فصل: مطلب: خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: خروج بني إسرائيل من مصر وأخذهم ضريح يوسف وإنجائهم وإغراق فرعون والميقات الأول:

قالوا لما دخل بنو إسرائيل مصر زمن يوسف عليه السّلام كانوا اثنتين وسبعين نسمة، ولما خرجوا منها زمن موسى عليه السّلام كانوا ستمئة ألف وعشرين ألفا، عدا الذين دون العشرين وفوق الستين، قالوا وأخرج اللّه كل ولد كان في القبط من بني إسرائيل إلى بني إسرائيل، وكل ولد كان في بني إسرائيل من القبط إلى القبط، ولما أمره اللّه بإخراجهم أمرهم أن يستعيروا حلي القبط وأن يتركوا أصرجتهم مضيئة في دورهم لئلا يرتاب القبط ببقائهم، وليعلموا أن استعارة الحلي ليتزينوا بها في عيدهم، ففعلوا وخرجوا إلى باب البلد فأضلوه، فقال مشايخهم إنما أضللنا الباب بسبب العهد الذي أخذه يوسف علينا بأن لا نخرج من مصر حتى نأخذ ضريحه معنا، فتحروا قبره فلم يجدوه، فأخبرتهم عجوز أنه في النيل، فدعا موسى ربه، فانحسر النيل وظهر تابوته، فأخرجوه ووضعوه ضمن تابوت من رخام ونقلوه معهم، وداوموا سيرهم طيلة الليل، ولما بلغ فرعون خروجهم تبعهم بألف ألف وسبعمئة ألف، وعند طلوع الشمس دخلوا شاطئ البحر، فنظروا فإذا فرعون وقومه بأثرهم، فأوحى اللّه إلى موسى فضرب البحر ودخله وقومه، فدخلوه، فأنجى اللّه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه.
قال تعالى: {فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} 50 فعلنا بكم وبهم بأم عيونكم كيفية الإنجاء والإغراق بآن واحد: {وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، ولم يقل نهارا لأن الأشهر العربية وضعت على سير القمر، وهذا هو الميقات الأول إذ يوجد آخر سنأتي على ذكره بعد.
قالوا إن بني إسرائيل لم يكن لديهم شريعة ولا كتاب، وقد وعد اللّه موسى بإنزال التوراة ووقت له هذا الميقات، فاستخلف عليهم هارون وذهب لميقات ربه، وكان السامري يرى جبريل حين يأتيه ويرى فرسه لا تطأ شيئا إلا حيي وكان منافقا، فقبض قبضة من أثرها إذ عرف أنه إذا ألقاها على شيء يحيا، فقال لبني إسرائيل إن الحلي الذي أخذتموه من القبط لا يحل لكم فضعوه في هذه الحفرة، فوضعوه، فعمد إليه وصاغه عجلا وألقى التراب فيه، فصار يخور، فقال لبني إسرائيل هذا إلهكم الذي ذهب إليه موسى نسيه هنا.
وتفصيل هذه القصة في الآية 148 من سورة الأعراف، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ} إلها فعبدتموه: {مِنْ بَعْدِهِ} بعد ذهاب موسى إذ كان وعدهم أولا ثلاثين ليلة، ولم يعلموا بزيادة العشر، فلما مضت ظنوا أنه مات، لأن العقيدة الدينية في قوم موسى لم ترسخ في قلوبهم بعد، مع ما أظهره اللّه على يديه من الآيات الباهرات، ولهذا بادئ الرأي أذعنوا وسمعوا قول السامري وعكفوا على عبادة العجل، قاتلهم اللّه، إن موسى دعاهم إلى اللّه سنين، وأظهر لهم المعجزات الباهرة، فلم تثبت دعوته إلى اللّه الفاعل المختار في قلوبهم، وبكلمة بسيطة من السامري أذعنوا حالا لعبادة العجل الذي هو من صنع يده، وانقادوا له، ولهذا قال تعالى: {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} في ذلك، لأن العجل عبارة عن صنم، فكيف تصدقون إلهيته بلا تأمل، ولا تدبر وبأنه إله موسى، وأن موسى نسيه: {ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} الفعل القبيح، وقبلنا تربتكم: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} حسن صنيعنا بكم من قبولكم بعد الإعراض وما أسلفناه لكم من النعم التي لا تقدر ولا يقدر أحد أن يعملها معكم، فضلا عن نعمة خلقكم وتمعكم بجوارحكم وحواسكم وإدرار الرزق عليكم وإيوانكم.

.مطلب: في الشكر وتوبة بني إسرائيل والميقات الثاني:

واعلم أن الشكر ثلاثة أنواع: شكر بالقلب وهو تصور النعمة، وشكر باللسان وهو الثناء على مؤتي النعمة، وشكر بالجوارح وهو مكافأة المنعم على النعمة.
وقيل في ذلك:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ** يدي ولساني والضمير المحجبا

قال موسى عليه السّلام: إلهي أنعمت علي النعم السوابغ، وأمرتني بالشكر، وإنما شكري إيّاك نعمة منك، فأوحى اللّه تعالى إليه يا موسى تعلمت العلم الذي لا فوقه علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهي مني.
وقال داود عليه السّلام: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكرا كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.
قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ} التوراة: {وَالْفُرْقانَ} عطف بيان على الكتاب، أو معرفة الفارق ما بين الحق والباطل لأول نظرة دون تأمل، بأن يلقي اللّه تعالى في قلبه عند مشاهدة الشيء أو سماع القول، هذا حق وهذا باطل: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} بهديه فتعلمون منه ما أحل لكم وما حرم عليكم فتأتون الخير وتذرون الشر على علم لأن الفعل والترك إذا كان عن جهل فهو جهل وإن كان حقا، قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ} الذين عبدوا العجل بعده بإغرار السامري: {يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ} إلها زمن غيابي وعبادتكم له من دون اللّه وخرجتم عن العهد الذي أخذته عليكم وفاقا لعهد اللّه الأزلي بعدم عبادة غيره، فقالوا له ما نفعل حتى يغفر لنا، لأن اللّه الذي أمرتنا بعبادته يقبل الرجوع إليه قال: {فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ} خالقكم قالوا وكيف هذه التوبة التي تمحو ذنبنا ويقبلنا بها إلهك قال: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وكان في شريعة موسى عليه السّلام أن من اقترف ذنبا كبيرا كالكفر فتوبته قتل نفسه، ولا يقبل اللّه توبتكم إلا بذلك، وبما أنكم ولابد ميتون فقتلكم أنفسكم لرضاء اللّه عنكم أربح لكم: {ذلِكُمْ} القتل والتخلص من هذه الدنيا الفانية التي غررتم بها فتلاقوا ربكم تائبين خاضعين: {خَيْر لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ} من أن تموتوا حتف أنفسكم كفارا فتلقوه في دار البقاء على كفركم فتخلدوا في النار.
وهذا بيان بأن توبتهم لا تقبل إلا بالقتل، وليس القتل هنا تفسيرا للتوبة، لأن التوبة عبارة عن الندم على الفعل والعزم على عدم العودة عليه، ولكن اللّه تعالى أوحى إن موسى عليه السلام أن توبة المرتد قتله، ولذلك قضى عليهم بالقتل، ولما وقع في قلوبهم ما هددهم به موسى من الخلود بالنار في الآخرة وتيقفوا أن قوله حق لما عرفوا منه، وأنهم لابد ميتون، اختاروا قتل أنفسهم حذرا من عذاب اللّه، فقالوا نسلم لأمرة إلى اللّه، ونصبر على القتل، وجلسوا مختبين الاحتباء ضم الساقين إلى البطن بثوب وقيل لهم من حل حبوته أو اتقى بيديه أو بشيء آخر أو نظر لقاتله فهو ملعون، فصار الابن يقتل أباه، والأب ابنه، والأخ أخاه، والزوج زوجته، والزوجة زوجها، وقد أظلهم اللّه بسحابة حتى لا ترق قلوب بعضهم على بعض، وصار موسى وهرون يبكيان، ويتضرعان إلى ربهما، ويقولان يا ربنا البقا البقا أي اعف عن البقية، فأجاب اللّه دعاءهم وكشف عنهم السحابة وأمرهم بالكف عن القتل، فتفقد موسى وهرون القتلى فوجداهما سبعين ألفا، فحزنا عليهم، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى ألم ترض أن أدخل القاتل والمقتول الجنة، ومن بقي مكفرا عنه؟
قال بلى يا رب، فأخبر قومه وأمر بدفن الموتى، وقال للباقين: {فتاب عليكم} ربكم بامتثالكم أمره: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} بالعفو عن الباقين وإدخال القاتل والمقتول الجنة.
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} علانية مثل ما نراك وترانا، وذلك أن اللّه تعالى أمر موسى أن يأتي بأناس من بني إسرائيل يعتذرون عن عبادة العجل من الذين لم يعبدوه ولم ينهوا العابدين له عن عبادته.
فاختار سبعين رجلا من خيارهم وأمرهم بالصوم والطهارة، وخرج معهم إلى طور سيناء، وهذا الميقات الثاني، فلما وصلوا قالوا لموسى أسمعنا كلام اللّه، فقال لهم أدنوا مني، فدخل الغمام، ودخلوا وراءه فسجدوا وسمعوه يكلم ربه وسمعوا كلام اللّه جل شأنه يقول له أنا اللّه ذو بكة لا إله إلّا أنا، أخرجتكم من مصر بيد شديدة، فاعبدوني لا تعبدوا غيري، ثم قالوا يا موسى أما وقد أسمعتنا صوته فأرناه عيانا، فإنا لا نؤمن لك حتى نشاهده عيانا: {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ} حال مقالتكم هذه لجرأتكم على ربكم بطلب رؤيته، والصاعقة صوت صيحة عظيمة هائلة: {وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} كيف متّم بسببها.
ولا دلالة في هذه الآية على عدم استحالة جواز الرؤية في الآخرة، لأن بني إسرائيل عوقبوا بسؤالها وكان عقابهم بعدم إيمانهم بقول رسولهم بعد ظهور معجزته، ولأن سؤالهم كان تعنتا وعنادا، فلما رأى موسى ما حلّ بهم صار يبكي ويتضرع إلى اللّه ويقول يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل وقد أهلكت خيارهم، فلو شئت أهلكتهم وإياي قبل أن نأتيك، أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ ولم يزل يتضرع حتى أحياهم اللّه تعالى كما أماتهم وهم ينظرون بعضهم إلى بعض كيف يحيون، كما نظر بعضهم إلى بعض كيف يموتون، وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة الإحياء بعد الموت زيادة على النعم الأولى.
وتقدم بحث هذا الميقات الثاني في الآية 155 من سورة الأعراف.

.مطلب: في التيه والمنّ والسلوى ومخالفتهم أمر اللّه ثانيا:

قال تعالى: {وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ} في التيه ليقيكم من حر الشمس، إذ ليس لديكم ما تستظلون فيه رأفة بكم {وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى} غذاء وفاكهة لكم، إذ ليس لديكم ما تأكلون رحمة بكم.
المنّ شيء أبيض كالثلج حلو ينزل على أوراق الأشجار ليلا بقدر ما يكفيهم كلهم، فيتناولونه نهارا.
والسلوى طير يشبه السّمان، قد سخره اللّه تعالى إليهم وذللّه، فيأخذون منه ما يكفيهم أيضا كل يوم، فإذا كان يوم الجمعة يأخذون كفاية يومين وليلتين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت وهم لا يحل لهم تناوله فيه.
روى البخاري ومسلم عن سعيد بن زيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين.
أي أن الكمأة شيء أنبته اللّه تعالى لخلقه من الأرض من غير سعيهم ولا مونة منهم، فهي منّ منّ اللّه تعالى علينا مثل المنّ لذي أنزل على بني إسرائيل لا هو نفسه، وماؤها شفاء للعين يعرفه ذو الخبرة به، لا لكل أمراض العيون، كالعسل نافع لبعض الأمراض لا كلها، وقد قال الله تعالى: {فِيهِ شِفاء لِلنَّاسِ} الآية: 77: من سورة النحل، والضار والنافع هو اللّه تعالى.
وقلنا لهم: {كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ} بلا تعب ولا كلفة: {وَما ظَلَمُونا} حينما كفروا نعمتها وقالوا لن نصبر لك على طعام واحد، كما سيأتي قريبا: {وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ببخسهم حقنا وجحوده وعدم شكره، لأن وباله يعود عليهم.
قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ} أريحا قرية الجبارين الآتي ذكرهم في الآية 24 من سورة المائدة الآتية، أو بيت المقدس على قول، وقد أمروا أن يدخلوها بعد انقضاء أربعين سنة عليهم للبقاء فيه: {فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا} بسعة بال وطيب حال وهناءة ورفاه: {وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا} أي باب حطة من البيت المقدس إذا كان المراد بالقرية هو، وإنما سمي حطة لأن من دخله حطت عنه الذنوب، وإن كان المراد أريحا فيكون المعني أي باب شئتم، إذ لها سبعة أبواب: {وَقُولُوا حِطَّة} أي حط عنا ذنوبنا يا ربنا، فإذا فعلتم هذا أيها الإسرائيليون: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ} لأن امتثالكم لأمرنا هذا عبارة عن طلب الاستغفار: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} 58 منكم ثوابا زيادة على المغفرة التي طلبتموها.
وسنأتي على سبب التيه ومدته وما وقع في الآية المذكورة من المائدة إن شاء اللّه تعالى القائل.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} فقالوا حنطة بدل حطة، ودخلوا زحفا على أستاههم بدل أن يدخلوه قائمين مستقيمين.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول صلّى اللّه عليه وسلم قيل لبني إسرائيل أدخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحقون على أستاههم، وقالوا حبة شعيرة.
ورويا عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم لو لا بنو إسرائيل لم يخبث الطعام ولم يخثر اللحم أي لم ينتن ولم يتغير، يشير في هذا إلى ادخار بني إسرائيل المنّ والسلوى يوما وليلة، مع أنه كان كل يوم يأتيهم عدا السبت، ولو لا حواء لم تخن أنثى زوجها الدهر.
ويشير بهذه الفقرة الأخيرة إلى منازلة حراء آدم من الشجرة وأكلها منها قبله حتى أغرته: {فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} وضع الظاهر موضع المضمر إظهارا في قبح أمرهم: {رِجْزًا} عذابا مميتا: {مِنَ السَّماءِ} من جهتها، وأوقعنا بهم ذلك العذاب المميت: {بِما كانُوا يَفْسُقُونَ} يخرجون عن طاعة اللّه ويخالفون أمر رسوله فيتجاوزون ما حده لهم.
ونظير هذه الآيات الآيات 160 فما بعدها من سورة الأعراف.
قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ} في التيه لما أرهقهم العطش ولم يكن لهم ما يشربون منه البتة: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ} لحجر معين بدليل التعريف فضربه امتثالا لأمر ربه: {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْنًا} على عدد الأسباط لكل سبط عين بدليل قوله تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ} فلا يتعدى سبط على شرب غيره، وقلنا لهم: {كُلُوا} من المنّ والسلوى حلوا ودسما: {وَاشْرَبُوا} من الماء العذب الذي جاءكم: {مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} بلا مشقة ولا مؤنة: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وفي هذه الآية معجزة عظيمة لسيدنا موسى عليه السّلام، إذ انفجر له من الصخرة ماء بضربة واحدة من يده في عصاه، وكونه اثنتي عشرة عينا أكبر من نبع الماء على أن معجزة محمد صلّى اللّه عليه وسلم أعظم، إذ فجر اللّه له الماء لأصحابه من بين أصابعه، لأن انفجار الماء من اللحم والدم لم يسبق له نظير لا من طريق المعجزة ولا من غيرها، لذلك فإنه أعظم من انفجاره من الصخرة التي ينفجر الماء منها عادة كما هو مشاهد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ} وذلك لأنهم صئموا من أكل المنّ والسلوى وشرب الماء بلا تعب ولا عمل، وسمّوها واحدا مع أنهما اثنين، لأنه لا يتبدل، فكان بمنزلة الواحد: {فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها} البقل يشمل كل الخضراوات المأكولة: {وَقِثَّائِها} يدخل فيه الخيار والبطيخ وأنواعهما: {وَقَوْمَها} الحنطة وسائر الحبوب التي تخبز فهو كالجنس لمثلها، ولا وجه لتأويله بالثوم المعروف، لأنه داخل في قوله تعالى: {وَبَصَلِها} الذي هو كالجنس أيضا يدخل فيه الثوم والكراث والبصيل وغيرها، وكذلك يقال فيما قبله وبعده، لأن اللّه تعالى ذكر أمهات الأشياء استغناء عما تفرع عنها: {وَعَدَسِها} يعم كافة الحبوب التي تطبخ كالماش والهرطمان والرز وغيرها: {وَبَصَلِها} يدخل فيه كل ذي رائحة كريهة كالبراصية والكرنب وشبهها: {قالَ} لهم موسى عليه السّلام: {أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى} أخس وأحقر مما لم يمكن الحصول عليه إلا بكدّ وكدح: {بِالَّذِي هُوَ خَيْر} أحسن وأطيب، وتتناولونه عفوا بلا تعب، وإذا كنتم تصرون على هذا: {اهْبِطُوا مِصْرًا} من الأمصار، وهذا الفرق بين مصر بلا تنوين علم على المدينة المعلومة والقطر المخصوص، وعلى مطلق بلدة بالتنوين، فإذا أردت الأول منعت من الصرف، وإذا أردت الثاني صرفت: {فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ} من ذلك في أي بلدة تقصدونها: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ} الفاقة أحاطت بهم من كل جانب، لأنهم بمجرد دخولهم البلدان احتاجوا إلى الكد والجهد، وتذللوا لغيرهم لتحصيل معاشهم، وتمسكنوا لينالوا ما يقوتهم.
ولا وجه لمن فسّرها بالجزية، لأنها لم تضرب عليهم، إلا أن اليهود كانوا ولا يزالون شديدي الحرص على المال، ولذلك تراهم أذلاء يتكالبون على جمعه يأتي طريق كان ولو كانوا أغنياء: {وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ} رجوعهم بالغضب وانطباعهم على الذل وحب المال لسوء عقيدتهم وفساد نيّتهم وتكالبهم على الدنيا وعدم طاعتهم لرسلهم، والسبب في ذلك: {بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ} المنزلة على رسوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} عدوانا: {ذلِكَ} الكفر والقتل: {بِما عَصَوْا} أوامر اللّه: {وَكانُوا يَعْتَدُونَ} حدوده من قبل ويتجاوزونها.
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وهم المنافقون: {وَالَّذِينَ هادُوا} سموا يهودا لقولهم: {إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ}.
{وَالنَّصارى} قوم عيسى عليه السلام سموا نصارى لأنهم من قرية الناصرة في فلسطين: {وَالصَّابِئِينَ} الخارجين عن دين إلى غيره، لأنهم عدلوا عن اليهودية والنّصرانية وعبدوا الكواكب لزعمهم أن اللّه تعالى خلقها مدبرة لأمر هذا العالم، ولذلك يعظمونها، فهؤلاء: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} منهم إيمانا خالصا قلبا ولسانا، وآمنوا برسوله وكتابه كذلك إيمانا حقيقا: {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} البعث بعد الموت، والعقاب والثواب، والجنة والنار بعد الحساب: {وَعَمِلَ صالِحًا} مع إيمانه بما تقدم: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الآخرة يثيبهم عليها من فضله: {وَلا خَوْف عَلَيْهِمْ} من أهوالهما وعذابها: {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في الدنيا، لأنهم عرضوا خيرا منها.
ونظير هذه الآية الآية 69 من سورة المائدة الآتية.