فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأول من شنع على حمزة في هذ القراءة أبو العباس المبرد حتى قال: لا تحل القراءة بها، وتبعه في ذلك جماعة منهم ابن عطية وزعم أنه يردها وجهان: أحدهما: أن ذكر أن الأرحام مما يتساءل بها لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى، ولا فائدة فيها أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا مما يغض من الفصاحة، والثاني: أن في ذكرها على ذلك تقرير التساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك، فقد أخرج الشيخان عنه صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا فليحلف بالله تعالى أو ليصمت» وأنت تعلم أن حمزة لم يقرأ كذلك من نفسه ولكن أخذ ذلك بل جميع القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش والإمام بن أعين ومحمد بن أبى ليلى، وجعفر بن محمد الصادق وكان صالحًا ورعًا ثقة في الحديث من الطبقة الثالثة.
وقد قال الإمام أبو حنيفة والثوري ويحيى بن آدم في حقه غلب حمزة الناس على القراءة والفرائض، وأخذ عنه جماعة وتلمذوا عليه منهم إمام الكوفة قراءة وعربية أبو الحسن الكسائي، وهو أحد القراء السبع الذين قال أساطين الدين: إن قراءتهم متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يقرأ بذلك وحده بل قرأ به جماعة من غير السبعة كابن مسعود وابن عباس وإبراهيم النخعي والحسن البصري وقتادة ومجاهد وغيرهم كما نقله ابن يعيش فالتشنيع على هذا الإمام في غاية الشناعة ونهاية الجسارة والبشاعة وربما يخشى منه الكفر، وما ذكر من امتناع العطف على الضمير المجرور هو مذهب البصريين ولسنا متعبدين باتباعهم، وقد أطال أبو حيان في [البحر] الكلام في الرد عليهم، وادعى أن ما ذهبوا إليه غير صحيح، بل الصحيح ماذهب إليه الكوفيون من الجواز وورد ذلك في لسان العرب نثرًا ونظمًا، وإلى ذلك ذهب ابن مالك، وحديث إن ذكر الأرحام حينئذ لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ساقط من القول لأن التقوى إن أريد بها تقوى خاصة وهي التي في حقوق العباد التي من جملتها صلة الرحم فالتساؤل بالأرحام مما يقتضيه بلا ريب، وإن أريد الأعم فلدخوله فيها وأما شبهة أن في ذكرها تقرير التساؤل بها، والقسم بحرمتها والحديث يرد ذلك للنهي فيه عن الحلف بغير الله تعالى، فقد قيل في جوابها: لا نسلم أن الحلف بغير الله تعالى مطلقًا منهي عنه، بل المنهي عنه ما كان مع اعتقاد وجوب البر، وأما الحلف على سبيل التأكيد مثلًا فمما لا بأس به ففي الخبر «أفلح وأبيه إن صدق».
وقد ذكر بعضهم أن قول الشخص لآخر: أسألك بالرحم أن تفعل كذا ليس الغرض منه سوى الاستعطاف وليس هو كقول القائل والرحم لأفعلن كذا، ولقد فعلت كذا، فلا يكون متعلق النهي في شيء، والقول بأن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلون في الجاهلية لا يخفى ما فيه فافهم وقد خرج ابن جني هذه القراءة على تخريج آخر، فقال في [الخصائص]: باب في أن المحذوف إذا دلت الدلالة عليه كان في حكم الملفوظ به من ذلك.
رسم دار وقفت في طلله

أي رب رسم دار، وكان رؤبة إذا قيل له: كيف أصبحت؟ يقول: خير عافاك الله تعالى أي بخير يحذف الباء لدلالة الحال عليها، وعلى نحو من هذا تتوجه عندنا قراءة حمزة وفي [شرح المفصل] أن الباء في هذه القراءة محذوفة لتقدم ذكرها، وقد مشى على ذلك أيضًا الزمخشري في [أحاجيه]، وذكر صاحب [الكشف] أنه أقرب من التخريج الأول عند أكثر البصرية لثبوت إضمار الجار في نحو الله لأفعلن وفي نحو ما مثل عبد الله ولا أخيه يقولان ذلك والحمل على ما ثبت هو الوجه، ونقل عن بعضهم أن الواو للقسم على نحو اتق الله تعالى فوالله إنه مطلع عليك وترك الفاء لأن الاستئناف أقوى الأصلين وهو وجه حسن.
وقرأ ابن زيد {والأرحام} بالرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر، أي والأرحام كذلك أي مما يتقى لقرينة {اتقوا} أو مما يتساءل به لقرينة {تَسَاءلُونَ} وقدره ابن عطية أهل لأن توصل وابن جني مما يجب أن توصلوه وتحتاطوا فيه ولعل الجملة حينئذ معترضة وإلا ففي العطف خفاء، وقد نبه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه سبحانه على أن صلتها بمكان منه تعالى، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة؟ قال: نعم أما ترضين أني أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: بلى قال: فذلك لك». وأخرج البزار بإسناد حسن «الرحم حجنة متمسكة بالعرش تكلم بلسان زلق اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني فيقول الله تعالى: أنا الرحمن أنا الرحيم فإني شققت الرحم من اسمي فمن وصلها وصلته ومن بتكها بتكته» وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح: «إن من أربى الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة». والأخبار في هذا الباب كثيرة، والمراد بالرحم الأقارب ويقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب وإن بَعُدَ، ويطلق على الأقارب من جهة النساء وتخصيصه في باب الصلة بمن ينتهي إلى رحم الأم منقطع عن القبول إذ قد ورد الأمر بالإحسان إلى الأقارب مطلقًا. اهـ.

.قال القرطبي:

هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة {وَالأَرْحَامِ} بالخفض، واختاره ابن عطية. وردّه الإمام أبو النصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيريّ، واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلامِ مردود عند أئمة الدين؛ لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القرّاء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواترًا يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ ذلك فقد ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم، واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور، ولا يقلَّد فيه أئمة اللغة والنحو؛ فإن العربية تُتلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يشك أحد في فصاحته. وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر؛ لأنه عليه السلام قال لأبي العُشَرَاء.
«وأبِيك لو طعنت في خاصرته» ثم النهي إنما جاء في الحلفِ بغير الله، وهذا توسل إلى الغير بحق الرّحم فلا نهي فيه.
قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرّحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحقِّ أبيك. وقد جاء في التنزيل: {والنَّجْمِ}، {والطّورِ}، {والتِّينِ}، {لَعْمرُك} وهذا تكلفٌ.
قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أنه يكون {وَالأَرْحَامِ} من هذا القبيل، فيكون أقسم بها كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيدًا لها حتى قرنها بنفسه.
والله أعلم.
ولِلّهِ أن يُقسِم بما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسمًا.
والعرب تُقسم بالرحم. اهـ.

.قال ابن القيم:

وينبغي أن يتفطن هاهنا لأمر لابد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوى الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن فإنهم يفسرون الآية ويعربونها بما يحتمله تركيب تلك الجملة ويفهم من ذلك التركيب أي معنى اتفق وهذا غلط عظيم يقطع السامع بأن مراد القرآن وإن احتمل ذلك التركيب هذا المعنى في سياق آخر وكلام آخر فإنه لا يلزم أن يحتمله القرآن مثل قول بعضهم في قراءة من قرأ: {وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} بالجر أنه قسم ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} إن المسجد مجرور بالعطف على الضمير المجرور في به، ومثل قول بعضهم في قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ} إن المقيمين مجرور بواو القسم ونظائر ذلك أضعاف أضعاف ما ذكرنا وأوهي بكثير بل للقرآن عرف خاص ومعان معهودة لا يناسبه تفسيره بغيرها ولا يجوز تفسيره بغير عرفة والمعهود من معانيه فإن نسبة معانيه إلى المعاني كنسبة ألفاظه إلى الألفاظ بل أعظم فكما أن ألفاظه ملوك الألفاظ وأجلها وأفصحها ولها من الفصاحة أعلى مراتبها التي يعجز عنها قدر العالمين فكذلك معانية أجل المعاني وأعظمها وأفخمها فلا يجوز تفسيره بغيرها من المعاني التي لا تليق به بل غيرها أعظم منها وأجل وأفخم فلا يجوز حمله على المعاني القاصرة بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه وسنزيد هذا إن شاء الله تعالى بيانا وبسطا في الكلام على أصول التفسير فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله. اهـ.

.قال الفخر:

إنه تعالى قال أولا: {اتقوا رَبَّكُمُ} ثم قال بعده: {واتقوا الله} وفي هذا التكرير وجوه:
الأول: تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل: اعجل اعجل فيكون أبلغ من قولك: اعجل الثاني: أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الإنعام بالخلق وغيره، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض.
الثالث: قال أولا: {اتقوا رَبَّكُمُ} وقال ثانيا: {واتقوا الله} والرب لفظ يدل على التربية والإحسان، والاله لفظ يدل على القهر والهيبة، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة: 16] وقال: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90] كأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة. اهـ.
قال الفخر:
اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال: بالله أسألك، وبالله أشفع إليك، وبالله أحلف عليك، إلى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى، والتقدير: واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول: أسألك بالله والرحم، وربما أفرد ذلك فقال: أسألك بالرحم، وكان يكتب المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع إلى ذلك، والتقدير: واتقوا الله واتقوا الأرحام، قال القاضي: وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة، لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والاحسان، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال. اهـ.
قال الفخر:
قال بعضهم: اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي» ووجه التشبيه أن لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض.
وقال آخرون: بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الإنعام وأنه الأصل، وقال بعضهم: بل كل واحد منهما أصل بنفسه، والنزاع في مثل هذا قريب. اهـ.
قال الفخر:
دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى.
روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سألكم بالله فأعطوه» وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: منها إبرار القسم. اهـ.
قال الفخر:
دل قوله تعالى: {والأرحام} على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ في الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وقال: {لا يَرْقُبُونَ في مُؤْمِنٍ إِلًا وَلاَ ذِمَّةً} قيل في الأول: إنه القرابة، وقال: {وقضى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] وقال: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وبالوالدين إحسانا وَبِذِى القربى واليتامى والمساكين} [النساء: 36] وعن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصى الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة».