فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

والمراد بإيتاء أموالهم تركها سالمة غير متعرض لها بسوء فهو مجاز مستعمل في لازم معناه لأنها لا تؤتى إلا إذا كانت كذلك، والنكتة في هذا التعبير الإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الغرض من ترك التعرض إيصال الأموال إلى من ذكر لا مجرد ترك التعرض لها، وعلى هذا يصح أن يراد باليتامى الصغار على ما هو المتبادر، والأمر خاص بمن يتولى أمرهم من الأولياء والأوصياء، وشمول حكمه لأولياء من كان بالغًا عند نزول الآية بطريق الدلالة دون العبارة، ويصح أن يراد من جرى عليه اليتم في الجملة مجازًا أعم من أن يكون كذلك عند النزول، أو بالغًا فالأمر شامل لأولياء الفريقين صيغة موجب عليهم ما ذكر من كف الكف عنها، وعدم فك الفك لأكلها، وأما وجوب الدفع إلى الكبار فمستفاد مما سيأتي من الأمر به، وقيل: المراد من الإيتاء الإعطاء بالفعل، واليتامى إما بمعناه اللغوي الأصلي فهو حقيقة وارد على أصل اللغة، وإما مجاز باعتبار ما كان أوثر لقرب العهد بالصغر، والإشارة إلى وجوب المسارعة إلى دفع أموالهم إليهم حتى كأن اسم اليتيم باق بعد غير زائل، وهذا المعنى يسمى في الأصول بإشارة النص، وهو أن يساق الكلام لمعنى ويضمن معنى آخر، وهذا في الكون نظير المشارفة في الأول، وقيل: يجوز أن يراد باليتامى الصغار، ولا مجاز بأن يجعل الحكم مقيدا كأنه قيل: وآتوهم إذا بلغوا، وردّ بأنه قال في التلويح: إن المراد من قوله تعالى: {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} وقت البلوغ باعتبار ما كان، فإن العبرة بحال النسبة لا بحال التكلم، فالورود للبلغ على كل حال.
وقال بعض المحققين: تقدير القيد لا يغني عن التجوز إذ الحكم على ما عبر عنه بالصفة يوجب اتصافه بالوصف حين تعلق الوصف وحين تعلق الإيتاء به يكون يتيمًا فلابد من التأويل بما مر، وأجيب بأن هذه المسألة وإن كانت مذكورة في التلويح لكنها ليست مُسلَّمة، وقد تردد فيها الشريف في حواشيه، والتحقيق أن في مثل ذلك نسبتين: نسبة بين الشرط والجزاء وهي التعليقية وهي واقعة الآن، ولا تتوقف على وجودهما في الخارج، ونسبة إسنادية في كل من الطرفين وهي غير واقعة في الحال بل مستقبلة والمقصود الأولى، وفي زمان تلك النسبة كانوا يتامى حقيقة، ألا تراهم قالوا في نحو عصرت هذا الخل في السنة الماضية أنه حقيقة؟ مع أنه في حال العصر عصير لا خل لأن المقصود النسبة التي هي تبعية فيما بين اسم الإشارة وتابعه لا النسبة الإيقاعية بينه وبين العصر كما حققه بعض الفضلاء وقد مرت الإشارة إليه في أوائل البقرة فتأمله فإنه دقيق.
وقيل: المراد من الإيتاء ما هو أعم من الإيتاء حالًا أو مآلًا، ومن اليتامى ما يعم الصغار والكبار بطريق التغليب، والخطاب عام لأولياء الفريقين على أن من بلغ منهم فوليه مأمور بالدفع إليه بالفعل وإن من لم يبلغ بعد فوليه مأمور بالدفع إليه عند بلوغه رشيدًا، ورجح غير واحد الوجه الأول لقوله تعالى بعد آيات: {وابتلوا اليتامى} [النساء: 6] إلخ فإنه كالدليل على أن الآية الأولى: في الحض على حفظها لهم ليؤتوها عند بلوغهم ورشدهم، والثانية: في الحض على الإيتاء الحقيقي عند حصول البلوغ والرشد، ويلوح بذلك التعبير بالإيتاء هنا وبالدفع هناك، وأيضًا تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} يقوي ذلك، فهذا كله تأديب للوصي ما دام المال بيده واليتيم في حجره، وأما على سائر الوجوه فيكون مؤدى هذه الآية وما سيأتي بعد كالشيء الواحد من حيث إن فيهما الأمر بالإيتاء حقيقة، ومن قال بذلك جعل الأولى كالمجملة والثانية كالمبينة لشرط الإيتاء من البلوغ وإيناس الرشد، ويرد على آخر الوجوه أيضًا أن فيه تكلفًا لا يخفى، ولا يرد على الوجه الراجح أن ابن أبي حاتم أخرج عن سعيد بن جبير أن رجلًا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت {وَءاتُواْ اليتامى} إلخ، فإن ذلك يدل على أن المراد بالإيتاء الإعطاء بالفعل لاسيما وقد روى الثعلبي، والواحدي عن مقاتل، والكلبي أن العمّ لما سمعها قال: أطعنا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم نعوذ بالله عز وجل من الحوب الكبير لما أنهم قالوا: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص لسبب، ولعل العمّ لم يفهم الأمر بالإعطاء حقيقة بطريق العبارة بل بشيء آخر فقال ما قال، هذا وتبدل الشيء بالشيء واستبداله به أخذ الأول بدل الثاني بعد أن كان حاصلًا له أو في شرف الحصول يستعملان أبدًا بإفضائهما إلى الحاصل بأنفسهما وإلى الزائل بالباء كما في قوله تعالى: {وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان} [البقرة: 108] إلخ، وقوله سبحانه: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذى هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] وأما التبديل فيستعمل تارة كذلك كما في قوله تعالى: {وبدلناهم بجناتهم جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] إلخ، وأخرى بالعكس كما في قولك: بدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وجعلته حلقة، واقتصر الدميري على الأول، ونقل الأزهري عن ثعلب الثاني، ويشهد له قول الطفيل لما أسلم:
وبدل طالعي نحسي بسعدي

وتارة أخرى بإفضائه إلى مفعوليه بنفسه كما في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات} [الفرقان: 70] {فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مّنْهُ} [الكهف: 81] بمعنى يجعل الحسنات بدل السيئات ويعطيهما بدل ما كان لهما خيرًا منه، ومرة يتعدى إلى مفعول واحد مثل بدلت الشيء أي غيرته، وقوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا مَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وذكر الطيبي أن معنى التبديل التغيير وهو عام في أخذ شيء وإعطاء شيء، وفي طلب ما ليس عنده وترك ما عنده، وهذا معنى قول الجوهري: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدل، ومعنى التبدل الاستبدال، والاستبدال طلب البدل فكل تبدل تبديل وليس كل تبديل تبدلًا، وفرق بعضهم بين التبديل والإبدال بأن الأول تغيير الشيء مع بقاء عينه والثاني رفع الشيء ووضع غيره مكانه فيقال: أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه وقد أطالوا الكلام في هذا المقام وفيما ذكر كفاية لما نحن بصدده.
والمراد بالخبيث والطيب إما الحرام والحلال، والمعنى لا تستبدلوا أموال اليتامى بأموالكم أو لا تذروا أموالكم الحلال وتأكلوا الحرام من أموالهم فالمنهي عنه استبدال مال اليتيم بمال أنفسهم مطلقًا، أو أكل ماله مكان مالهم المحقق أو المقدر، وإلى الأول ذهب الفراء والزجاج، وقيل: المعنى لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال مال اليتيم بالأمر الطيب وهو حفظ ذلك المال وأيًا مّا كان فالتعبير عن ذلك بالخبيث والطيب للتنفير عما أخذوه والترغيب فيما أعطوه وإما الرديء والجيد، ومورد النهي حينئذ ما كان الأوصياء عليه من أخذ الجيد من مال اليتيم وإعطاء الرديء من مال أنفسهم، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ويجعل في مكانها الشاة المهزولة، ويقول: شاة بشاة، ويأخذ الدرهم الجيد ويضع مكانه الزائف، ويقول: درهم بدرهم وإلى هذا ذهب النخعي والزهري وابن المسيب؛ وتخصيص هذه المعاملة بالنهي لخروجها مخرج العادة لا لإباحة ما عداها فلا مفهوم لانخرام شرطه عنه القائل به.
واعترض هذا بأن المناسب حينئذ التبديل أو تبدل الطيب بالخبيث على ما يقتضيه الكلام السابق.
وأجيب بأنه إذا أعطى الوصي رديئًا وأخذ جيدًا من مال اليتيم يصدق عليه أنه تبدل الرديء بالجيد لليتيم وبدل لنفسه، وظاهر الآية أنه أريد التبدل لليتيم لأن الأوصياء هم المتصرفون في أموال اليتامى فنهوا عن بيع بوكس من أنفسهم ومن غيرهم وما ضاهاه، ولا يضر تبدل لنفسه أيضًا باعتبار آخر لأن المتبادر إلى الفهم النهي عن تصرف لأجل اليتيم ضار سواء عامل الوصي نفسه أو غيره، ومن غفل عن اختلاف الاعتبار كالزمخشري أول بما لا إشعار للفظ به، وعلى العلات المراد من الآية النهي عن أخذ مال اليتيم على الوجه المخصوص بعد النهي الضمني عن أخذه على الإطلاق، والمراد من الأكل في النهي الأخير مطلق الانتفاع والتصرف، وعبر بذلك عنه لأنه أغلب أحواله، والمعنى لا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم أي تنفقوهما معًا ولا تسووا بينهما، وهذا حلال وذاك حرام، فإلى متعلقة بمقدر يتعدى بها، وقد وقع حالًا، وقدره أبو البقاء مضافة، ويجوز تعلقها بالأكل على تضمينه معنى الضم، واختار بعضهم كونها بمعنى مع كما في الذود إلى الذود إبل، والمراد بالمعية مجرد التسوية بين المالين في الانتفاع أعم من أن يكون على الانفراد، أو مع أموالهم، ويفهم من [الكشاف] أن المعية تدل على غاية قبح فعلهم حيث أكلوا أموالهم مع الغنى عنها، وفي ذلك تشهير لهم بما كانوا يصنعون فلا يلزم القائل بمفهوم المخالفة جواز أكل أموالهم وحدها، ويندفع السؤال بذلك.
وأنت تعلم أن السؤال لا يرد ليحتاج إلى الجواب إذا فسر تبدل الخبيث بالطيب باستبدال أموال اليتامى بماله وأكلها مكانه لأنه حينئذ يكون ذلك نهيًا عن أكلها وحدها وهذا عن ضمها، وليس الأول مطلقًا حتى يرد سؤال بأنه أي فائدة في هذا بعد ورود النهي المطلق، وفي [الكشف] لو حمل الانتهاء في إلى على أصله على أن النهي عن أكلها مع بقاء مالهم لأن أموالهم جعلت غاية لحصلت المبالغة، والتخلص عن الاعتذار، وظاهر هذا النهي عدم جواز أكل شيء من أموال اليتامى وقد خص من ذلك مقدار أجر المثل عند كون الولي فقيرًا، وكون ذلك من مال اليتيم مما لا يكاد يخفى، فالقول بأنه لا حاجة إلى التخصيص لأن ما يأخذه الأولياء من الأجرة فهو ما لهم وليس أكله أكل مالهم مع مالهم لا يخلو عن خفاء. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى عرف الخلق بعد ذلك أن أكل مال اليتيم من جميع الجهات المحرمة إثم عظيم فقال: {إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} قال الواحدي رحمه الله: الكناية تعود إلى الأكل، وذلك لأن قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ} دل على الأكل والحوب الإثم الكبير.
قال عليه الصلاة والسلام: «إن طلاق أم أيوب لحوب» وكذلك الحوب والحاب ثلاث لغات في الاسم والمصدر قال الفراء: الحوب لأهل الحجاز، والحاب لتميم، ومعناه الإثم قال عليه الصلاة والسلام: «رب تقبل توبتي واغسل حوبتي» قال صاحب الكشاف: الحوب والحاب كالقول والقال.
قال القفال: وكأن أصل الكلمة من التحوب وهو التوجع، فالحوب هو ارتكاب ما يتوجع المرتكب منه، وقال البصريون: الحوب بفتح الحاء مصدر، والحوب بالضم الاسم، والحوبة، المرة الواحدة، ثم يدخل بعضها في البعض كالكلام فإنه اسم، ثم يقال: قد كلمته كلاما فيصير مصدرا.
قال صاحب الكشاف: قرأ الحسن حوبا، وقرئ: حابا. اهـ.

.قال الألوسي:

{إنَّهُ} أي الأكل المفهوم من النهي، وقيل: الضمير للتبدل، وقيل: لهما وهو منزل منزلة اسم الإشارة في ذلك {كَانَ حُوبًا} أي إثمًا أو ظلمًا وكلاهما عن ابن عباس وهما متقاربان، وأخرج الطبراني أن رافع بن الأزرق سأله رضي الله تعالى عنه عن الحوب، فقال: هو الإثم بلغة الحبشة، فقال: فهل تعرف العرب ذلك؟ فقال: نعم أما سمعت قول الأعشى:
فإني وما كلفتموني من أمركم ** ليعلم من أمسى أعق وأحوبا

وخصه بعضهم بالذنب العظيم؛ وقرأ الحسن حوبًا بفتح الحاء وهو مصدر حاب يحوب حوبًا.
وقرئ حابًا وهو أيضًا مصدر كالقول والقال، وهو على القراءة المشهورة اسم لا مصدر خلافًا لبعضهم، وتنوينه للتعظيم أي حوبًا عظيمًا، ووصف بقوله تعالى: {حُوبًا كَبِيرًا} للمبالغة في تهويل أمر المنهي عنه كأنه قيل: إنه من كبار الذنوب العظيمة لا من أفنائها. اهـ.