فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري، فإنه كثيرًا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم، وحمزة رضي الله عنه: أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش، وحمدان بن أعين، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وجعفر بن محمد الصادق، ولم يقرأ حمزة حرفًا من كتاب الله إلا بأثر.
وكان حمزة صالحًا ورعًا ثقةً في الحديث، وهو من الطبقة الثالثة، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم: سفيان الثوري، والحسن بن صالح.
ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم: غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض.
وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظنًا بها وبقارئها، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك.
ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.
{إن الله كان عليكم رقيبًا} لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى، وإن كان موضوع كان ذلك، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا، والرقيب تقدم شرحه في المفردات.
وقال بعضهم: هنا هو العليم، والمعنى: أنه مراع لكم لا يخفى عليه من أمركم شيء فاتقوه. اهـ. بتصرف.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قال رحمه الله:
سورة النساء:
نزولها: نزلت بالمدينة، فهى مدنية، بلا خلاف بين العلماء.
عدد آياتها: مائة وخمس وسبعون آية.
عدد كلماتها: ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون عدد حروفها: ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا أسماؤها: المشهور أنها سورة النساء، وتسمى: سورة النساء الكبرى وتسمى سورة الطلاق: النساء الصغرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآية الأولى [سورة النساء: آية 1]
{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ}.
التفسير: تحمل سورة النساء كثيرا من الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنسانى.. بين الرجال والنساء، وبين اليتامى والأوصياء، وبين الورثة والمورّث، كما تضمنت حدودا وأحكاما في شأن الزواج، والمهر، وقوامة الرجل على المرأة، والجهاد في سبيل اللّه.. إلى كثير غير هذا، مما ضمت عليه السورة الكريمة..
والمجتمع الذي لا تتماسك فيه روابط الأخوة الإنسانية، ولا تسرى في كيانه مشاعر الرحمة والمودة التي تنتظم أفراده، هو مجتمع هزيل العود، متداعى البناء، لا يثبت لأقلّ هزّة تمرّ به، أو يقوم في وجه أية عاصفة تهبّ عليه!.
ولهذا كان هذا النداء الكريم الذي بدأت به السورة الكريمة دعوتها إلى الناس جميعا- جامعا تلك المشاعر التي تربط الإنسان بالإنسان، وتضمه إليه، وتؤاخى بينه وبينه..
{يا أَيُّهَا النَّاسُ} النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم.
{اتَّقُوا رَبَّكُمُ} فإن تقوى اللّه، ومراقبته، وملء القلب خشية له، والولاء لجلاله وعظمته- هي ملاك الأمر كله، في إقامة الإنسان على طريق الحق والخير، وفى الوصول به إلى درجات عالية، في منازل الكمال البشرى، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر.
{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ} على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة اللّه، وحكمته ورحمته.. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر، هي ثمرة بذرة واحدة، أنبتها اللّه بحكمته، ونفخ فيها من روحه، فأعطت هذا الثمر الكثير، المختلف الألوان، المتعدد الطعوم، المبثوث في كل أفق.
{وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} أي وخلق من هذه النفس، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس، مقابلا لها، ومكمّلا لوجودها.
والقصّة التي تقول إن «حواء» خلقت من ضلع آدم، هي من واردات الأساطير، وقد أخذ بها معظم المفسّرين، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها.
والآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم، ولا تسانده.. وإنا إذ ننظر في قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها} لنجد الضمير في {منها} الذي يشير إلى النفس الواحدة، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو «آدم» وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر، ومن هذه المادة كان خلق آدم، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه، التي يكتمل بها وجوده، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى- في آية أخرى- {وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجًا} [8: النبأ].. وليس هذا في خلق الإنسان وحده، بل هو التدبير الذي قدّره اللّه لخلق الكائنات الحية كلها، من حيوان ونبات.. ومن يدرى فربّما كان ذلك في عالم الجماد أيضا، وفى هذا يقول الحق جلّ وعلاء: {وَمِنْ كُلِّ شيء خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [49: الذاريات] ويقول سبحانه: {وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [7: ق]. فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم «وحواء» كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟.. ذلك ما لا مفهوم له في علم، ولا معقول له في عقل! إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما في أصل الخلقة، بل تجعلهما طبيعة واحدة، كان منها الذكر والأنثى، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [195: آل عمران] وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} [36- 39: القيامة] ففى قوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل في كيانه طبيعة الذكر والأنثى، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى، ففى الذّكر، ذكر وأنثى وفى الأنثى أنثى وذكر..
وذلك ما يقرره العلم الحديث، ويزكيّه القرآن العظيم.
ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول في خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء..
فى الإميبيا حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام في الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا، وهو الذي نقول به، وهو أن آدم وليد دورة طويلة في سلسلة التطور، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت الإيميبيا التي تتوالد بالانقسام!.
{وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً} أي من هذين المخلوقين، الزوجين: الذكر والأنثى، تكاثر الناس وانتشروا، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم، وصنعة العليم الحكيم.
فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم اللّه سبحانه وتعالى أن يتّقوه.. أن يتّقوا ربّهم، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته، في أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات، إلى عالم النطف.. ثم إلى الإنسان المسوّى في أحسن تقويم.
وكلمة {ربّهم} هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو في دور الخلق والتكوين..
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ}. وهذا نداء آخر من قبل الحق، يدعو به عباده إلى التّقوى، بعد أن ناداهم بها «ربّهم» وهم عالم الخلق والتكوين.. إنهم هنا بشر سوىّ، يعقل ويفهم، ويدرك..
يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة، بل تنقّل في أطوار عديدة، تحت رعاية رحيمة، وبيد حكيمة.. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر..
ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية، المحمود وحده عليها..
ومن أجل هذا كانت تقوى اللّه، وخشيته، والولاء له، أمرا لازما، منوطا في عنق الإنسان، لربّه وإلهه. وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب، ويدعوه إليه، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق، فقد خاب وخسر!
وفى قوله: {الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ} إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان «الإنسان» كلّ إنسان، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى اللّه والبحث عنه، والمساءلة به، فيما بينه وبين نفسه، وفيما بينه وبين الناس، ففى كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن اللّه، والمساءلة عن ذاته وصفاته.
فالبحث عن اللّه، والسؤال عنه، والمساءلة به، أمر شغل الإنسان- كل إنسان- منذ كانت الإنسانية، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود، وأدارت بصرها فيه، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض، وفيما بين السماء والأرض.
فاللّه سبحانه يملأ على الإنسان وجوده كله، ويطرق حواسّه كلّها، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها، فيما بثّ اللّه في هذا الوجود، من روائع صنعته، وآيات خلقه، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه، أو التفلّت منه، وحبس الحواس، والمشاعر، والمدارك، عن الاشتغال به، فلينظر المرء أي إنسان هو؟ إن أراد أن يكون في الناس، أو أن يكون من الناس.
{وَالْأَرْحامَ}. قرئ قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} بالنّصب عطفا على قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} بمعنى اتقوا اللّه والأرحام..
وتقوى الأرحام هي من تقوى اللّه، فكما أن للّه حقوقا، ينبغى رعايتها والحرص عليها، فكذلك الأرحام- وهم الأقارب، ومنهم الأبوان- لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها، إذ كان لهما شأن في تربية الإنسان ورعايته..
فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه، هو وفاء لحقوق لهم عليه، وأداء لدين أقرضوه إياه، وقد آن أوان استقضائه منه، حين قدر وعجزوا، وملك ولم يملكوا.
وفى الجمع بين اتقاء حقوق اللّه، وحقوق ذوى الأرحام لفتات.. منها:
أولا: التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم، وأنّ في رعايتها مرضاة للّه، واستكمالا لتقواه.
ثانيا: الإلفات إلى حقوق اللّه، وأنها حقوق عظيمة، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها، وأن الغفلة عنها، أو التفريط فيها عدوان على اللّه، وكفران به وبنعمه، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه، ويرعى ذوى رحمه، بدواعى الانتساب إليهم، فإن حبّه للّه، ورعايته لحقوقه، بالتزام تقواه- أوجب وألزم، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل، وما سواه تبع وإضافىّ.
كذلك قرئ قوله تعالى: {وَالْأَرْحامَ} بالجرّ، عطفا على الضمير في {به} في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ} بمعنى واتقوا اللّه الذي تساءلون به وبالأرحام، أي الذي هو ملء خواطركم وأفكاركم، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم. فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه، ويجرى في خاطره، هم أهله وقرابته، وربما شغل الإنسان بأهله عن اللّه، وهذا ما نبّه اللّه سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه في قوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ} [24: التوبة] ويقول تعالى: {فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [200: البقرة].. ومع هذا فالقراءتان- بالنصب والجرّ- يكملان بعضهما- ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآنى، ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل، في الجمع بين تقوى اللّه، وبرّ ذوى الأرحام.. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى اللّه، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ اللّه عنده. والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا، فلله حقوق يجب أن يؤديها، وللأهل حقوق ينبغى أن يرعاها، وهو ملوم إن قصّر في حق على حساب الحق الآخر. اهـ. بتصرف يسير.