فصل: مطلب: رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مطلب: رفع الطور على بني إسرائيل وكيفية مسخهم قودة وخنازير:

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ} يا معشر اليهود وأعطيتمونا العهد على العمل بالتوراة، فنكثتم ونقضتم، ولما لم تمثلوا أمر رسولكم باتباع ما فيها وهددناكم بالعذاب الأخروي ولم تفعلوا، ولهذا فإنا سننزل بكم العذاب الدنيوي العاجل: {وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} حتى إذا لم تفعلوا بها أطبقناه عليكم، وها هو ذا فوقكم كالظلة: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ} فيها واعملوا به: {بِقُوَّةٍ} جد وعزيمة انقيادا لقوتنا البالغة: {وَاذْكُرُوا} اقرأوا وادرسوا واحفظوا: {ما فِيهِ} من الأحكام والحدود والأوامر والنواهي، ولا تنسوا شيئا منها: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سقوط جبل الطور عليكم.
فلما رأوه لا محالة واقعا بهم سجدوا وقبلوا الأخذ بما فيها، وصاروا يرمقون الجبل من طرف أعينهم وهم سجود خشية هبوطه عليهم، ولذلك يسجدون حتى الآن على أنصاف وجوههم، زاعمين أنه إنما رفع عنهم هبوط الجبل بمثله.
قال تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} الميثاق الذي أخذ منكم قهرا على القبول بأحكام التوراة وحدودها أعرضتم عن قبول ما فيها وأدبرتم وتركتم العمل بها، ولم تخشوا أن بوقع بكم ما رفعه عنكم أو ينزل بكم ما هو أعظم: {فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} بكم بتأخير العذاب وإمهالكم للتوبة: {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ} [64] بذهاب دينكم ودنياكم لأنكم غبنتم بضياع دنياكم سدى وسببتم لأنفسكم عذاب الآخرة اختيارا ورضاء.
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} إذ جاوزوا حدود اللّه فيه لإقدامهم على ما نهوا عنه فيه احتيالا على اللّه وخلافا لأمره: {فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ} [65] مبعدين مطرودين من رحمة اللّه، فكانوا، وحولت صورهم البديعة الإنسانية إلى صور قبيحة حيوانية: {فَجَعَلْناها} أي الفعلة التي أوقعناها بهم: {نَكالًا} عقوبة عظيمة وعبرة مؤثرة وعظمة بليغة: {لِما بَيْنَ يَدَيْها} الذين حضروها منهم: {وَما خَلْفَها} الذين يأتون بعدها من الأمم بتكرر السنين، إذ ينقلها السلف بصورة مستمرة إلى الخلف جيلا بعد جيل: {وَمَوْعِظَةً} جعلناها: {لِلْمُتَّقِينَ} [66] يتذكرون بها لأنها من أيام اللّه في عباده ومواقعه في بلاده، ويذكرون غيرهم بها ليعلموا كيفية فعلنا بهم.
وخلاصة هذه القصة أن اللّه حرم على اليهود صيد السمك يوم السبت، وقد ابتلاهم بأن ألهم السمك ذلك فصاروا يظهرون فيه عاثمين على وجه الماء، كما أخبر اللّه عنهم في الآية 162 من الأعراف، فسؤلت لهم أنفسهم أن حفروا حياضا كبارا قرب الشاطى، وشرعوا لها من البحر جداول يجري فيها الماء إليها فيفتحونها يوم الجمعة، ويبقونها حتى صباح الأحد، فيتسرب السمك إليها فيسدونها عليه من جهة البحر، فيبقى السمك عاثما فيها لا يستطيع الرجوع إلى البحر، وإذا هرب إلى البرّ مات، فيضطر للبقاء في الحياض، فيأتون ويأخذونه دون كلفة، وبهذه الصورة احتالوا على صيده، وذلك في زمن داود عليه السّلام، واستمروا على ذلك مدة، ولما رأوا أن اللّه لم يعاقبهم قالوا قد أحل لنا العمل في السبت، فصاروا يفعلون فيه كل شيء، وانقسم الناس ثلاثة أقسام قسم صاد واستحل السبت، وقسم امتنع وسكت، وقسم امتنع ونهى، ولكنه لم يؤثر فيهم، فغضب اللّه عليهم ولعنهم وفصل بينهم وبين الآخرين بجدار حتى لا يرونهم، فقصدوهم وتسوروا الجدار لينظروهم، فإذا هم ممسوخون قردة وخنازير يتعاوون، وبقوا ثلاثة أيام ثم هلكوا عن آخرهم، قالوا ولم يمكث مسخ بعد ثلاث، ولم يتوالد البتة، وكان زعمهم هذا بتأويل الجواز، ولم يعلموا أن اللّه تعالى لا تخفى عليه حالتهم ونيتهم، ولهذا البحث صلة في الآية 73 الآتية إن شاء اللّه، ولهذا حذرهم اللّه تعالى سوء صنيع أسلافهم، لئلا يصيبهم ما أصابهم بأن يجعلوا هذه الحادثة نصب أعينهم يتذكرون فيها.

.مطلب: ما قاله المراغي وقصة البقرة وإحياء الميت:

هذا والعجب كل العجب من أن سماحة الأستاذ المراغي بمصر العظيمة اعتبر هذا المسخ عند تفسير الآية 65 من سورة البقرة معنويا، مستدلا بما رواه ابن جرير عن مجاهد بأنه ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، وهو يعلم بأن ابن جرير ينقل الأقوال ثمّ يعلّق عليها، وقد بسط الموضوع بصورة لم تبق شكا في أن المسخ كان حقيقيا، على أن اللّه تعالى كرر هذه الحادثة في الآية 63 من سورة المائدة الآتية وأشار إليها في الآية 162 من الأعراف بصورة صريحة لا مجال للتأويل فيها، وعلى قوله يقال أيضا بأن رفع الجبل كان معنويا، وموت السبعين المختارين في الآية 155 من سورة الأعراف كان صوريا، وما ذكره اللّه عن موسى والخضر وقصة البقرة كان صوريا، فما أدري أستكثر على اللّه ذلك، كلا وحاشا، ولكن قد يكبو الجواد، وزلة الكبير كبيرة، ولا حول ولا قوة إلا باللّه.
قال تعالى: {وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وذلك أن رجلا فقيرا ذبح ابن عمه الغني ليستولي على ماله وألقاه في قرية أخرى وادعى لدى موسى عليه السلام بدمه عليهم ودفعوا دعواه ببراءتهم منه ولا بينة لديه سوى وجود جثته في قريتهم، فسأل موسى ربه فأمره أن يذبحوا بقرة ويضربوا المقتول ببعضها فإنه يحيا ويخبر بقاتله قالوا أي المتهمون بالقتل يا موسى ما جوابك بموافق للسؤال: {أَتَتَّخِذُنا هُزُوًا} نحن ندفع عن أنفسنا دعوى القتل وأنت تأمرنا بذبح بقرة؟ وذلك لعدم علمهم الحكمة من ذلك لما بين الأمرين من التفاوت: {قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} [67] الساخرين بكم وإني مثلكم في هذا ولكن اللّه أمرني به لإظهار أمر القتل الذي اتهمتم به، وهؤلاء كان عليهم أن يأتوا حالا بمطلق بقرة فيذبحوها، لأن موسى لم يعين لهم بقرة مخصوصة ولم يأمره اللّه بذلك ولكن شدّدوا فشدد اللّه عليهم: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} حقيقتها وكم سنها: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَة لا فارِض} الفارض المسنة التي لم تلد أي لا كبيرة: {وَلا بِكْر} البكر الفتية التي لم تكن أهلا للولادة أي صغيرة: {عَوان} العوان النصف والوسط والتي نتجت بعد بطنها البكر من الخيل والبقر ومن النساء التي كان لها زوج ثمّ بين المراد بقوله عوان: {بَيْنَ ذلِكَ} بين المسنة والبكر: {فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ} ولا تكثروا السؤال عما لا يعني، فلم يكتفوا بذلك: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَة صَفْراءُ فاقِع} شديد الصفرة كما تقول أسود حالك وأبيض أنق وأزرق صاف وأخضر أدهم أي: {لَوْنُها} اصفر جدا: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [69] رؤيتها لحسنها وتعجبهم بهجتها فيظهر على وجه ناظرها السرور: {قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ} أسائمة أم عامله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [70] لما تأمرنا به: {قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَة لا ذَلُول} ليست مذالة بالعمل: {تُثِيرُ الْأَرْضَ} تحرثها للزراعة: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} ليست بساقية يستقى عليها الماء من البئر وغيره: {مُسَلَّمَة} من كل عيب: {لا شِيَةَ فِيها} لا علامة ولون آخر من أبيض أو أسود أو غيره: {قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} البيان الشافي الذي لا إشكال فيه فصاروا يطلبون بقرة متصفة بما ذكر فلم يجدوا إلا واحدة عند غلام يتيم فكان هذا السؤال منهم لحكمة أرادها اللّه تعالى أيضا وهي أن رجلا صالحا عنده غلام صغير وعجلة صغيرة فتركها في غيضة وقال استودعنك يا رب هذه العجلة لا بني ثمّ مات، ونشأ الغلام صالحا مرضيا لأمه فقالت له يا بني إن أباك استودع ربك عجلة في الغيضة الحرج فاذهب وأت بها وعلامتها أنك إذا رأيتها يتخيل لك شعاع الشمس يخرج من جلدها فذهب فرآها فقال أعزم عليك برب إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلا أقبلت إلي فأقبلت فأخذها، وكان الناس عند ما يرونها يسمونها المذهبة فلما أتى بها إلى أمه قالت اذهب وبعها بثلاثة دنانير ولا تطلق بيعها إلا برأيي فأخذها إلى السوق فأرسل اللّه ملكا بصورة إنسان وأعطاه بها ثلاثة دنانير فباعها له على رضاء أمه، فقال له الملك أعطك ستة دنانير وبعينها دون مشورة أمك، قال لو وزنتها بالذهب لا أبيعها إلا برضاء أمي، فرجع فأخبر أمه، فقالت بعها بستة على رأيي، فرجع بها إلى السوق فجاءه الملك فقال بعتها لك بستة على رأي أمي، فقال أعطيك اثني عشر ولا تستأذن أمك، فقال مقالته الأولى، ورجع فأخبر أمه، فقالت بعها باثني عشر برأيي، ثم انثنت وقالت قد وقع في روعي أنّ الذي يأتيك ملك، فقل له أتأمرني أبيعها أم لا؟ فذهب وأخبره بما قالت أمه، فقال قل لأمك أمسكيها فإن موسى ابن عمران سيشتر بها بملء مسكها جلدها ذهبا، فرجع وأخبر أمه بما قال، واحتفظت بها ولما لم يجد أهل القرية بقرة موصوفة بما ذكر موسى إلا هذه أخذوها منه بوزن جلدها ذهبا، وأحضروها لموسى: {فَذَبَحُوها} بأمره بقصد براءة ذمتهم من جرم القتل: {وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [71] شراءها وذبحها لغلاء ثمنها ولكنهم اضطروا لذلك لبراءتهم، قال تعالى خطابا للمتخاصمين: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيها} اختلفتم وتدافعتم بسببها، لأن رب القتيل يسن قتل قريبه إليهم وهم ينكرون، وبعد أن قمتم بما أمرتم فاتركوا المخاصمة الآن: {وَاللَّهُ مُخْرِج ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [72] من أمر القتل لأنه سيفضح الأمر، قال تعالى: {فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها} فأخذوا لسانها فضربوا به القتيل فحيي وقال قتلني ابن عمي المدعي المذكور، فظهرت براءة أهل القرية وكذب المدعي فحرمه موسى من إرثه كله وأوقع عليه القصاص.
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر ما ورث قاتل بعد صاحب البقرة، وهذا مما هو موافق لشرعنا الذي جاء به خاتم الرسل من حرمان القاتل ميراث مقتوله: {كَذلِكَ} كما أحيا اللّه هذا الميت: {يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى} يوم القيامة فلا تستبعدوا على اللّه شيئا أيها المنكرون البعث: {وَيُرِيكُمْ آياتِهِ} هذه وأشباهها: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [73] معانيها فتدبرونها وتستدلون بها على غيرها، هذا وإنما لم يقدم قصة القتيل على قصة البقرة لئلا تكون واحدة ويذهب الغرض من تقريعهم على قتل النفس المحرمة وعلى ترك المسارعة إلى امتثال الأمر بذبح البقرة.
وفائدة الضرب المأمور به في هذه الآية الكريمة مع أن اللّه تعالى قادر على إحيائه دون ضربه ودون ذبح البقرة، لئلا يتوهموا بأن موسى أحياء بضرب من السحر الذي اتهموه به أو بالحيلة التي يزعمونها.
وإنما كانت بقرة ولم تكن شاة لأنها أعظم القرابين عندهم، وقد جرت عادتهم أن يتقربوا إلى اللّه بمثلها، ولحصول المال العظيم لصاحبها ابن الرجل الصالح، ولأنها كانت وديعة اللّه.
هذا وهل يستطيع الأستاذ المراغي أن يقول أن هذه القصة معنوية، وهل قصة عزيز وقصة إبراهيم الآتيتين في الآية 258 فما بعدها وغيرهما مما لا يعد، صورية، رحمه اللّه لا نعلم ماذا أراد بجرأته هذه؟ تجاوز اللّه عنه.
الحكم الشرعي:
في مثل هذه الحادثة إذا وجد قتيل في قرية أو محلة ولم يعرف القاتل ولا بينة على القتل ولم يعلم الذي رماه فيها، فإن الإمام يختار خمسين رجلا من صلحاء القرية أو المحلة برأيه أو برأي ولي المقتول ويحلف كل منهم فيقول واللّه ما قتلته ولا أعلم له قاتلا، فإن حلفوا لا يقتصّ منهم ولكن تؤخذ دية القتيل من أهل القرية أو المحلة كافة، وإن كان في الطريق العام كانت ديته على بيت المال، لأن السلطان مكلف بأمن الطريق.
قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ} البرهان العظيم وهو إحياء الميت وإخباره عن قاتله وانتزعت منكم لرحمة وتلطختم بأدران الذنوب، فغلفّت وتكاثف صدأها: {فَهِيَ كَالْحِجارَةِ} في صابتها: {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} منها، لم قل كالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنه يلين بالنار لكل أحد، وقد لان لداود عليه السّلام بغيرها، والحجارة غير قابلة للتلبين وقد تصير ترابا بالحرق لكنها لا تلين أبدا: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ} فهي أفضل إذا من القلب القاسي ويرجى منها الفائدة بخلافه: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ} كالعيون التي هي دون الأنهار: {وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} أي ينزل بسرعة من قمة الجبل إلى أسفله انقيادا لأمر اللّه تعالى وهو قادر علي إفهامها.
روى مسلم عن جابر بن سمرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث، وإني لأعرفه الآن.
أي وإن قلوبكم يا بني إسرائيل لا تخشى ولا تلين ولا تعقل قول المرسلين، فاعملوا ما شئتم: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [74] في الدنيا من الشرور.

.مطلب: مثالب بني إسرائيل وتحويفهم كلام اللّه ونقضهم عهوده:

وفي هذه الآية توبيخ على أفعالهم القبيحة الماضية وتهديد ليكف عنها أهل زمنه ولا يقدم على مثلها في المستقبل أبناؤهم.
قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ} يا سيد الرسل وإنما خاطبه بلفظ الجمع تعظيما له وتكريما لشائة لأنه هو الداعي للإيمان باللّه وحده: {أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} هؤلاء اليهود وقد سمعتم ما وقع منهم تجاه نبيّهم: {وَقَدْ كانَ فَرِيق مِنْهُمْ} أي من آبائهم مع موسى عليه السّلام يوم الميقات: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ} معه وبعده كانوا يسمعون التوراة التي هي كلام اللّه من موسى عليه السّلام نفسه: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} يغيرونه ويبدلونه: {مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ} وعوه وفهموه إذ قالوا لموسى سمعنا اللّه يقول إن تفعلوا فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فخالفوه عمدا: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [75] أن اللّه تعالى لم يقل ذلك ويعلمون أنهم اختلفوه من أنفسهم فإذا حرفوا نعتك الموجود في التوراة الذي سمعه أسلافهم من موسى عليه السّلام فقالوا غير الواقع فليس بشيء عندهم أن يكذبوا عليك بعد أن كذبوا على اللّه تعالى: {وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} بك: {قالُوا آمَنَّا} بما آمنتم به يا أصحاب محمد وقد علمنا أن صاحبكم صادق ونعته موجود عندنا في التوراة كما هو عليه الآن، ولا تكرار هنا لأن الآية الأولى بحق المنافقين، وهذه بحق اليهود فقط: {وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا} أي رؤساؤهم الذين نزلت بحقهم هذه الآيات وهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد ووهب بن يهودا وأضرابهم إلى منافقيهم: {أتُحَدِّثُونَهُمْ} كيف تحدثونهم: {بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} في كتابكم من وصف محمد وتخبرون أصحابه بأنه حق: {لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ} بما تحدثونهم: {عِنْدَ رَبِّكُمْ} في الآخرة كما يخاصمونكم به في الدنيا: {أفَلا تَعْقِلُونَ} [71] أن تصديقكم لهم يكون حجة عليكم فيحق عليكم القول باعترافكم، فيا سيد الرسل قل لهم: {أوَلا يَعْلَمُونَ} هؤلاء: {أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ} [77] من أقوالهم وأفعالهم وأنه يخبر نبيه بها أفلا ينتهون عن مثل هذه الأعمال وهم يعلمون أن اللّه يفضحهم كما فضحهم في مواقع كثيرة.
ثم طفق يعده مثالبهم فقال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ} جمع أمنية أي تلاوة مجردة، وكلمة تمنى تأتي بمعنى تلا كما في قوله:
تمنى كتاب اللّه أول ليلة ** تمني داود الزبور على رسل

وهي في الأصل بمعنى الأكاذيب: {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [78] لا يدرون ما هو الكتاب: {فَوَيْل لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ} قال بأيديهم مع أن الكتابة لا تكون بغيرها تأكيدا لنفي احتمال أمرهم غيرهم بها ولعلمه أن ستكون الكتابة بالآلة، وهذا ما يؤيد ما ذكرناه في الآية 48 من سورة العنكبوت، على أنه صلّى اللّه عليه وسلم لا يكتب: {ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} بلا خجل ولا حياء افتراء على اللّه، وذلك أنهم حرفوا صفة الرسول فكتبوا أنه طوال أزرق العينين سبط الشعر، بدل ما هو مكتوب في الأصل بأنه ربعة أكحل العينين حسن الشعر حسن الوجه، وصاروا إذا سئلوا عن صفته تلوا على السائل ما كتبوه وكتموا ما هو الواقع عند اللّه ومثبت في التوراة، وذلك ليس إلا: {لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} من جهلتهم وسفلتهم: {فَوَيْل لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْل لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [79] من الجعل الذي يأخذونه من عوامهم على تبديلهم كلام اللّه وافترائهم عليهم: {وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} بقدر مدة عبادتهم العجل وهي عشرة أيام على ما قيل: {قُلْ} لهم يا خاتم الرسل: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا} على هذا وتمسكتم به: {فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ} حتى قلتم هذا من حيث لم تأخذوا به عهدا من اللّه: {أَمْ تَقُولُونَ} كذبا من عند أنفسكم: {عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ} [80] بهتا وافتراء عليه ورجما بالغيب.
{بَلى} تمسكم النار حتما إن بقيتم على كفركم، لأن: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} بأن مات مصرا عليها وهي لعظمها محيقة به من كل أطرافه: {فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} [81] لا يخرجون منها أبدا.
وأعلم أنه يوجد في القرآن ثماني آيات مبدوءة بلفظ بلى هذه والآية [111] الآتية والآيتين [75: 125 من آل عمران] الآتية والآية 81 من سورة يس و[14 من سورة القيامة] و[59 من الزمر] و[15 من الانشقاق]، أما الآيات المبدوءة بالباء فهي [55] آية.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)} قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ} في التوراة: {لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ} وحده: {وَبِالْوالِدَيْنِ} أحسنوا: {إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ} أحسنوا إليهم لخلوهم عمن يقوم بمعاشهم ومصالحهم وأخر المساكين لأنهم دون اليتامى القاصرين عن درجة البلوغ لأنهم يقدرون على أن ينتفعوا بأنفسهم في الجملة ويقدرون على نفع غيرهم بالخدمة كما قدم ذا القربى لأنهم أقدم والشفقة عليهم أعظم أجرا منها على غيرهم: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} عاملوهم بالمعروف وعاشروهم باللطف وألينوا لهم القول واخفضوا لهم الجانب وأحسنوا أخلاقكم معهم: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} وقد عدل في هذه الأوامر الثلاثة الأخيرة من الغيبة إلى الخطاب، وهي تتمة التكاليف الثمانية التي أمروا بها بالتوراة إيذانا بأمرهم بها، لأن الأول قوام الأخلاق، والأخير ملاك الدين وإعلاما بعدم قيامهم بها بدليل قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} عن القيام بهذه العهود وأعرضتم: {إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ} أخذوا بها ولم يعرضوا عنها: {وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} حتى الآن أيها المخاطبون كإعراض الأكثر من آبائكم، وذكرنا في الآية 151 من الأعراف والآية 15 من الإسراء ما يتعلق بآيات بني إسرائيل والوصايا التي أنزلت عليهم ليعلموا بها بصورة مفصلة في الآية 151 من الأنعام: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ} أيها الإسرائيليون: {دِماءَكُمْ} بأن يقتل بعضكم بعضا: {وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ} أي لا يخرج أحدكم الآخر من داره وبلده: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} بهذا العهد وتعهدتم بإنقاذه.
{وَأَنْتُمْ} أيها الحاضرون الآن: {تَشْهَدُونَ} على أحقية ذلك ووجوب الوفاء به كما شهد من قبلكم به لأنه مدون في كتابكم ولكنكم تفعلون بخلافه كالذين من قبلكم لقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ} المخاطبون: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ} الآن كأن هذا العهد لم يؤخذ عليكم ولم تتعهدوا به وها انكم: {تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} وتتعاونون على ظلمهم: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ} بمالكم وتنقذونهم من أيدي أعدائهم: {وَهُوَ مُحَرَّم عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ} كما هو محرم عليكم قتلهم وعدم معاونتهم فهذه أربعة عهود نقضتموها باختياركم جرأة على اللّه وهي ترك القتل وترك الإخراج وترك المظاهرة ولك الأسرى وتمسكتم بغيرها: {أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ} فتوقنون ببعض ما عاهدتم اللّه عليه وهو فداء الأسرى: {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} وهو القتل والإخراج وعدم التعاون: {فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ} أيها اليهود على هذه المخالفات: {إِلَّا خِزْي فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} وهوان وذلة ومسكنة فيها: {وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ} الذي لا تطيقه الرواسي ولا مخلص لكم منه: {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بل محصيه عليكم ومجازيكم به لا محالة: {أُولئِكَ} الذين هذه صفاتهم وتلك حالتهم هم: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ} بمقابل ثمن بخس فان: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ} يوم القيامة: {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} فيها.
وسبب نزول هذه الآيات هو أن بني قريظة حلفاء الأوس وبني النضير حلفاء الخزرج كان بينهما عداوة قديمة وكانا يحاربان مع حلفائهم فإذا غلب أحد الفريقين خربوا ديارهم وأخرجوهم منها، وكانوا إذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له مالا وفدوه به، فعيرتهم العرب كيف يقتلونهم ثم يفدونهم، فيقولون أمرنا اللّه بأن نفديهم، فقال لهم العرب كيف إذا تقاتلونهم، قالوا نستحي أن تذل حلفاؤنا، فعيرهم اللّه تعالى فيما أنزله على رسوله في هذه الآيات، وأخزى بني قريظة بالقتل والأسر والسبي، وبني النضير بالإجلاء عن منازلهم إلى أريحا وأذرعات من أرض الشام كما سيأتي تفصيله في سورة الحشر الآتية.
قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا} اتبعنا: {مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} واحدا تلو الآخر، فبعد موسى يوشع، لأن هرون توفي قبله، ثم شمويل، فداود، فسليمان، فأرميا، فحزقيل، فالياس، فاليسع، فزكريا، فيحيى، وكل هؤلاء وما بينهم ممن لم يقص اللّه علينا أسماءهم وأقوامهم شريعتهم التوراة، ولما بعث عيسى بن مريم وأنزل اللّه عليه الإنجيل عدل بعض أحكامها وصار عمل عيسى ومن بعده بالتوراة والإنجيل معا، ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} الموضحة لأحكام التوراة والمعجزات الظاهرات التي لا تقبل التأويل كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وشفاء المرضى: {وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، وقد أمر أن يكون معه من حين ولادته إلى وقت رفعه، وهذا هو معنى التأييد، وما قاله بعض المفسرين إن المزاد به الإنجيل لأن فيه حياة الأرواح كالقرآن بعيد عن المراد، وإن كان الإنجيل كذلك، لمخالفته للظاهر الذي هو الحقيقة، فالعدول عنها إلى المجاز دون صارف لا وجه له، وقد صرح اللّه تعالى بإتيانه بالإنجيل بآيات كثيرة عدا هذه كما صرح بالتوراة لموسى ثمّ ذكر آياته كاليد والعصا وبعض معجزاته الأخرى، وروح القدس أطلق على سيدنا جبريل بمواقع متعددة حتى صار كأنه علما له، أما لفظ الروح فقط فيطلق على القرآن وعلى التوراة وعلى الإنجيل بذلك المعنى وعلى نوع خاص من الملائكة كما مر في الآية 38 من سورة الأنبياء: {أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُول} أيها اليهود: {بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ} من الأمور: {اسْتَكْبَرْتُمْ} عنه وخالفتموه تبعا لهواكم: {فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ} مثل عيسى قبلا ومحمد الآن: {وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [87] كزكريا ويحيى ومن تقدمهما: {وَقالُوا} هؤلاء اليهود: {قُلُوبُنا غُلْف} خلقة مغشاة بأغطية لا يصل إليها ما جاء به محمد فأكذبهم اللّه بقوله ليست كذلك: {بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ} طردهم وأقصاهم من رحمته بسبب كفرهم: {فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ} [88] منهم بمحمد صلّى اللّه عليه وسلم، والأكثر الذين يكفرون به: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتاب مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّق لِما مَعَهُمْ} من التوراة نبوة محمد صلّى اللّه عليه وسلم: {وَكانُوا مِنْ قَبْلُ} قبل نزوله وبعثة محمد: {يَسْتَفْتِحُونَ} يستنصرون به: {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} من مشركي العرب وغيرهم، إذ كانوا يقولون عند الشدة اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي وصفته لنا في التوراة فكان يستجاب لهم وينصرون على أعدائهم، وكانوا يقولون للمشركين قد أطل زمان نبي يخرج بتصديق ما نحن عليه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فأكذبهم اللّه تعالى إذ لم يوفوا بقولهم هذا لقوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا} وهو محمّد صلّى اللّه عليه وسلم: {كَفَرُوا بِهِ} بغيا وحسدا لأنه ليس منهم: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ} بما في كتب اللّه الجاحدين لرسله: {بِئْسَمَا} قبح شيء: {اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} على رسوله من القرآن بأن استبدلوا الباطل بالحق: {بَغْيًا} وعدوانا وإنكارا من: {أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} كمحمد مثلا حسدا وطلبا لما ليس لهم، ولأنه ليس منهم: {فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ} لأنهم ضيعوا التوراة إذ لم يأخذوا بما فيها، وكفروا بمحمد والقرآن أيضا، أي أنهم رجعوا بغضب كثير، لأن المراد به الترادف والتكاثر لا غضبان فقط، وعلى هذا قوله:
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته ** ولكنه رمح وثان وثالث

أي رماح كثيرة: {وَلِلْكافِرِينَ عَذاب مُهِين} [90] عند اللّه في الآخرة، وهذه الآية بلفظها هذا لم تكرر في القرآن.
قال تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} القرآن فما قبله: {قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} أي التوراة فقط مع أنهم لم يؤمنوا بها لجحدهم ما جاء فيها من لزوم الإيمان بالرسول محمد: {وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ} أي الكتاب العظيم الذي أنزل بعد كتابهم والرسول الكريم الذي أرسل بعد رسولهم أي الإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد: {وَهُوَ الْحَقُّ} لأن كلا جاء: {مُصَدِّقًا لِما مَعَهُمْ} من الكتاب العظيم الصحيح: {قُلْ} لهم يا سيد الرسل إذا كنتم تؤمنون بما أنزل إليكم: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه وسلم ونزول كتابه ومن قبل مولد عيسى ونزول كتابه إلينا: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [91] بالتوراة، لأنها تمنع من معارضة الأنبياء ولو قولا، فضلا عن القتل، وتأمر باتباعهم ولم تتبعوهم.
هذا، وقد أضاف اللّه تعالى ما فعله آباؤهم إليهم لرضاهم به، والراضي بالشيء كفاعله، ولأنهم أنفسهم مصرون على ما فعله أسلافهم بيحيى وعيسى ومحبذون له.
قال تعالى: {وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ} حينما ذهب لميقات ربه ليأتيكم بالتوراة: {وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ} [92] كرره تأكيدا لإيقاع الحجة عليهم وتبكيتا بهم وتقريعا: {وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} وقلنا لكم: {خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ} كرره أيضا لتلك الغاية بزيادة قوله: {وَاسْمَعُوا} سماع قبول وطاعة لما تؤمرون به.
ونظير هاتين الآيتين الآيتان المارتين 51 و67.
قال تعالى حاكيا عنادهم: {قالُوا سَمِعْنا} قولك: {وَعَصَيْنا} أمرك ولو لا مخافة هبوط الجبل علينا لما سجدنا: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} بأن تداخل حبه وتغلغل في قلوبهم فاندمج فيها، والأصل حب العجل وقد حذف إيجازا والحذف في مثله كثير في القرآن لأنه من أنواع البديع، وعبر بالشرب لأن من أراد حصر الحب أو البغض استعار له اسم الشراب لأنه أبلغ مساغا في البدن، ولهذا قال الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية.
وكان شدة حبهم العجل: {بِكُفْرِهِمْ} بسببه حرصا على عبادته: {قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ} الذي تزعمونه إشارة إلى قولهم: {نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا} والمخصوص بالذم ما تقدم من قولهم: {سَمِعْنا وَعَصَيْنا} وعبادة العجل، وفي إسناد الأمر إلى الإيمان تهكم بهم، وفي إضافة الإيمان إليهم إيذان بأنه ليس بإيمان حقيقة ينبيء عنه قوله جل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [93] لأن حرف إِنْ يؤذن بالشك ويدل على عدم الوقوع غالبا وهو تكذيب لهم من اللّه بدعواهم الإيمان، أي لو كنتم مؤمنين ما فعلتم: {قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ} كما تزعمون وهذا إشارة لقولهم: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى} في [الآية: 111] الآتية، ولقولهم: {نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} الآية: 21 من المائدة الآتية بما يدل على أنهما نزلنا قبل هذه الآيات، أي إذا كنتم كما تزعمون من خلوص الدار الباقية لكم: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [94] لأن من علم أن الجنة مأواه أحب الإسراع إليها تخلصا من هذه الدار الكدرة النكدة الفانية وتوصلا إلى السعادة الأبدية الهنية، قال تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} لعلمهم كذب ادعائهم بذلك: {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} من القبائح، وخص اليد دون بقية الجوارح لأن مبدأ أكبر جنايات الإنسان من يده: {وَاللَّهُ عَلِيم بِالظَّالِمِينَ} [95] حال إيقاعهم الظلم وقبله، وصفهم بالظلم لأنه أعم من الكفر فكل كافر ظالم ولا عكس.