بادغام تاء الفاعل في السين لتقاربهما في الهمس.
{والأرحام} بالنصب وهو معطوف إما على محل الجار والمجرور إن كان المحل لهما، أو على محل المجرور إن كان المحل له، والكلام على حدّ مررت بزيد، وعمرًا، وينصره قراءة {تسألون به وبالأرحام} وأنهم كانوا يقرنونها في السؤال والمناشدة بالله تعالى ويقولون: أسألك بالله تعالى وبالله سبحانه وبالرحم كما أخرج ذلك غير واحد عن مجاهد، وهو اختيار الفارسي وعلي بن عيسى؛ وإما معطوف على الاسم الجليل أي اتقوا الله تعالى والأرحام وصلوها ولا تقطعوها فإن قطعها مما يجب أن يتقى، وهو رواية ابن حميد عن مجاهد والضحاك عن ابن عباس، وابن المنذر عن عكرمة، وحكي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه واختاره الفراء والزجاج، وجوز الواحدي النصب على الإغراء أي والزموا الأرحام وصلوها، وقرأ حمزة بالجر، وخرجت في المشهور على العطف على الضمير المجرور، وضعف ذلك أكثر النحويين بأن الضمير المجرور كبعض الكلمة لشدة اتصاله بها فكما لا يعطف على جزء الكلمة لا يعطف عليه.