فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن القيم:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة المراقبة:
قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقره: 235] وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب: 52] وقال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] وقال تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] إلى غير ذلك من الآيات وفي حديث جبريل عليه السلام: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال له: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك المراقبة دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الحق سبحانه وتعالى على ظاهره وباطنه فاستدامته لهذا العلم واليقين: هي المراقبة وهي ثمرة علمه بأن الله سبحانه رقيب عليه ناظر إليه سامع لقوله وهو مطلع على عمله كل وقت وكل لحظة وكل نفس وكل طرفة عين والغافل عن هذا بمعزل عن حال أهل البدايات فكيف بحال المريدين فكيف بحال العارفين.
قال الجريري: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة: لم يصل إلى الكشف والمشاهدة وقيل: من راقب الله في خواطره عصمه في حركات جوارحه.
وقيل لبعضهم: متى يهش الراعي غنمه بعصاه عن مراتع الهلكة فقال: إذا علم أن عليه رقيبا وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوات لحظة من ربه لا غير وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما أنزل الله وتعظيم ما عظم الله وتصغير ما صغر الله.
وقيل: الرجاء يحرك إلى الطاعة والخوف يبعد عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طريق الحقائق وقيل: المراقبة مراعاة القلب لملاحظة الحق مع كل خطرة وخطوة.
وقال الجريري: أمرنا هذا مبني على فصلين: أن تلزم نفسك المراقبة لله وأن يكون العلم على ظاهرك قائما.
وقال إبراهيم الخواص: المراقبة خلوص السر والعلانية لله عز وجل وقيل: أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريق: المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم.
وقال أبو حفص لأبي عثمان النيسابوري: إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله يراقب باطنك.
وأرباب الطريق مجمعون على أن مراقبة الله تعالى في الخواطر: سبب لحفظها في حركات الظواهر فمن راقب الله في سره: حفظه الله في حركاته في سره وعلانيته والمراقبة هي التعبد باسمه الرقيب الحفيظ العليم السميع البصير فمن عقل هذه الأسماء وتعبد بمقتضاها: حصلت له المراقبة والله أعلم.
فصل قال صاحب المنازل: المراقبة: دوام ملاحظة المقصود وهي على ثلاث:
درجات الدرجة الأولى: مراقبة الحق تعالى في السير إليه على الدوام بين تعظيم مذهل ومداناة حاملة وسرور باعث فقوله: دوام ملاحظة المقصود أي دوام حضور القلب معه وقوله بين تعظيم مذهل فهو امتلاء القلب من عظمة الله عز وجل.
بحيث يذهله ذلك عن تعظيم غيره وعن الالتفات إليه فلا ينسى هذا التعظيم عند حضور قلبه مع الله بل يستصحبه دائما فإن الحضور مع الله يوجب أنسا ومحبة إن لم يقارنهما تعظيم أورثاه خروجا عن حدود العبودية ورعونة فكل حب لا يقارنه تعظيم المحبوب: فهو سببا للبعد عنه والسقوط من عينه فقد تضمن كلامه خمسة أمور: سير إلى الله واستدامة هذا السير وحضور القلب معه وتعظيمه والذهول بعظمته عن غيره.
وأما قوله: ومداناة حاملة يريد دنوا وقربا حاملا على هذه الأمور الخمسة وهذا الدنو يحمله على التعظيم الذي يذهله عن نفسه وعن غيره فإنه كلما ازداد قربا من الحق ازداد له تعظيما وذهولا عن سواه وبعدا عن الخلق.
وأما السرور الباعث فهو الفرحة والتعظيم واللذة التي يجدها في تلك المداناة فإن سرور القلب مع الله وفرحه به وقرة العين به لا يشبهه شيء من نعيم الدنيا ألبتة وليس له نظير يقاس به وهو حال من أحوال أهل الجنة حتى قال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
ولا ريب أن هذا السرور يبعثه على دوام السير إلى الله عز وجل وبذل الجهد في طلبه وابتغاء مرضاته ومن لم يجد هذا السرور ولا شيئا منه فليتهم إيمانه وأعماله فإن للإيمان حلاوة من لم يذقها فليرجع وليقتبس نورا يجد به حلاوة الإيمان وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذوق طعم الإيمان ووجد حلاوته فذكر الذوق والوجد وعلقه بالإيمان فقال: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وقال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحا فاتهمه فإن الرب تعالى شكور يعني أنه لابد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه وقوة انشراح وقرة عين فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول والقصد: أن السرور بالله وقربه وقرة العين به تبعث على الازدياد من طاعته وتحث على الجد في السير إليه قال: الدرجة الثانية مراقبة نظر الحق إليك برفض المعارضة بالإعراض عن الاعتراض ونقض رعونة التعرض هذه مراقبة لمراقبة الله لك فهي مراقبة لصفة خاصة معينة وهي توجب صيانة الباطن والظاهر فصيانة الظاهر: بحفظ الحركات الظاهرة وصيانة الباطن: بحفظ الخواطر والإرادات والحركات الباطنة التي منها رفض معارضة أمره وخبره فيتجرد الباطن من كل شهوة وإرادة تعارض أمره ومن كل إرادة تعارض إرادته ومن كل شبهة تعارض خبره ومن كل محبة تزاحم محبته وهذه حقيقة القلب السليم الذي لا ينجو إلا من أتى الله به وهذا هو حقيقة تجريد الأبرار المقربين العارفين وكل تجريد سوى هذا فناقص وهذا تجريد أرباب العزائم.
ثم بين الشيخ سبب المعارضة وبماذا يرفضها العبد فقال بالإعراض عن الاعتراض فإن المعارضة تتولد من الاعتراض والاعتراض ثلاثة أنواع سارية في الناس والمعصوم من عصمه الله منها النوع الأول: الاعتراض على أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة التي يسميها أربابها قواطع عقلية وهي في الحقيقة خيالات جهلية ومحالات ذهنية اعتراضوا بها على أسمائه وصفاته عز وجل وحكموا بها عليه ونفوا لأجلها ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله وأثبتوا ما نفاه ووالوا بها أعداءه ووعادوا بها أولياءه وحرفوا بها الكلم عن مواضعه ونسوا بها نصيبا كثيرا مما ذكروا به وتقطعوا لها أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.
والعاصم من هذا الاعتراض: التسليم المحض للوحي فإذا سلم القلب له: رأى صحة ما جاء به وأنه الحق بصريح العقل والفطرة فاجتمع له السمع والعقل والفطرة وهذا أكمل الإيمان ليس كمن الحرب قائم بين سمعه وعقله وفطرته.
النوع الثاني: الاعتراض على شرعه وأمره وأهل هذا الاعتراض: ثلاثة أنواع:
أحدها: المعترضون عليه بآرائهم وأقيستهم المتضمنة تحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى وتحريم ما أباحه وإسقاط ما أوجبه وإيجاب ما أسقطه وإبطال ما صححه وتصحيح ما أبطله واعتبار ما ألغاه وإلغاء ما اعتبره وتقييد ما أطلقه وإطلاق ما قيده وهذه هي الآراء والأقيسة التي اتفق السلف قاطبة على ذمها والتحذير منها وصاحوا على أصحابها من أقطار الأرض وحذروا منهم ونفروا عنهم.
النوع الثاني: الاعتراض على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله وإبطال دينه الذي شرعه على لسان رسوله والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفوس الجاهلة.
والعجب أن أربابها ينكرون على أهل الحظوظ وكل ما هم فيه فحظ ولكن حظهم حظ متضمن مخالفة مراد الله والإعراض عن دينه واعتقاد أنه قربة إلى الله فأين هذا من حظوظ أصحاب الشهوات المعترفين بذمها المستغفرين منها المقرين بنقصهم وعيبهم وأنها منافية للدين وهؤلاء في حظوظ اتخذوها دينا وقدموها على شرع الله ودينه واغتالوا بها القلوب واقتطعوها عن طريق الله فتولد من معقول أولئك وآراء الآخرين وأقيستهم الباطلة وأذواق هؤلاء خراب العالم وفساد الوجود وهدم قواعد الدين وتفاقم الأمر وكاد لولا أن الله ضمن أنه لا يزال يقوم به من يحفظه ويبين معالمه ويحميه من كيد من يكد.
النوع الثالث: الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة التي لأرباب الولايات التي قدموها على حكم الله ورسوله وحكموا بها بين عباده وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده.
فقال الأولون: إذا تعارض العقل والنقل: قدمنا العقل وقال الآخرون: إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس وقال أصحاب الذوق والكشف والوجد: إذا تعارض الذوق والوجد والكشف وظاهر الشرع: قدمنا الذوق والوجد والكشف.
وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه فهؤلاء يقولون: لكم النقل ولنا العقل والآخرون يقولون: أنتم أصحاب آثار وأخبار ونحن أصحاب أقيسة وآراء وأفكار وأولئك يقولون: أنتم أرباب الظاهر ونحن أهل الحقائق والآخرون يقولون: لكم الشرع ولنا السياسة.
فيا لها من بلية عمت فأعمت ورزية رمت فأصمت وفتنة دعت القلوب فأجابها كل قلب مفتون وأهوية عصفت فصمت منها الآذان وعميت منها العيون عطلت لها والله معالم الأحكام كما نفيت لها صفات ذي الجلال والإكرام واستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم وحكموا على الله وبين عباده بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم وصار لأجلها الوحي عرضة لكل تحريف وتأويل والدين وقفا على كل إفساد وتبديل النوع الرابع: الاعتراض على أفعاله وقضائه وقدره وهذا اعتراض الجهال وهو ما بين جلي وخفي وهو أنواع لا تحصى وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله لرأى ذلك في قلبه عيانا فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد والرضى كل الرضاء.
وأما نقض رعونة التعرض فيشير به إلى معنى آخر لا تتم المراقبة عنده إلا بنقضه وهو إحساس العبد بنفسه وخواطره وأفكاره حال المراقبة والحضور مع الله فإن ذلك تعرض منه لحجاب الحق له عن كمال الشهود لأن بقاء العبد مع مداركه وحواسه ومشاعره وأفكاره وخواطره عند الحضور والمشاهدة: هو تعرض للحجاب فينبغي أن تتخلص مراقبة نظر الحق إليك من هذه الآفات وذلك يحصل بالاستغراق في الذكر فتذهل به عن نفسك وعما منك لتكون بذلك متهيئا مستعدا للفناء عن وجودك وعن وجود كل ما سوى المذكور سبحانه وهذا التهيؤ والاستعداد: لا يكون إلا بنقض تلك الرعونة والذكر يوجب الغيبة عن الحس فمن كان ذاكرا لنظر الحق إليه من إقباله عليه ثم أحس بشيء من حديث نفسه وخواطره وأفكاره: فقد تعرض واستدعى عوالم نفسه واحتجاب المذكور عنه لأن حضرة الحق تعالى لا يكون فيها غيره.
وهذه الدرجة لا يقدر عليها العبد إلا بملكة قوية من الذكر وجمع القلب فيه بكليته على الله عز وجل.
فصل مراقبة الأزل:
قال: الدرجة الثالثة: مراقبة الأزل بمطالعة عين السبق استقبالا لعلم التوحيد ومراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد ومراقبة الإخلاص من ورطة المراقبة.
قوله: مراقبة الأزل أي شهود معنى الأزل وهو القدم الذي لا أول له بمطالعة عين السبق أي بشهود سبق الحق تعالى لكل ما سواه إذ هو الأول الذي ليس قبله شيء فمتى طالع العبد عين هذا السبق شهد معنى الأزل وعرف حقيقته فبدا له حينئذ علم التوحيد فاستقبله كما يستقبل أعلام البلد وأعلام الجيش ورفع له فشمر إليه وهو شهود انفراد الحق بأزليته وحده وأنه كان ولم يكن شيء غيره ألبتة وكل ما سواه فكائن بعد عدمه بتكوينه فإذا عدمت الكائنات من شهوده كما كانت معدومة في الأزل فطالع عين السبق وفني بشهود من لم يزل عن شهود من لم يكن فقد استقبل علم التوحيد وأما مراقبة ظهور إشارات الأزل على أحايين الأبد فقد تقدم أن ما يظهر في الأبد: هو عين ما كان معلوما في الأزل وأنه إنما تجددت أحايينه وهي أوقات ظهوره فقد ظهرت إشارات الأزل وهي ما يشير إليه العقل بالأزلية من المقدرات العلمية على أحايين الأبد هذا معناه الصحيح عندي والقوم يريدون به معنى آخر: وهو اتصال الأبد بالأزل في الشهود وذلك بأن يطوى بساط الكائنات عن شهوده طيا كليا ويشهد استمرار وجود الحق سبحانه وحده مجردا عن كل ما سواه فيصل بهذا الشهود الأزل بالأبد ويصيران شيئا واحدا وهو دوام وجوده سبحانه بقطع النظر عن كل حادث.